وليد العبري
في مقاله "التعليم وتأسيس منظومة القيم"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، يُشير الكاتب أحمد زايد إلى أن المنظومة التعليمية هي أحد المكونات الأساسية في المنظومة التربوية داخل المجتمع ككل، وهذه المنظومة تضم كلًّا من: الأسرة، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام. ومن جهة أخرى، يطلق على هذه المنظومة مصطلح نسق تكوين الالتزام، وهذا النسق التربوي مهمته الأساسية نقل التراث الثقافي إلى الأجيال الجديدة؛ بحيث تسهم في تقدم المستوى الثقافي والاجتماعي للمواطنين، ويصبح المواطنون حينها قادرين على جعل الأدوار المنوطة بهم مرتبطة بالدور الثقافي والالتزام الأخلاقي. وإضافة إلى ذلك، نجد أن المنظومة التعليمية (نسق التعليم) هي الجوهر العام في المنظومة التربوية، ولا ننسى أن دور الأسرة له قيمة كبيرة في تحقيق الغاية التربوية والتعليمية.
وقد أكد الكاتب أحمد زايد على أن المضمون والمحتوى الذي يشغل حيزا في المناهج التعليمية، يسهم بدوره في تقدم المسيرة التربوية لأي مجتمع. موضحا الدور الفعّال الذي تصحبه معها في دفع عجلة التطور الثقافي والاجتماعي، لما يحققه من غايات مرضية، وتشكيل القيم الأساسية لأي مجتمع كان!
وعِوضا عن ذلك، نجد أن إبراز العلاقة بين أهداف التعليم، وبين تكوين القيم الأخلاقية أمر مهم؛ حيث التعليم يسهم في ظهور وإبراز القيم الأخلاقية، بشتى الطرق التي تجذب المتعلم بطريقة مشوقة، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على عمق الارتباط بين التعليم والقيم الاجتماعية. ومن مدلول آخر، نجد أن جميع المؤسسات التعليمية كالكليات والجامعات تسعى لتطوير آليات تقديم القيم الأخلاقية للطلاب، حتى يتمكنوا من غرسها في أنفسهم أولا، ومجتمهم ثانيا.
وباعتبار أن القيم هي منظومة عامة، فلا بد من التمييز بين التعليم قبل الجامعي والتعليم الجامعي، ومن منظور آخر، إن النمو البيولوجي يصاحبه النمو الأخلاقي، وهناك نوع من القيم تغرس في الإنسان عندما يتعدى سن معين. جميعها قيم بالفعل، لكن لابد من مراعاتها ومعرفة الطريقة التي يتلقاها، ولا نستطيع الجزم بأنَّ هناك قيما مختصة بمرحلة تعليمية معينة.
وقد التزم الكاتب أحمد زايد بالحديث عن التعليم وتأسيس منظومة القيم على نحو عام، مع الإشارة إلى الخصوصية التربوية:
أولا: التعليم والالتزام الأخلاقي
هناك مفهومان أساسيان؛ هما: القيم الأخلاقية؛ وهي مجموعة من الضوابط التي يتم من خلالها التمييز بين الخطأ والصواب، والسلوك الجيد وغير الجيد، وتنتشر في مجالات الحياة العامة والخاصة والحياة المهنية كذلك. المفهوم الآخر هو الالتزام الأخلاقي، ويُعرف بأنه الارتباط بمجموعة من المبادئ والقيم الأخلاقية في أداء السلوك والقدرة على تحقيق مبدأ التكامل أو التوازن الأخلاقي، إضافة لوجود التوازن بين السلوك الفعلي، وما يبديه الفرد من مبادئ أخلاقية. ومن منظور آخر، نجد أن الباحثين اقترحوا مقاييس لقياس التكامل أو ما يسمى بالتوازن الأخلاقي؛ من خلال القدرة على التمييز بين السلوك الصائب أو الخاطئ، والقدرة على التأمل الذاتي والتقييم الذاتي. ويعد الالتزام الأخلاقي أساسا لرقي أي أمة أو مجتمع؛ حيث إن رقي الأمة لا يقاس بالرصيد المادي، وإنما يقاس بالرصيد الأخلاقي؛ حيث يبقى الحق حقا والباطل باطلا! وإن أسوأ ما يصيب الأمة، أو أي مجتمع هو حدوث الخلل في الجانب الأخلاقي وهذا كفيل بحد ذاته في تدمير المجتمع والعالم بأكمله.
وأوضح الكاتب دور المسلمين وكبار الأئمة في ترسيخ المبدأ الأخلاقي وحفظ حياة الإنسان: حفظ دينه، ونفسه، وماله، ونسله، وعقله. والأصل في علم المقاصد هو البحث عن مصلحة الأمة والبعد عن كل ما يفسدها، والمجتمعات تعتمد على العمل الذي يرتبط بالواجب الأخلاقي، ومراعاة مصالح المجتمع، ويمكننا القول -بناء على ذلك- بأنه كلما زاد التكامل والتوازن الأخلاقي، ازداد الارتباط بالواجب الأخلاقي، وهذا بدوره يدفع بالمجتمع إلى الإنجاز والتقدم.
