وليد العبري
في مقالٍ بعنوان "مقاصد الشريعة: بين أصول الفقه والتوجيهات النهضوية.. التأسيس والتوظيفات الحديثة" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- يُشير الكاتب إلى أن بدايات التفكير الأصولي في التعامل مع الشريعة الإسلامية منذ القرن الثاني للهجرة، قائمٌ على أمرين أساسيين للغاية؛ أولهما: الإلزام والتكليف، والثاني قائم على فهم النص والعرف الشرعيين، ويعمتد عليهما قدرة المكلف على تطبيقها في شتى مجالات الحياة، وهناك عمليتان لهذين الأمرين هما -عملية تعقل الإلزام والتكليف- وعملية فهم النص والعرف من أجل التطبيق.
لذلك؛ يعتقدُ الكاتب أن هناك نصين أساسيين؛ وهما: النص الأول مرتبط بالرسالة للإمام الشافعي عام 204 هجري، والنص الثاني كان لعلي بن المديني عام 235 هجري؛ حيث وجود مفهوم السلطة كان له دور وثيق جدا لشغل هذه النصوص، والتي قد تكون مرتبطة بأصول الفقه والشريعة.. وأن الإلزام والتكليف دائما يأتيان من الله سبحانه وتعالى، وهنا يكمن مفهوم السلطة.
لذلك؛ الشافعي لم يهتم كثيرا بالنص الأول أو الرسالة، وإنما حيز عمله على مصادر التشريع. فنجد أن الشافعي قد ربط السنة النبوية بالمفهوم الجديد والنص القرآني في الإلزام، لذلك درس في علم البيان والقواعد العربية لفهم النصوص، ومن ثم تحليلها تحليلا صحيحا لفهم النص أولا، وأوجد وسيلة لربط النص بالوقائع والأحداث المتغيرة المستقبلية من خلال وسيلة القياس.
وفي المقابل، نجد أن عليا اهتم بمعرفة العلل، وأطلق عليها مفهوم "طبقات أهل العلم" التي دائما ما تكون مختصة بأهل العلم وأهل السلطة، الذين يفهمون النص فهما صحيحا، ولديهم القدرة على الاشتراع والمعرفة، والتي تكتمل بوجود ثلاث مراحل أساسية؛ هي: جمع القرآن وحفظه، جمع المرويات عن النبي، وحمل العلم الموروث من الأجيال المباركة: جيل الصحابة، وجيل التابعين، وجيل تابعي التابعين.
وقد شهد القرن الثالث الهجري صراعا عنيفا في شتى أمور الحياة، وبروز المجادلة في السُّنة، والتي هي مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، من بعد القرآن الكريم، كما حدث صراع أيضا في السلطة الفقهية. ومع تبلور المدارس الفقهية في القرن الرابع الهجري ثبتت الخطوط النصية التابعة للشافعي، وابن المديني وتلاميذهما.
ومن منطلق آخر، نجد أن الفقهاء الأحناف أصروا كثيرا على التمسك بالاستحسان، وغالبا ما كان الشافعي والمحدثون قد جادلوا في ذلك، وأظهر المالكية أيضا المصالح المرسلة، في حين أصر الحنابلة على رأي الصحابة، وبقي هناك من قال إن جميع هذه التأملات لابد من إلحاقها بالقياس، وتنسب المصادر الأصولية على أن الشريعة أنزلت لصون مصالح العباد، ويوجد هناك الكثير من خير الأمثلة على ذلك، كأبي القاسم الكعبي، والقاضي عبدالجبار في كتاب العُمَد، وشرح المعتمد لأبي الحسين البصري، وأبي بكر الجصاص صاحب كتاب "أحكام القرآن".
ويظهر أن تحديد الضروريات الكبرى من الشريعة هي صون الدين، وصون النفس، وصون العقل، وصون النسْل وصون المال، وقد ذكر الآمدي عام 631 هجري المقاصد الخمسة التي لم تخلُ رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسْل والمال.
