أهمية المصطلح في علم الكلام والعلوم الأخرى

زهرة السعيدية

كتب محمد بن عمر مقالا بعنوان "المصطلح في علم الكلام" نُشر في مجلة التفاهم، ناقش فيه المصطلح الكلامي وتأثيره على علوم الدين. تحدث بن عمر في البداية عن علم الكلام ونشأته وسبب ظهوره، ثم ناقش المصطلح بشكل عام، وأهميته في ضبط المعارف العلمية وتماسك بنيان العلوم وتسهيل التواصل بين الباحثين فيها. ثمّ حاجج أخيراً أنّ المصطلح الكلامي نشأ وتطوّر مع علم الكلام وانتقل إلى غيره من العلوم بسبب التداخل المعرفي الكبير بين علوم التراث الإسلامي.

قبل الحديث عن المصطلح الكلامي، لا بدّ لنا أن نتحدث قليلاً عن المصطلح بصورة عامة وكذلك عن علم الكلام ونشأته حتى تصبح الصورة واضحة.

يقول المثل إنّ الحاجة أم الاختراع، وهذا ينطبق تماماً على علم الكلام، حيث إنّه ظهر أو بالأصح أُسس لصيانة الدين والعقيدة من هجمات الأفكار التي أخذت تتقاذف على الثقافة الإسلامية من كل صوب نتيجة احتكاك المسلمين مع الثقافات الأخرى وكذلك نتيجة بداية حركة الترجمة، ومنها ترجمة كتب الفلسفة اليونانية والفارسية. لذلك أراد المسلمون أن يدافعوا عن العقيدة الإسلامية عن طريقة مقارعة الحجة بالحجة وإبطال حجج الخصوم عن طريق الأدلة العقلية.

عادة ما يعرّف علم الكلام على أنّه "علم إقامة الأدلة على صحة العقائد الإيمانية". ويسمى كذلك بعلم المناظرة العقائدي؛ لأنّه يهتم بالمناظرة والمحاججة للرد على الحجج المضادة. تأثر علم الكلام كثيراً بعلم المنطق ويمكن أن نرى هذا التأثر جلياً في التعريفات وتقديم البراهين والاستدلالات والقياس مع المسائل الأخرى وما إلى ذلك. كذلك تأثر علم الكلام وأثّر على غيره من العلوم الإسلامية لأنّه كان في الأساس علم أصول الدين ومنه تفرّعت العلوم الأخرى.

أمّا المصطلح فهو "كل لفظ بسيط ومركب لفظي قصد به التعريف عن ماهية المفهوم" أي أنّه اتفاق الجماعة على تسمية شيء ما بلفظة أخرجت عن موضعها الأول وتناسبت مع الموضع الثاني، أو هو نقل اللفظ من المعنى الذي استعمل فيه أول مرة إلى معنى آخر مجازي لوجود علاقة بينهما.

يقول فريد الأنصاري إنّ أفضل طريقة للوصول إلى العلم هي "معرفة اصطلاحات أهله لأنّها هي ما يصف ويؤسس وينقل العلوم". يعتبر المصطلح شيئا أساسيا في أي علم، ذلك لأنّه أداة مهمة للتواصل والتفاهم بين الباحثين. وعادة ما يتوقف نجاح واستمرارية أي علم على مدى تنوع ووضوح ودقة المصطلحات. لقد ساهمت الثقافة العربية والإسلامية كثيراً في إدخال المصطلح في الكثير من المجالات، وقد يكون أكبر دليل على ذلك كثرة الموسوعات والمعاجم المصطلحية.

يقول الكاتب إنّ لتحديد المفاهيم والمصطلحات أهميّة بالغة في تشكيل المنهج؛ ذلك لأنّ الدقة والتحديد تحمي المصطلحات من الغموض والالتباس الذي يمكن أن تتعرض له.

