طليطلة معقل الثورات

زهرة السعيدية

طليطلة، مدينة جميلة من مدن الأندلس، أسوارها عالية، وقلاعها حصينة، ومبانيها عتيقة مرصوفة ومبنية على طراز العمارة القوطية، يحيط بها نهر تاجة والمنحدرات الصخرية من كل جهة، مما أكسبها مناعة طبيعية كان لها أثر واضح على الأحداث التاريخية والسياسية التي مرت بها المدينة. إلا أن أهم ما يميز طليطلة هو أنها كانت معقل الثّوار والثورات في عصر الخلافة الأموية وملوك الطوائف، وهذا بالضبط ما تحدث عنه عصام السيد في مقاله المنشور في مجلة التفاهم بعنوان "طليطلة في العصر الإسلامي".

تحدث الكاتب في هذا المقال عن تاريخ طليطلة في فترتين، الأولى تبدأ مع الفتح الإسلامي وتنتهي مع نهاية الدولة الأموية (711م- 1031م) والثانية تبدأ وتنتهي في عصر ملوك الطوائف (1085-1031).

يبدأ تاريخ طليطلة الإسلامي مع دخول المسلمين إلى الأندلس أو ما يسمى عند المسلمين بالفتح الإسلامي، وتخليصها من الجيش القوطي بعد استقراره فيها هروباً من جيش طارق بن زياد في معركة شذونة، إلا أن جيوش المسلمين لم تمهل القوطيين فترة كافية حتى يستقروا ويتأهبوا للدفاع عن طليطلة وأنفسهم، حيث داهمتهم جيوش المسلمين مما حمل أهلها على الهروب ناجين بأموالهم وثرواتهم، فأصبحت طليطلة مذ ذاك مدينة من مدن الحضارة الإسلامية في الأندلس.

لعل أهم ما يميز تاريخ طليطلة هو أنها كانت معقل الثورات، حيث إنها لم تهجع طوال فترة حكم الولاة والخلافة الأموية، فبعد أن بدأ الصراع الطويل بين عبدالرحمن الداخل وحاكم الأندلس يوسف الفهري الذي فرَّ هارباً إلى طليطلة ومحتمياً بها حتى لقي حتفه، بدأت ملامح الطابع الثوري لهذه المدينة تتبدى وأصبحت منذ ذلك الوقت أرض مقاومة السلطة الحاكمة. بعد أن قُتل يوسف الفهري على أيدي رجال عبد الرحمن الداخل بفترة تجددت ثورة الفهريين في طليطلة ضده بقيادة أبي الأسود محمد بن يوسف الفهري، وبعده هشام بن عروة الفهري الذي طالت ثورته بسبب حصانة طليطلة التي يلفها النهر والجبال، فاستخدم الداخل المنجنيق وأنهى الثورة بقتل هشام ومَواليه. وحدثت بعدها ثورات أخرى في عهد الداخل كان آخرها ثورة القاسم.

بعد وفاة الداخل وتولي ولي عهده هشام بن عبدالرحمن ولاية الأندلس ثار عليه أخواه واتخذا طليطلة معقلاً لثورتهما، إلا أنَّ الأمير أخمدها وأخضع أهالي طليطلة لأمره بعد أن أدركوا حماقة احتضان ثوار العائلة المالكة. لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، حيث إن أهالي طليطلة، وعلى طبعهم الدائم، ثاروا مُجدداً في عهد الحكم بن هشام فقمعهم الأخير بالعنف والقسوة مما أدى إلى مقتل العديد منهم، فهدأت بعدها طليطلة حتى نهاية عهد الحكم.

هدأت طليطلة قليلاً بعد حكم عبدالرحمن بن الحكم لمدة أربع سنوات إلا أنها حينما وجدت اللين من جانب الأمير ثارت مجدداً فتوجه إليها بنفسه حتى يخمدها، فحاصرها حتى هدأ التمرد. لكن تلك الثورة الصغيرة مهدت الطريق لثورة أخرى قادها هاشم الضرّاب، وهو ممن أخذهم الحكم بن هشام معه إلى قرطبة. قُتل الضّراب في صراعه مع الجيش الذي أرسله الأمير عبدالرحمن لإخماد الثورة الثانية. حدثت بعدها ثورة ثالثة ورابعة؛ وفي هذه الثورة الرابعة ثار أهالي طليطلة على الجيش الذي تُرك ليحرس طليطلة بقيادة ميسرة المشهور بفتى أبي أيوب استضعافاً منهم للقائد وجيشه. في هذه الحادثة خرج جيش طليطلة لمُلاقاة جيش ميسرة، لكن عندما علم الأخير بما يضمره أهالي طليطلة أقام لهم الكمائن على جانبي الطريق، وحينما وصل جيش طليطلة إلى أمام القلعة التي يقيم فيها ميسرة، هاجمهم الجنود ونحروا رقابهم، ثم أخذوا رؤوس القتلى وحملوها إلى ميسرة الذي أصابه جراء هذه الحادثة هم وغم أدى إلى وفاته بعد أيامٍ قلائل.

