المساواة في النوع الاجتماعي

وليد العبري

مُفارقة كبيرة تعيشها المرأة العربية اليوم، بين ما يسود عنها من تصورات لاسيما في الغرب، هي أقرب إلى ما ورد في بعض المدونات التراثية؛ مثل: "ألف ليلة وليلة"، من أنها امرأة شرقية جميلة متبرجة ثرية مثيرة خادمة مطيعة للرجل مصدر متعته التي لا تنضب، وبين واقعها الذي تعيش؛ فهي العاملة بالمنزل وخارجه، الكادحة إلى حد الشقاء، الفقيرة الرثة، المحرومة من الحقوق بما في ذلك الممنوحة من الشرائع والقوانين، المضطهدة من الرجل والمجتمع، المتعرضة للعنف بأشكاله المختلفة المادية والمعنوية والنفسية والجنسية، المؤتمنة على تربية الأبناء والسهر على تلبية حاجاتهم.

وهذا ما ناقشه الباحث الدكتور سالم لبيض أستاذ علم الاجتماع في المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس؛ إذ يضيف أنَّه في ظل ذلك الوضع الذي تعيشه المرأة العربية تبرز فكرة النوع وكأنها أيديولوجيا الإنقاذ. أسهب الدكتور سالم لبيض في تعريف الجنس، والفرق بينه وبين النكاح، وبين المرأة والرجل في اللغة العربية إسهابا كبيرا، لن نتحدث عنه في مقالنا هذا، ولكن سنذكر خلاصة ما توصل إليه.

ويُؤكد لبيض أنه تساوى معنى الأنوثة مع الليونة والسهولة إلى درجة الربط في الاشتقاق بين أصل المصطلح والطعام، وسهولة استهلاكه بالنسبة للأنثى عموما، والمرأة على وجه الخصوص، وتساوى معنى الذكورة مع القوة والشدة والبأس، وبالتالي مع الرجولة. وهي معانٍ لا شك أن لها أثرا كبيرا على الحقل الدلالي لتلك المصطلحات؛ نظرا إلى أنها وليدة إنتاج ثقافي أفرزه المجتمع الذي نشأت فيه.

لقد نشأ مفهوم النوع في أوروبا المعاصرة، إلا أن ظهوره جاء متأخرا؛ إذ استخدم من طرف الحركة النسوية في المملكة المتحدة في القرن العشرين. إنَّ ظهور المفهوم متأخرا قد ساعد على مراكمة إرث من السلوكيات والأفكار التي ترتكز على التمييز ضد المرأة، وعلى تفوق الرجل في المجتمعات الغربية.

أما السؤال المركزي الذي ميّز فكر الأنوار الأوروبية، فهو: هل أن النساء أدنى "أقل درجة" من الرجال نتيجة لعوامل طبيعية، أو بسبب ما تتلقينه من تربية؟ وهو سؤال يحتوي ضمنيا إقرارا بدونية المرأة مقارنة بالرجل. هذه الدونية التي جسدتها الثورة الفرنسية عام 1789، عندما لم تمنح حقوقا سياسية للمرأة، وآثرت التعامل مع إنسان مجرد دون تخصيص المرأة.

ولعلَّ هذه الدونية ستبرز أكثر بوضوح في "القانون المدني" الفرنسي، الذي صدر في عهد نابليون عام 1804، الذي وضع النساء تحت الوصاية المطلقة للرجال. فالمرأة طبقا لهذا القانون تنتقل من وصية والدها، إلى وصية زوجها؛ فهي في حاجة إلى ترخيص مسبق من أحدهما حتى تمارس مهنة معينة وتدير ثروة تملكها. إن تلك المواقف تجاه المرأة استندت إلى إرث كبير وعميق عرفته المجتمعات الغربية، أعطى شرعية لتلك الدونية، ومن ثمة اضطهادها.

إنَّ ذلك الموروث الطويل من الدونية النسوية، لم يقتصر على عصور الظلام الأوروبي، وإنما شمل فترات الأنوار، والكثير من روادها قد جعل الحقوق النسوية والمطالبة بها تتأخر، بل تنعدم أحيانا في كثير من المجتمعات الأوربية، بتأثير من الثقافة الذكورية المحافظة المتأثرة بذلك الموروث الطويل، الناتج عن السيطرة الذهنية الدينية المسيحية واليهودية، وعن هيمنة فكرة التمييز، التي شكلت الخلفية القوية للحملات الاستعمارية، ولكنها كانت شديدة الخصوبة داخل المجتمعات الأوروبية نفسها تجاه المرأة.

ولم تبدأ تلك الفكرة في التراجع، إلا مع مطلع الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي العام 1946، تشكلت داخل حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، لجنة معاينة أوضاع النساء، هدفها معالجة المشكلات الخصوصية للمرأة، من أجل وضع مبادئ المساواة مع الرجل.

