إسلام السيف والتجديف على التاريخ

بسام الكلباني

تكثر التساؤلات في الدراسات الغربية حول العوامل الخفية وراء سرعة انتشار الإسلام إبَّان عهده الأول، دون توفّر إجابة شافية لذلك التساؤل، وهو ما يشي بعدم إقناع التعليلات المعروضة، ومن جهة أخرى لا يمكن إخفاء أنَّ معظم تلك التعليلات ترجّح كون أنَّ الإسلام هو تاريخ السيف، وتلك خلاصة هي أقرب إلى الظنَّ منها إلى اليقين.

يذكر الكاتب التونسي عز الدين عناية في مقالته بمجلة التفاهم والمعنونة بـ "الإسلام في الديانات الإبراهيمية بين التعارف القرآني والتجربة التاريخية" أنَّ تلك الخلاصة – التي طالما وجدت رواجاً بين رجالات الكنيسة وجحافل المستشرقين – يصعب أن تفسر الاكتساح الواسع الذي شهده الإسلام، إذ يبدو التفسير التاريخي الاجتماعي الأقدر على الإجابة على ذلك التساؤل بعد تبيّن محدودية "تفسيرات الغزو".

أسهم توفّر مسلكيّات اجتماعية غير معهودة، قطعت مع معتاد العلاقة بين الغالب والمغلوب في تسيير ذلك التمدّد الحثيث للإسلام؛ حيث أتاحت المسلكيات المستجدّة حقَّ التواجد لأهل الكتاب من يهود ونصارى، ثم في مرحلة لاحقة امتدّت التجربة لتشمل شبه الكتابي من صابئة ومجوس، لتغطّي أمصارا عدّة عرفت التمازج الديني حينها. ويذهب برنار لويس في تعليل ذلك النجاح الذي حالف المسلمين في بداية تاريخهم في كتابه: "اليهود في العالم الإسلامي" إلى أنه عائد إلى الولاة العرب المسلمين ممن تولّوا مقاليد الدولة الوليدة ولم يكرّروا أخطاء سابقيهم؛ بل على خلافهم سعوا إلى مراعاة مبدأ التعددية.

فقد جاء في مبدأ التعارف الذي أقرّه الإسلام من ضمان الحرية والكرامة للأفراد والجماعات غير المسلمة ما فاق فيه غيره من الأديان، لذلك مثّل خروج كثيرين من أتباع الكنائس الشرقية من السيطرة المسيحية إلى كنف الحكم الإسلامي تحوّلاً من الضيق إلى السعة في أوضاعهم، ارتفع معه سقف الحرية الدينية، بما لم يشهدوا له مثيلاً في سابق عهدهم، ففي بداية الفتح الإسلامي، حين أعطى عمرو بن العاص الأمان للأنبا بنيامين وولاه أمر كنائس مصر، بعد رفع التهديد البيزنطي عنه، شهد التعايش المسيحي الإسلامي مستوى متقدّماً من التقارب، ولهذا لا يمكن الحديث عن مواجهة كبرى بين المسلمين والمسيحيين العرب مثيلة لمواجهتهم مع قريش ومع اليهود، كما أنَّ المصادر لا تذكر إطلاقاً أن يكون المسيحيون العرب بادروا بالهجوم على المسلمين في أي موقع من المواقع، عدا ما ذكر من اشتراك المسيحيين العرب بجنوب الشام في الإعداد لحملة الروم على المسلمين قبيل تبوك، وهي حملة لم تقع.

ولعل بقاء العديد من الملل داخل العالم العربي حتى تاريخنا الحاضر هو جراء سريان ذلك المبدأ الاجتماعي، والشيء اللافت في الموقف القرآني أنّه – رغم إقراره بما عليه الآخر من زيغ وانحراف وفساد، وإخفاء وتعطيل للأحكام، وإلباس للحق بالباطل، وما شابهها من الانتقادات – سمح بتواجده داخل الفضاء الاجتماعي، وإن جاء على درجات ومراتب الأمر الذي لم تتلاش معه تلك الجماعات ولم تندثر، بل شهدت تطورات في المجالين الديني والدنيوي، فمن دون التبادل الثقافي مع الإسلام ما كان لليهودية أن تنتج كثيراً من العلماء والأطباء والموظفين، ولا المسؤولين الإداريين والمكلّفين على الخزينة، بل مع تراجع الإسلام – في القرن الثاني عشر – شهدت القوة الخلاقة لليهودية خفوتاً أيضاً.