هدأت طليطلة قليلاً في عهد عبدالرحمن بن الحكم بسبب فرضه عليها حصارا طويلاً، وكذلك لعدم توليته عليها حاكماً يهتم بشؤونها، لكنها، وعلى ديدنها، عادت لتثور مجدداً حينما توفي الأمير عبدالرحمن وتولى ابنه محمد الحُكم، فأسروا حاكم طليطلة ابن بزيغ وطلبوا مقايضته بالرهائن المحتجزين في قرطبة منذ عهد الأمير السابق. قبل الأمير محمد بمطالبهم مبدئياً، لكنه سيّر إليهم جيوشاً بقيادة ابنه المنذر في عام 856 فحاصر المدينة وأفسد ما يحيط بها من مناطق زراعية ورعوية، غير أنَّ أهالي طليطلة استمروا في ثورتهم حتى عام 873، حيث طلبوا من الأمير محمد حينها أن يعطيهم الأمان، فأعطاهم ما أرادوا في مقابل رهائن ودفع ضرائب العشور سنوياً، وذلك لأنه أدرك أنَّ قوة طليطلة الاقتصادية هي واحدة من دعائم قيام ثوراتها، فأراد بذلك أن يكبح قواهم. طلب أهالي طليطلة من الأمير في تلك الفترة أن يختاروا بأنفسهم حاكماً يرونه مناسباً، فانقسموا جراء ذلك إلى فريقين، فريق انحاز إلى مطرف بن عبد الرحمن وفريق إلى طربيشة بن ماسويه، فرد عليهم الأمير بأنَّ قسّمهم إلى قسمين لكل قسمٍ حاكمه بغية أن يشغلهم بأنفسهم وخلافاتهم. وهذا ما حدث بالفعل حيث أن القسمين سرعان ما بدءا بالتنازع والتناحر.

حينما تولى عبدالرحمن الناصر الخلافة على الأندلس، انشغل بادئ الأمر عن طليطلة وأهاليها بسبب انكبابه على تثبيت حكمه والقضاء على الثورات القريبة من قرطبة. وأرسل حين فرغ مما يشغله وفداً إلى طليطلة يطالبهم بالطاعة، إلا أنهم رفضوا ظناً منهم أن الخليفة ما كان ليشغل باله بمحاربتهم، وقد كانوا مُخطئين، حيث ما أن علم الخليفة بتمردهم حتى أعد الجيش ليضم طليطلة إلى ملكه بالقوة.

بعد حصار وصراع طويل مع الخليفة عبدالرحمن الناصر ضعفت طليطلة وفرَّ منها الضعفاء أولاً والأقوياء لاحقاً في ما عدا قلة قليلة. طلب من بقي من أهالي المدينة الثائرة الصلح مع الخليفة وفق شروط من بينها الحرية على الوظائف، والإعفاء من النوائب، واختيار حاكمهم بأنفسهم، فوافق الخليفة على شروطهم ودخلها فاتحاً. أطاع الطليطليون الخليفة وأوامره منذ تلك الحادثة، فهدأت المدينة أخيراً حتى سقوط الدولة الأموية بالأندلس.

مع سقوط الدولة الأموية وبداية فترة حكم ملوك الطوائف في الأندلس استمرت طليطلة في هدوئها واستقرارها، فانطوت على نفسها ولم تؤيد ملكاً على آخر، وإنما انشغلت بإقامة حكومة مستقلة لتهتم بشؤون المدينة وتدبير سياستها الداخلية. بدأت الحياة في طليطلة منذ ذلك الحين تسير بشكل طبيعي، ولم تتأثر لا اجتماعياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً بما يحدث خارج أسوارها.

عُرفت طليطلة قبل دخول المسلمين إلى الأندلس بالمدينة الملكية لأنها كانت مقر سياسة القوط الذين اتخذوها مركزاً لتجمع جيوشهم ومنطلقاً لغزو أعدائهم وذلك لمناعتها الطبيعية، وتوسطها مدن الأندلس. ربما لو اتخذ المسلمون منها عاصمةً لهم في بداية الفتح الإسلامي لما حدث فيها كل ذلك التمرد، ولوفرت القوة الحاكمة على نفسها وقتا وعناء كبح الثورات، ومن يعلم، لربما حافظ المسلمون على الأندلس موطناً لهم إلى الأبد.

أخبار ذات صلة