هناك أمثلة تؤكد أهمية التعليم في التكوين الاجتماعي والأخلاقي للأفراد، ومن ثم الإسهام في منظومة الالتزام:
أولا: ابن خلدون صرح بأن التعليم صنعة مستقلة يقوم على أسس، وله دور في تدبير الحياة والمعاش والعمران، ويهدف التعليم عنده إلى "حشو الأذهان" التي تجعل الإنسان قادرا على المناظرة والتفاوض. ولابد للتعليم أن يقترن بالحرية في طلب المعرفة، وقد أكد ابن خلدون على ضرورة مراجعة المفاهيم التي تستبعد الأخلاق السيئة، كالكذب والخبث والتظاهر بغير ما في الضمائر، وقال مقالته الرائعة: "إذا صلح التعليم صلحت الأخلاق، وتبلور الأساس الأخلاقي للتمدن والاجتماع الإنساني".
ثانيا: جان جاك روسو وهو صاحب إسهام في التربية التي تهدف لتكوين المواطن الأخلاقية أو المواطن الصالحة؛ فالتربية تهدف لإحلال الذات الجماعية محل الذات الفردية، وحينها يصبح الفرد قادرا على حمل المصلحة الجماعية للمجتمع، والعمل من أجل تحقيقها، وتلك الغاية الكبرى للقيم الأخلاقية والالتزام الأخلاقي.
ثالثا: رفاعة رافع الطهطاوي أكد أن مفهوم المواطنة قيمة أخلاقية، ولابد للمواطن من التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه فيما يخص شرف الوطن.
ولقد استشعر علماء التربية في العصر الحديث ميلا كبيرا في التخلي عن القيم، وأن الحياة المدنية تبدو مهددة باضمحلال أخلاقي. ومن هنا، شدد العلماء في جعل التعليم ركيزة أساسية لظهور وتكوين القيم الأخلاقية ومن ثم القدرة على التواصل المدني في المجتمع الحديث.
ولقد أدى اهتمام علماء التربية إلى خلق فلسفة جديدة للتعليم تهدف لتعميق القيم الأخلاقية من خلال التعليم الجامعي أو غير الجامعي، ولقد تعددت مسميات التعليم منها التعليم البديل، والتعليم العولمي، والتعليم الديمقراطي، والتعليم المنزلي، والتعليم المدني، والتعليم الموجه بالقيم.
ومن منطلق آخر، نجد أن التعليم يأتي على ثلاثة أنماط؛ منها:
التعليم الموجه بالقيم: يميل التعليم الموجه بالقيم إلى التركيز على تكوين المناهج الدراسية في ضوء توجه قيمي أخلاقي، وتكوين المدرسين تكوينا قيميا وأخلاقيا، وتطوير أساليب تدريسية توجه الطلاب إلى قيم روحية وعملية، كحث الطلاب على الإبداع الأدبي والفني وتنمية التعاون والتفاعل بين التلاميذ.
التعليم من أجل المواطنة: هذا النوع يمكِّن الطلاب من فهم مجتمعهم ووظائفه السياسية والشعور بالمسؤولية تجاه النفس والآخرين والمجتمع.
التعليم المدني: هذا النوع يزود المتعلم بالثقافة المدنية والتعامل مع الأفراد، ببعض القيم كالتسامح والتعاون.
القيم الأخلاقية في المنظومة التعليمية: التعليم يهدف لغرس القيم الأخلاقية، وجعل الفرد قادرا على العمل في مجتمعه بصورة إيجابية، وهناك بعض القيم.. نستعرض منها:
- الجدارة: التعليم يسهم في دفع الفرد إلى تأمين الاستقرار والإنجاز والإنتاجية.
- الإنجاز: إذا كان التعليم يغرس في الفرد قيمة الجدارة، فإنه أيضا يغرس قيمة الإنجاز والإنتاجية.
- التبادلية والاحترام: التعليم يساعد الفرد في التخلي عن الأنانية فيخلق الفرد لنفسه فرصة كافية للتأمل ومشاركه الآخرين وإبداء الرأي مهما اختلفت الأفكار والأساليب.
وأخيرا.. يمكننا القول إنه إذا تم التركيز على القيم الأخلاقية في التنشئة العلمية، فإنها تمكّن من تجاوز العلاقات المنحرفة التي تقوم على القهر، والاستذلال أو الخضوع الأعمى. فمثل هذه العلاقات المنحرفة قد تغرس في الطلاب نزوعاً نحو الاغتراب ورفض المجتمع، وتكوين طموحات غير أخلاقية، (تصبح غاية الطموح أن يمتلك الإنسان أداة قهر). وفي ضوء ذلك يمكن القول: إنه كلما نمت العلاقة التنويرية بين الأساتذة وطلابهم، أصبح الأساتذة قادرين على أن يسهموا إسهاما خلاقا في تكوين طلابهم تكويناً صحيحاً.