وقد حددت هذه اللجنة أربعة مجالات تشتغل فيها عقلية التمييز في العالم الغربي "الحر"، على النحو التالي:

- الحقوق السياسية وإمكانية ممارستها من طرف المرأة.

- التساوي أمام القوانين كأفراد وأعضاء في العائلة.

- حق النساء والفتيات في التعليم والتكوين التقني.

- حق النساء في العمل.

وقد تمَّت الاستجابة لتلك المطالب، وتعتبر سنة 1975 سنة المرأة بامتياز، فهي السنة المعلنة "السنة الدولية للمرأة". إنَّ حصيلة الدراسات المعتمدة في تقييم وضع المرأة عالميا "18 دولة"، قد انتهت إلى أن ذلك الوضع لا يزال غير سوي.

لا شك أن تطوُّر حقوق النساء في العالم الغربي في أوروبا وأمريكيا الشمالية، وكذلك في مختلف بلدان العالم كل على حده يختلف من بلد إلى بلد، ومن مجتمع إلى آخر، وأن سلم القياس يختلف بين تلك المجتمعات والبلدان بحسب تأثير الحريات، التي تحققت وبحسب التطور الذي شهده ذلك المجتمع، وبحسب المشاركة ودور الحركات النسوية في كل ذلك. إلا أن القاسم المشترك هو ما قمنا باستعراضه والذي اعتبرناه بمثابة الإرهاصات، التي مهدت لبروز فكرة النوع، وهي فكرة جديدة موطنها المجتمعات الغربية.

كما تحدث الدكتور سالم لبيض عن الفرق بين الجنس والنوع، هو كون الأول معطى طبيعيا، وهو تعبير عن وضع بيولوجي، فإما أن يكون الإنسان ذكرا أو أن يكون أنثى، وهي خصائص لا يتميز بها الجنس البشري، وإنما تشترك معه فيها كثير من الكائنات الأخرى.

أما الثاني، فهو خصائص البشر وحدهم؛ وذلك بسبب الأدوار التي يتقمَّصها كل جنس على حدة. إن المعنى الاجتماعي متأتٍّ من التنشئة الاجتماعية قديما وحديثا؛ حيث تختلف الأدوار بحسب ما يمنحه المجتمع لكل جنس وبالتالي النوع. فما هي الأسباب التي جعلت فكرة النوع الاجتماعي تبرز متأخرة "بداية السبعينيات من القرن العشرين" كآلية في التحليل والفهم ودراسة واقع المرأة؟

هنا... تبرُز مقولة إدماج النوع الاجتماعي، والإدماج في نهاية الأمر هو نوع من المطالبة بالمساواة بين الجنسين. إن مقولة النوع تأتي ضمن البراديقمات النسوية الجديدة، التي تهدف لإعطاء حظوظ أكبر للمرأة، والعمل على النهوض بها، نظرا للإرث الطويل من الدونية الذي أنتجته المجتمعات البطريركية ذات الطبيعة الذكورية.

وذلك على الرغم مما يُشاع في فلسفة النوع الاجتماعي عن أن هذه الفلسفة لا تستهدف مجرد المساواة بين الرجال والنساء؛ وإنما النهوض بالمجتمع برجاله ونسائه. لكن ذلك النهوض يقتضي ضرورة إعادة تشكيل المجتمع وثقافته، حتى يتيح تساوي الفرص أمام الجميع نساء كانوا أو رجالا، وبالتالي يمنحهم نفس الامتيازات.

لكن ذلك لن يكون مُمكِنا في مجتمع من المجتمعات، إلا إذا سلمنا بأن "الجنس" لا يشكل بأي حال من الأحوال بضاعة تباع وتشترى؛ وبالتالي امتيازا لمن يملكه، وله القدرة على استخدامه سواء أكان رجلا أم امرأة، فهل وصلت المجتمعات البشرية المعاصرة إلى تلك المرحلة، حتى نتحدث عن النوع الاجتماعي بدل الجنس الطبيعي؟

ختاما.. تُوجد صورة أنثوية يتم تسليعها وتسويقها، في إطار الانسجام بين الإعلام والسوق، من خلال وسائل الاتصال الجماهيري مثل التلفزيون والصحف والراديو والإنترنت. وللحد من الفجوة القائمة بين تلك المقولات التي أنتجتها "أيديولوجيا النوع"، التي ظهرت في المجتمعات الغربية وتعيش نهضتها منذ القرن السادس عشر، وعرفت التنوير والحداثة المنتجة لكافة القيم المادية والمعنوية، التي تهافت عليها مختلف المجتمعات اللاغربية، وما تعيشه هذه المجتمعات من قيم هي نتاج موروثها التاريخي، الذي مازال ينتج مقولات وأدوارا وتمثلات لم تعد تنسجم حتى مع عصرها الذي نشأت فيه ناهيك عن هذا العصر؛ لابد من إعادة النظر في وظيفة الإعلام في تعامله مع ثنائية الذكورة والأنوثة.

أخبار ذات صلة