عبدالله الشحي
في المقال الذي يحمل عنوان "مفهوم الخير في الفلسفة الحديثة" تتحدث الأستاذة أمل مبروك عبدالحليم عن مفهوم الأخلاق من وجهة نظر مجموعة من الفلاسفة، موضحة ماهية الخير لديهم والسبيل لتحقيقه. وقسمت الكاتبة مقالها إلى خمسة أجزاء أولها عن معنى (الخير) وأصول الكلمة، يليه جزء فيه لمحات تاريخية عن بدايات البحث الأخلاقي، ثم تتحدث عن الخير وأخلاق العقل وتعرج على أفكار فلاسفة مثل ديكارت، بعد ذلك تشرح العاطفة وعلاقتها بالأخلاق، وأخيرًا تناقش فكرة بناء الأخلاق على أساس نفعي.
يُمكن اعتبار مفهوم الأخلاق من أكثر المفاهيم التي تعرضت للتحليل والتنظير خلال مختلف العصور، سواء تمَّ ذلك عن طريق الفكر الفلسفي من بعد سقراط والمدارس التي نشأت تبعًا لذلك، أو تم عن طريق التشريعات المسلم بها على مستوى القبيلة والدين. وربما يكون من الواضح أن مبحث الأخلاق وماهية الأخلاق وما ينبع عنهما من أسئلة يمكن أن نحصر طريقة تناولها في واحد من اثنين، إما عن طريق القبيلة والدين وأخذ الأخلاق كمسلمات جاهزة ينبغي اتباعها حرفيا، وهذا حصل قديما مع الحضارات القديمة كشريعة حمورابي أو في الحقب القريبة كأتباع المسيحية المنظرين للأخلاق من وجهة نظر الإنجيل. الطريق الآخر هو التفلسف لإثبات وتبرير الأخلاق على مختلف مدارسه ومذاهبه، ابتداء من سقراط ومرورا بمختلف الفلاسفة كأمثال كانط وديكارت وغيرهم.
ولنتناول أولا التنظير الديني للأخلاق، وتعني هذه الفكرة ببساطة أن الأخلاق يجب أن تستمد من دين ما، لأن الدين مصدره الله الحكيم وعليه فهو يقدم لنا ما هي الأفعال التي يمكن اعتبارها حسنة والأفعال السيئة ونحن ملزمون بالاتباع دون وجود ضرورة للتبرير العقلي لهذه الأخلاق، أخذا بعين الاعتبار أيضًا الرأي القائل بإمكان تبرير الأخلاق الدينية بشكل عقلي. علاوة على ذلك فإنَّ العقيدة الدينية تخلع على الأخلاق المعنى من حيث إن الفاعل للفعل الأخلاقي والإنسان الخير إنما له جزاء أخروي يجزى به نتيجة لهذا الفعل.
ولا إشكال في أن نفترض أن من أبرز من تحدثوا في هذا الجانب هو القديس توما الأكويني حيث اشترط شرطين رئيسين لاعتبار الفعل عملا حسنا وخيرا، فهو يطلب منِّا أولا أن نستحضر الرغبة أو النية الحسنة عند إتيان فعل ما، وأن نضع في اعتبارنا البحث عن الحق وتحقيقه، فوجود هذين الشرطين ضرورة، ونظرًا لانطباق معنى الشرطين على الله فالله هو الحق وهو أيضًا الخير، فيكون فاعل الخير بذلك إنما يسعى لله!! وهو بذلك يدعو إلى نفس ما دعا إليه بوذا من ضرورة تمكين الشفقة والتعاطف من الفعل ودفع ذلك بالرغبة الخيرة حتى يكون العمل ضمن إطار الأخلاق الفاضلة.
ربما طرحت الكاتبة فكرة توما لأكويني من قبيل المقارنة بين الآراء دون تفصيل طويل عندها، لكن هناك ملاحظتين أعتبرهما مهمتين يجدر بنا الوقوف عندهما، الأولى هي أن القديس توما وحسب ما قلنا لم يبرر الأخلاق بشكل ديني بحت إنما جعل لها حدودا يمكن للإنسان حتى خارج دين ما أن يفرق بين الخلق الجيد والسيئ، والملاحظة الأخرى وهي تابعة للأولى فأي دين يُعطي مفاهيم مطلقة للأخلاق إنما قد يتعارض مع قيم العصر المتغيرة، وهناك أمثلة لذلك خصوصا عندما يتصدر الواجهة الدينية أناس لا يقبلون الآراء الجديدة.