في العصر الوسيط، حين اشتدت سطوة الكنيسة، وجد الانغلاق اللاهوتي في المسيحية سنداً وحافزاً كبيرين في توما الأكويني، الذي ذهب – في سياق حديثه عن اليهود – إلى مشروعية سلبهم مقدرات عيشهم، بما أنّهم خدم المجتمع المسيحي، معتبراً أنَّ الكنيسة لا تقترف جرماً بالاستحواذ على أمتعتهم وثرواتهم، وعلى خلاف هذا الانغلاق اللاهوتي في المسيحية، يذهب اللاهوتي هانس كونج إلى " توفر تراتيب في ظل الحكم الإسلامي، ضمنت حقوق الأفراد والجماعات رغم مختلف الضوابط والقواعد التشريعية العامة، قابلها في الدولة البيزنطية – ومنذ أفول نظام التشريع الروماني – تشريع مناهض بشكل واضح لليهود".

يقول برنار لويس في معرض تعليقه على الضوابط الإسلامية التي أعدها عمر بن عبد العزيز في أهل الكتاب والتي كانت مجحفة ومهينة كنهيهم عن ركوب الخيل، وإرساء ضوابط على أزيائهم، وعدم السماح بأن تشيّد مساكنهم بما يعلو فوق مساكن المسلمين ولا دور عبادتهم أيضاً: "مجمل تلك القيود ذو طابع اجتماعي ورمزي لا غير، وليس له طابع علمي نافذ، الشيء الوحيد الذي كان يرهق الذمي هو الإلزام المالي؛ حيث كان ملزماً بدفع ضريبة أعلى، وهو نظام تمييز توارثته الدولة الإسلامية عن إمبراطوريات سابقة على غرار فارس وبيزنطة".

بشكلٍ عام، ثمة موقف شائع في الغرب عن الفتوحات الإسلامية أنّها غزو بالسيف لا غير، وأنَّ أسلمة شعوب المغرب والمشرق تمت غصباً وقهراً، في حين تلك القراءة تعوزها الدعامات التاريخية، فلو تفحصنا صفحات التاريخ الإسلامي من ناحية براغماتية لتبيّن أنَّ الجزية كانت أكثر نفعاً للدين الجديد من الاهتداء إليه، جراء ذلك الموقف المتجذر، غالباً ما تجد التجربة الإسلامية التاريخية في علاقتها بالأديان الأخرى – ولا سيما في علاقتها بالمسيحية -  انتقاداً من الغرب. والحقيقة أنَّ ذلك الانتقاد تعوزه الموضوعية إذا ما نظرنا للمسألة ضمن إطارها التاريخي؛ فالتجربة الإسلامية لا تضاهى - مقارنة بتجارب عصرها -  من حيث استنادها إلى أصول تشريعية، فهناك جانب في الإسلام متأصل في استيعاب الآخر، تعضده تجربة تاريخية وفقت في العديد من المناسبات وخابت في غيرها، فبعض الإلزامات الفقهية للآخر الديني ليست نابعة من جوهر الدين، بل تأتّت جراء إملاءات اجتماعية، فلم يلغ الفقيه حقَّ الآخر الديني في التواجد؛ بل عمل على تقليص هامش حريّته، ولذلك يندر أن تجد مدرسة فقهية إسلامية قد غمطت حق الآخر في التواجد، وإن تفاوتت الضغوطات عليه من فقيه إلى غيره.

لقد بات المسلك الذي سلكه الإسلام للمغاير الديني - عبر التعارف والاحتضان، والذي يمكن أن نطلق عليه "التعددية الدينية" في مقابل "التعددية الثقافية" المطلوبة اليوم – هدفاً محموداً ومنشوداً في الزمن الحالي، وفي حقيقة الأمر ثمة تقارب لافت بين مفهوم التعارف الإسلامي – الذي سميناه تجوزاً التعددية الدينية – ومفهوم التعددية الثقافية أو الحضارية؛ جراء اشتراكهما  في المقصد نفسه؛ إذ يهدف كلاهما إلى بناء وفاق اجتماعي منفتحٍ على الأفق الإنساني، خالٍ من الغلبة والتسلّط ويراعي الخصوصيّات.

في الختام، يمكن القول، إنّه بعد أن توجهت انتقادات عدة للمركزية الحضارية التي أدمنها الغرب الذي أخذته العزة طويلاً بسطوته وريادته؛ جرّاء تفوّقه المادي والمعنوي، بات مطلب تكريس التعددية الثقافية بين مكوّناته الدينية والعرقية والحضارية المتنوّعة هدفاً منشوداً. وهذه التجربة الداعية للتعدّد في الفضاء الغربي، والأوروبي بالتحديد- والتي لا تزال رهن الاختبار -  لم تنشأ في أحضان الدين المسيحي الغالب أو بدعمٍ منه، بل قامت أساساً كوضع حدٍّ للواحدية فيه ولاحتكار الفضاء الاجتماعي، وهو ما يجعل السياق مختلفاً اختلافاً بيّناً عن التجربة الإسلامية، فتلك الانتقادات المتوجهة إلى التجربة الإسلامية في خصوصيتها، أو المسقطة عليها جراء تجارب غيرها، ينبغي أن تكون حافزاً على استلهام دائم للأصول الإسلامية مع مراجعة دؤوبة للتجربة التاريخية.

أخبار ذات صلة