هنية الصبحية
يتناول الباحث المغربي وأستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بجامعة محمد الأول وجدة محمد شهيد في مقاله- المنشور بمجلة "التفاهم"- "في تجديد الفقه الإسلامي وأصوله: أهمية التنظير المقاصدي"، وقد تضمن تناوله التجديد في أصول الفقه وتجديد الفقه الإسلامي.
يشير الباحث أنَّ التجديد قضية مبحثية متجددة ومرتبطة بحياة الأمة ودينها فوجودها واستمراريتها مرتبط ارتباطا بها ومعها من أجل تجاوز التحديات والمعوقات التي قد تواجهه، بحيث يستطيع الإجابة عن التساؤلات المستجدة والمستمرة التي تطرحها الإنسانية؛ لأن الهدف من الدين إسعاد الأمة جمعاء ومن بينها الأمة الإسلامية بحيث تبحث عن مصالحها وتتخلص من الضرر غير المجدي وهذا ما يسعى إليه التنظير المقاصدي. ويعرف الاجتهاد بأنه استفراغ الجهد الواسع، وإبلاغ الجهد في تحصيل العلم أو الظن بالحكم، طلبًا لمقصد الشارع المتحد.
ويرى الشهيد أن أصول الفقه الإسلامي تمثل ملخصًا لكل ما أنتجه العقل المسلم؛ باعتبارها آلة تقوم بقراءة النص الشرعي قراءة تمكنه من الوصول إلى الأحكام الشرعية المناسبة لكل الأزمنة والأمكنة والشخوص؛ لتستطيع أن تحقق مبتغاها وتيسر لهم عبادة الله بتنزيل شريعته واقعا.
ويعد الشافعي أول المهتمين بتدوين وتصنيف أصول الفقه الإسلامي وفق منهج علمي وله مؤلف خاص يدعى الرسالة، ولم تقتصر المكتبة الإسلامية على رسالة الشافعي فقط وإنما زخرت بمجموعة من المؤلفات المختلفة والمتعددة بحسب مدارسها الفقهية ومذاهبها الكلامية والتي يُمكننا ذكرها في ثلاث مدارس كبرى وهي: طريقة المتكلمين وهي طريقة اعتمد عليها أهل علم الكلام والعقيدة ومن أهم روادها رسالة الشافعي والبرهان للجويني والمستصفى للغزالي والمحصول للرازي. وطريقة الفقهاء وتسمى طريقة الأحناف إذ تعتمد على تقعيد القواعد انطلاقا من الفروع، ومن أهم روادها مآخذ شرائع الإسلام للماتريدي وأصول الكرخي والفصول في الأصول للجصاص وأصول السرخسي. وأخيرا طريقة المتأخرين التي تجمع بين الطريقتين السابقتين ومن أهمها جمع الجوامع لتاج الدين السبكي والتحرير للكمال بن الهمام وموافقات الشاطبي.
ويوضح الباحث أنَّ التجديد في أصول الفقه انقسم أهل اختصاصه والمهتمون به إلى قسمين هما: قسم لا يقوم على التجديد وإعادة النظر في الأصول على أساس أن نموها قد اكتمل ونضج ولا يمكن الزيادة والنقصان فيه؛ وذلك بسبب الاحتراز الشديد من دخول الجهلاء فيه وبذلك يطيح بالمنهج الإسلامي. وقسم لا يخفي حماسه للتجديد الأصولي وإعادة النظر في بنية الأصول ومباحثها وطبعها بطابع التحديث ومواكبة العصر، لتستطيع أن تجيب عن التساؤلات التي يفرضها الواقع المُعاصر.
ويذكر الباحث أبرز أربعة تعاريف إلى التجديد في الأصول وهي: أنها التأسيس والتطوير بالزيادة والشرح والتفصيل لبعض المباحث والأبواب؛ لتصبح أكثر وضوحًا في العقول وهذا التزم به الشافعي والعلماء من بعده، وقد يعني التجديد بإعادة الترتيب وإعادة بناء أصول الفقه الإسلامي ترتيبا جديدا وتنقيته من النقاشات غير المجدية والتي لها علاقة بالمنطق أحياناً وببعض القضايا العقدية والكلامية التي لا تتناسب مع الواقع، وصياغتها وفق رؤية أخرى قد تكون مقاصد الشريعة الإسلامية والقواعد الكلية والمصالح الشرعية وهذا مثل ما جاء به الشاطبي، أما الشوكاني فاعتمد في التجديد على التوفيق بين الآراء المتضاربة التي عرفت عن الأصوليين السابقين ومحاولة التوفيق بينهم. أما رفاعة الطهطاوي وحسن الترابي فقد عُنيا بالتجديد من خلال إعادة البناء بطريقة عصرية موافقة للواقع وتستجيب للتطلعات.