من هنا نصل إلى الحديث عن المصطلح الكلامي، نشأته وتطوره. لقد بدأ الاهتمام بالمصطلح في علم الكلام مبكراً، حيث إنّ ظهوره تزامن مع تأسيس هذا العلم، وقد سبق المصطلح الأصولي الذي يخص علم أصول الفقه لأنّ الفقه قد نشأ أساساً من علم الكلام وتأثر به. يعرّف الكاتب المصطلح الكلامي بأنّه "المفاهيم المتداولة والشائعة والمستعملة بين المتكلمين.." حيث إنّ هذه المفاهيم قد أصبحت لها معانٍ خاصة ومختلفة، بين المتكلمين أو روّاد علم الكلام، عن المعاني المتعارف عليها في اللغة، أذكر منها هنا لفظة "الجسم" وهي تعني ما تركّب من المادة والصورة، ولفظة "العقل" وتعني الجوهر المجرد من المادة ذاتاً وفعلاً. يتضح من هنا أن المصطلح في علم الكلام يأخذ دلالة خاصة تختلف عن الدلالة المتعارف عليها.

أخذ المصطلح الكلامي ينتقل من علم الكلام إلى العلوم الأخرى مثل علم الفقه وعلم النحو وعلم البلاغة بسبب التداخل الشديد بين علم الكلام والعلوم الأخرى وبسبب اشتغال المتكلمين بعلم أصول الفقه في بداية دخولهم في علم الكلام. أذكر هذا تمهيداً للحديث عن التداخل بين العلوم الإسلامية وأثرها على الدرس المصطلحي.

يقول بن عمر إنّ أكبر دليل على التداخل المعرفي بين علوم التراث الإسلامي هو انتقال المفاهيم والمصطلحات من "حقولها المعرفية التي نشأت وتأصلت فيها إلى علوم معرفية أخرى" وليس هذا بالأمر الغريب، لأنّ منبع العلوم الإسلامية وهدف اشتغالها الأساسي هو خدمة القرآن وتفسيره وبيانه. لقد انتقلت المصطلحات من المتكلمين إلى الأصوليين والعكس، وانتقلت كذلك من الأصوليين إلى النحويين، ولقد أدت هذه الدينامية إلى إكساب المفاهيم المتناقلة معاني جديد غير التي كانت عليها.

يقول بن عمر في مقال آخر تحدث فيه عن أثر تداخل العلوم الإسلامية على المصطلح إن الاهتمام بالمصطلحات في العلوم الإسلامية جاء بسبب الأصل المعرفي للحضارة الإسلامية واهتمام المسلمين بالنص القرآني وتفسيره، ومن المعلوم أن التفسير لا يقوم دون التبحر في علوم اللغة وبالتالي بالمصطلح.

إنّ مدى أهمية وحضور المصطلح في العلوم الإسلامية دليل على أهمية المنهج والقواعد الثابتة في "عملية اكتساب المعرفة" وهي كذلك دليل على تحري المسلمين الدقة والأفكار السليمة والمعرفة المتخصصة في علومهم. يعتبر المصطلح من أبرز "مكونات وتجليات" المسائل المنهجية، لذلك فقد حظي بعناية كبيرة واهتمام متزايد في التراث الاسلامي. انطلاقاً من هذا الترابط بين المصطلح والمنهج في التراث الإسلامي ندرك أنّ تشييد الأنظمة الاصطلاحية والمفاهيميّة مؤشر على مدى تقدم العلوم الإسلامية. ونرى ذلك واضحاً في علم الكلام والمصطلح الكلامي، فبسبب وضوح أدوات التواصل وبناء النظام المفاهيمي المبكر في علم الكلام نجح المتكلمون في تأسيس علم متين لمعرفة "أصول الدين معرفة علمية قائمة على أساس الدليل والبرهان"، و"لإثبات قواعد العقائد بالدليل والحجة". ليس هذا فحسب، بل إنّ مصطلحات علم الكلام قد عبرت الحاجز الزماني وانتقلت إلى العلوم الأخرى محدثة تأثيراً كبيراً. علاوة على أنّها أثْرت المعجم المصطلحي والمكتبة العربية كثيراً.

أخبار ذات صلة