المكانة الضائعة لأصحاب المهن البحرية التاريخية

عبدالله الشحي

في مقالته المعنونة بـ" حرفيو البحر في تراث الغرب الإسلامي" يتحدث الأستاذ عبدالسلام الجعماطي عن بعض المهن الحرفية البحرية مؤكدا على أهميتها وتأثيرها، والتسميات المتعلقة بها، وبعض التحديات التي شكلت سببا في قلة عدد الدراسات المتعلقة بها. ثم يعدد بعضا من تلك المهن ويطرح الأسماء المختلفة لبعضها والواجبات المترتبة على العاملين بها، في نفس الوقت الذي يسوق فيه الشواهد التاريخية المدونة التي تدعم استنتاجه وتصوره.

لا ينفك الارتباط التاريخي للأمة العربية والإسلامية بجانبين بارزين، هما الجانب العسكري السياسي والجانب العقلي-فلسفيا وعلميا، فالجانب الأول الذي يبرز في توسع حدود الدولة الإسلامية والغزوات والحروب والفرسان والمحاربين الفاتحين ومن عاصرهم من السلاطين والخلافاء، ثم الجانب الثاني المتعلق بالعلماء والمخترعين من المسلمين أو الذين عاشوا تحت مظلة الحضارة العربية واختراعاتهم واكتشافاتهم بالإضافة أيضًا للفلاسفة المسلمين وكتبهم وتنظيرهم وقراءاتهم في آراء السابقين ومحاوراتهم مع المختلفين معهم. فنرى تواجدا وتركيزا كبيرين على هذين الجانبين في المدونات التاريخية أساسا، وحضورا كبيرا للكتابات حولهما والأبحاث المتعلقة بهما من الباحثين. ونتيجة لذلك يكاد يكون كل الحضور للشخصيات البارزة في هذه المجالات ووظائفها حصرا، بالرغم من وجود حرفيين ومهنيين كان لهم أعظم الإسهام وكبير الأثر في التاريخ الإسلامي، إلا أن ما دون بخصوصهم قليل نتج عنه انصراف الباحثين المعاصرين عموماً عن البحث حول تلك المهن.

فعند البحث مثلا فيما يتعلق بإنجازات الخليفة والقائد العسكري أو إنجازات الفيلسوف والعالم فإنّ من المرجح أن توجد العديد من النتائج لدراسات مختلفة تناولت أسماء فلاسفة وزعماء سياسيين وأبرز ما قاموا به وما حققوه، على النقيض من محاولة البحث عن دور أسماء حرفيين شغلوا وظائف- سنذكر بعضها لاحقًا- بالغة الأهمية طوال التاريخ. ولا ينطبق هذا الأمر على الدراسات التي قام بها المسلمون فحسب بل حتى المستشرقين أيضًا. ولا يقصد من المقال بالضرورة وضع مقارنة مباشرة بين وظائف مختلفة كوظيفة الفيلسوف مقابل وظيفة صاحب حرفة ما، إنما هي محاولة للفت النظر إلى فقر المحتوى المدون والمحتوى الواقع تحت البحث لمهن لعب أصحابها دورا غير قابل للنكران.

ولنأخذ بعض الأمثلة من المقال لبعض الحرف والمهن التي ذكرها الكاتب وشرح عنها بشيء من التفصيل والإفاضة، حيث قسم الكاتب العاملين في قطاع البحر إلى قسمين أساسيين، الأول هم الملاحون أو النواتية، والنوتي في معجم لسان العرب هو الملاح، وألحق الكاتب تحت هذا التصنيف عموما كل من يقوم بخدمة ما على ظهر السفينة أو الإعداد للرحلة، كالقبطان والرئيس والحمالين، وتعددت وظائف هؤلاء كل حسب المهمة المنوطة به، كالإشراف العام على السفينة أو استلام دفة القيادة وتوجيه المركب، بالإضافة لتحميل الأغراض وإنزالها والتجديف وبقية المهام الضرورية الأخرى على سطح المركب. ولهذا التباين في الوظائف دلالات ليس أقلها مقدار التعقيد في مهمة تسيير سفينة في رحلة ناجحة، وكذلك يمكننا اعتبار ذلك سببا إضافيا لوجوب وجود دراسات أكثر في هذا المجال.