كما يناقش الباحث أن هنالك مبررات دعت الحاجة إلى التجديد الأصولي بسبب تعدد وتنوع الدعوات وهي: عدم تفعيل الاجتهاد والتجديد لمدة زمنية طويلة ويمكننا القول توقفه وخاصة بتزامن تغيرات وتحولات مستمرة، وبذلك أصبح المجتمع بحاجة إلى تفنيد قضاياه المتجددة؛ التي لم تستطع أصول الفقه التقليدية استيعابها. وبذلك جاء الاجتهاد كفرض في الشريعة باعتباره حياة التشريع وضرورة متجددة في كل زمان ومكان؛ وذلك من أجل الحفاظ على تجدد واستمرارية وبقاء الشريعة الإسلامية، بالإضافة إلى تضخم المباحث في أصول الفقه التي تعتمد على استنباط الأحكام الشرعية من ألفاظ الشارع وقلة الاهتمام بحكمة الشريعة ومقاصدها. وعليه، يوضح الباحث أن تطور الفقه الإسلامي جاء بشكل معوج أي يجتهد المجتهد وفق ما فهمه من حكم ومقاصد ووفق المصلحة الشرعية أي وفق القياس الصوري ووفق ما يتطابق في القضية تطابقا صوريا كشبه شكلي أو اشتراك لفظي وبذلك يصبح القياس مقدماً على المصالح الشرعية المعتبرة ومقدماً على الكليات. ويؤكد الباحث ضرورة الإلحاح بشدة على توظيف مقاصد الشريعة الإسلامية؛ فالمقصد من تجديد أصول الفقه هو القول بالمقاصد وتوظيفها.
أما الفقه الإسلامي فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة التفصيلية وموضوعه ينصب على الفعل الذي يقوم به الإنسان فيما أمر به الله تعالى، ويستقي هذا الفقه مصدره في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة النبوية، حيث يقوم بالتوجيه والإرشاد من أجل بناء الأمة الإسلامية بناء سليما وبذلك تحقق القدوة والأسوة التي تلهم المسلمين لاستكمال طريق بنائها كما كان الصحابة يجتهدون فيرى الرسول اجتهادهم ويقبله إن كان موافقاً للشرع ويرفضه إن لم يوافقه، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم توسعت الأمة الإسلامية وشملت أجناسا وأعراقا مختلفة، مما فرض تحديات جديدة أمام الفقه الإسلامي وبذلك ازدادت مصادر أخرى للفقه الإسلامي غير الكتاب والسنة وهو الاجتهاد وبما كان يعرف بالرأي. ثم جاء دور التابعين واستمرت الفتوحات الإسلامية وزادت تحديات الفقه الإسلامي وازداد مصدر جديد للفقه الإسلامي غير القرآن والسنة النبوية واجتهاد الصحابة وبذلك أضيف اجتهاد التابعين، واتسعت دائرة الرأي والخلاف وظهرت مدرسة المدينة والكوفة، إلى أن جاءت مرحلة التدوين وظهور الأئمة المجتهدين وصحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد وفي هذه الفترة اتسعت قوة الاختلاف. وتعتبر هذه المرحلة مرحلة حيوية في الفقه الإسلامي؛ إلا أنَّ المرحلة التي لحقته عرفت بالجمود والتراجع الفقهي، وهنالك مجموعة من الأسباب التي أدت إلى تراجع الفقه الإسلامي، كقصور الهمم عن الاجتهاد والتركيز على الأقوال المذهبية، واقتصرت المرحلة على النقل، وتركزت المرحلة على القراءة لا على الاجتهاد، وهذا ما ترتب عليه ترك الاشتغال بعلوم الاجتهاد ومحاربة المجتهدين وشيوع المناظرات والجدالات والاختلافات التي تؤدي إلى انتشار النزاعات والفتن والاشتغال بالفرضيات والمسائل الغيبية والمستحيلة وكثرة الجهل وقلة العلم.
ويشير الباحث إلى أن هذا الجمود الفقهي المستمر إلى الآن؛ انعكس سلباً على حياة الإنسان فأثر عليه حضاريا وخلقيا واجتماعيا وبذلك لم ترتق الأمة الإسلامية بعد؛ فيوضح ضرورة تنقية الفقه الإسلامي من العديد من الآراء والأحكام التي تجاوزت حدود الشريعة. كما يذكر الباحث أن الفقه المعاصر يواجه العديد من التحديات التي أفرزتها مجموعة من الأسباب تحت عنوان الاستعمار والتغريب والاستشراق والحداثة.
ويؤكد الشهيد أن الاجتهاد حركة دائمة ومستمرة، والآراء الاجتهادية لا يمكن الإطلاق عليها صفة الثبات، حيث إن الثبات للنصوص القرآنية والنبوية، أما الاجتهاد فيساير الواقع المتغير حتى يحقق مقاصد الشريعة، وأن الفقه الإسلامي مهما اختلفت آراؤه، فإن الجميع متفق على مواجهة التحديات المعاصرة التي تواجه الأمة الإسلامية معتمدة على الثوابت مع مراعاة التغيرات التي زخرت بها الثقافة الإسلامية وبث روح الشريعة وتبنيها.