نعود لاستعراض بعض النماذج لمعنى الأخلاق ولنأخذ سقراط هذه المرة حيث يعتبر تاريخيا من أول الفلاسفة المنظرين للأخلاق، وقد أسس مفهومه للأخلاق والخير باعتبار معرفة النفس فهو يرى أن فعل الخير والسير على الطريق القويم يمكن أن يتم تحصيله بعد معرفة النفس وفهم ما هي الأشياء الخيرة لها، أي عندما يعرف الإنسان ذاته فإنه سيعرف كيف يحقق لها الخير وسيسير على هذا الطريق. لفهم وجهة نظر سقراط تمامًا يتطلب الأمر استعراض الأساسيات التي بنى عليها فلسفته وذلك غير ممكن في هذا المقال، لكنه فتح الباب واسعاً أمام أفلاطون ومن ثم أرسطو وبقية المدارس الفلسفية التي ما انفكت تعطي مختلف التفسيرات والتبريرات لأشكال مختلفة من الأعمال وكيفية تمييز الأعمال الخيرة بينها.
لكن الحقبة الحديثة بكل ما جاءت به من تغييرات أسست لما يُسمى بالفلسفة الحديثة، والتي كان من روادها ديكارت وهيجل وكانط. مع أن ديكارت ركز على المباحث الميتافيزيائية، يكون لذلك من الجدير بالذكر أن البعض قد انتقده في أن فلسفته قد خلت من التطرق إلى الأخلاق، فيرونها ناقصة ومعيبة، بيد أنه جاء على ذكر قضايا متنوعة تطرق فيها للأخلاق بشكل ضمني، فديكارت اهتم كثيرًا بالمنهج، فالإنسان الذي يتبع منهجا سليما في استعمال العقل سيتحقق معه الخير على كل الأصعدة بما فيها الأخلاق، فهو لم يعطِ بالضرورة منظومة لما هو جيد أو سيئ بقدر ما أعطى منهجا متكاملا يوجه فكر الإنسان ليثمر تبعاً لذلك ثمارا طيبة.
بعد هذا الاستعراض السريع لوجهات نظر الفلاسفة في الأخلاق يحق لنا أن نتساءل كيف يمكن الإفادة من دراسة الآراء المختلفة للمنظومات الأخلاقية وكيف قد ننتفع من ذلك؟ أظن أولاً أنه يسهم في كوننا نصبح أقرب لفهم الاختلاف بين الشعوب والتباين في مواقفهم من الأفعال والتصرفات بين القبول والرفض، فقد يقبل شعب ما أمرا ويرفضه شعب آخر. النقطة الثانية تتعلق بصياغة القوانين، فالقوانين لا شك عليها مراعاة القيم العليا للمجتمع الذي تطبق وتشرع فيه، حتى لا تتعارض معها ومع الناس.
أما فيما يتعلق بالمجتمع ككل فالأفراد إن كانوا على دراية وفهم لآراء الفلاسفة وتفصيلهم في الأخلاق فإنَّ ذلك يسهم بشكل فعال في تمكين التعددية في المجتمع أو هذا ما أعتقده على الأقل، فهم سيتقبلون التنوع في تصرفات الأفراد وتبرير ذلك فلسفياً.
ختاماً فإنَّ كل الإسهامات الفلسفية وبالأخص فيما يتعلق بالأخلاق من بداية تاريخ الفلسفة حتى اليوم إنما هو جهد تراكمي من جهة وإسقاط لتجربة الفيلسوف الشخصية من جهة أخرى، فتلك الأفكار المختلفة وإن تنوعت وتباينت يبقى هناك رابط يربطها جميعاً ألا وهو تركيزهم جميعا على الخير والمصلحة سواء الفردية أو الجمعية. بالإضافة إلى أن الدراسات في مجال فلسفة الأخلاق من الممكن الإفادة العملية منها، وكذلك من المهم من وجهة نظري أن تركز دراسات مستقبلية على نقاط التشابه في أطروحات الفلاسفة نظرًا لإمكانية خلق نموذج أخلاقي شبه موحد أو محاولة التوحيد بين فلسفات متعددة كما فعل كانط.