وفي الجهة الأخرى يضع الكاتب القسم الثاني ألا وهم صانعو السفن ومعدات السفن، فصانعو السفن(السفانون والجلافطة) مكلفون بمهمة صناعة السفينة بمختلف أجزائها، قال ابن دريد :" هو الذي يُجَلْفِطُ السفن فيُدخل بين مَسامِير الأَلواح وخُروزها مُشاقةَ الكَتّانِ ويمسَحُه بالزِّفْت والقارِ" ، وفعله الجَلْفَطةُ. ويذكر الكاتب أنها مهنة يعتز بها أصحابها كثيرا. يضيف الكاتب إلى ذلك صانعي لوازم السفينة، كالأشرعة والمسامير، فالحبال لها أنواع متعددة حسب تعدد الأغراض وكذلك المسامير وأشكال الألواح وأطوالها. علاوة على هذا التقسيم يمكن اقتراح إجراء تقسيم آخر يعتمد على الأجر والمردود المادي لكل حرفة، فالقبطان بالتأكيد يكسب أكثر مما يكسبه العبيد والخدم على ظهر المركب.

يتضح وجود تسلسل هرمي للسلطة داخل المركب يبتدئ في قمته عند "رئيس السفينة"، ثم تتدرج المهام تبعاً لتخصص كل فرد، آخذا بعين الاعتبار أن الأشخاص يلتزمون بالمهام المنوطة بهم حصرا، بينما يملك الرئيس صلاحية التدخل في أعمال من هم تحته وإصدار الأوامر وتحديد طريقة سير الأمور.  

هناك تحدٍّ آخر يواجه الباحثين غير مشكلة قلة المصادر، ألا وهو اختلاف المسميات الخاصة بالحرف باختلاف الزمان والمكان، وهذا يتطلب جهدا إضافيا متمثلا في محاولة الوصول إلى توفيق بين هذه المسميات. فالأسماء والمصطلحات في أي مجال خاضع للدراسة من الضروري أن تكون متفقا عليها ومعروفة من أجل الدارس الذي يبدأ الدراسة، وكذلك على الدارسين مستقبلا الذين يكملون عمل باحث سابق.

من الجدير بالملاحظة هنا أن مصادر المعلومات لا تنحصر على التدوينات التاريخية فحسب، بل حتى الفتاوى والكتب الفقهية قد استخدمت لاستخراج أوصاف بعض المهن وطبيعتها وكيف يجب أن تمارس بصورة تطابق فيها حدود الشريعة. هناك أيضا الشعر، فقد وجدت قصائد خلال التاريخ تخبر عن أو تصف مهنة ما، أو المشتغلين بها وأحوالهم وصفاتهم. ويمكن من وجهة نظري الإفادة من كبار السن الموجودين والذين كان لهم باع في سبر أغوار البحار، خصوصا من المناطق التي تأخرت وصول منتجات الحضارة الحديثة إليها، وذلك لأنهم غالبا ما كانوا يسيرون الرحلات البحرية بشكل قريب إلى حد ما من أصحاب المهنة القدماء.

هكذا نرى أن العقبتين البارزتين أمام أي مشتغل في التنقيب عن هذا المحور التاريخي ذي الشعبية المنخفضة هما قلة المصادر واختلاف التسميات لنفس المسمى، أما فيما يتعلق بقلة المصادر فهي كثيرة في النوع قليلة في الكم، ولا علاج مطلق ونهائي لهذه المعضلة إنما محاولة تخمين أقرب صورة ممكنة للواقع وحيثياته بناء على المصادر المتوفرة ووفق المناهج الدراسية الخاصة بعلم التاريخ. يبقى المجال محتاجا لمزيد من الانتباه من قبل الباحثين، كما أنه خصب وغني بالإمكانيات والاحتمالات التي تنتظر الاستكشاف.

أخبار ذات صلة