وعندما نذكر مقاصد الشريعة اليوم، نجد أن ما كتبه إبراهيم بن موسى الشاطبي في كتابه "الموافقات" والذي قسم إلى قسمين أساسيين: قسم قصد الشارع، وقصد المكلف، تأليف كتابه هذا نتج لثلاثة أغراض، وهي: إيضاح أن الشريعة أُنزلت لصون مصالح العباد، ويمكن تعليل التفصيل بالأبواب، وإدراك الاستقراء. لذا؛ نجد أن هذا القسم من علم الأصول هو علم يقيني، لارتباطه بالمقاصد الضرورية الخمسة، والتي دائما تذكر في كل المجالات، وللحفظ جانبان: الحفظ من جانب الوجود، والحفظ من جانب العدم، ومن هذا المنطلق نجد أن هناك فروقا بين فهم المقاصد القديمة والاستعمالات حديثا، وتمر بعدة مراحل؛ منها:
- أولا: مرحلة النضح عند الأصوليين، ويوجد تطور من فقه التعليل إلى فقه حكمة التشريع.
- ثانيا: وجود غموض بين مقاصد الشريعة وأصول الفقه، وأن فقه المقاصد لا يخترق علم أصول الفقه.
- ثالثا: ارتباط مباشر إذا وجدت نتائج عمل الأصولي أو عمل الفقيه أو القاضي.
- رابعا: عدم تأثير علم المقاصد على علم الفقيه.
والجدير بالذكر فقد استعرض خير الدين التونسي في "أقوم المسالك"، بعضا من تجارب الدول الأوروبية، في عملية النهوض والتنظيم مشابهة لابن خلدون، حين ذكر أن الشريعة الإسلامية كافلة لمصالح الدارين.
وعندما نتأمل فيما ركز عليه خير الدين، نجد أنه يناشد علماء الدين دعم مسألة التنظيمات، أو مؤسسات الدولة الحديثة لسببين: أن الشريعة الإسلامية كافلة لمصالح الدارين فإن لم يهتموا بالحياة الدنيوية فقد اختل شرط مصالح الدارين! والسبب الثاني يعود إلى أن التقدم الأوروبي قد يدخل في الشؤون الدينية والساسية؛ فلابد من أخذه بعين الاعتبار، وهناك وسيلة مهمة جدا بشأن هذا الأمر، وهي القول باقتباس كل ما يوافق الشريعة الإسلامية.
وانطلقت دعوة كبيرة للتجديد الفقهي في كل من مصر وتونس، وأُنشئت مدارس فقهية جديدة تدعو إلى التجديد الفقهي، وخير مثال على ذلك جامعة الأزهر في مصر بجانب "الزيتونة"، وكلاهما لها دور في تجديد الفقه حسب ما يلائم الشريعة الإسلامية، على نحو أسس وقواعد دينية صادقة بنّاءة.
هناك كتابان مختلفان في الروح والمقصد، وكلاهما بتأليف الشاطبي، وهما: "الموافقات" و"الاعتصام"؛ الأول في كتاب الشريعة، والغرض منه صون المصالح الضرورية والحاجية للعباد، أما "الاعتصام" فهو كتاب حول الدعوة للالتزام بالكتاب والسّنة، وهو شبيه بحد ذاته لكتب السنة عند الحنابلة، وكتاب البِدع عند المالكية.
وفي القرن العشرين، كان الهم أولا في إثبات إمكان قيام منظومة إسلامية فكرية وثقافية مستقلة، ترتبط مع كل الجوانب والحداثة النظرية والعملية من منظور إسلامي، وقد كثرت بحوث المقاصد في الآونة الأخيرة، والتي تعنى بإسلامية المعرفة، وإسلامية النظام المالي، والدساتير الإسلامية وإسلامية حقوق الإنسان.
ونجد هناك ثلاث مراحل لظهور فقه المصالح والمقاصد وحكمة التشريع:
في المرحلة القديمة: تشكيل بنية مقاصدية موازية لعلم أصول الفقه عبر أربعة قرون، ومن غير الممكن اختراق علم الأصول.
في المرحلة الثانية، وهي المرحلة الحديثة: إجراء محاولات في جعل المقاصد وفقهها بمثابة لاهوت للنهوض والتقدم والإصلاح الديني، وقد تراجع الاهتمام بمسائل المقاصد وروح الشريعة وحكمتها في المشرق العربي، ومن جهة أخرى استمر الاهتمام في المغرب العربي.
وهناك الكثير من الحواشي التي تدل على التجديد من كتب وروايات حديثة؛ منها: كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، وكتاب "الأمة والجماعة والسلطة" لرضوان السيد، وكتاب "شفاء الغليل" للغزالي، وكتاب "قواعد الأحكام" لابن عبدالسلام، ورسالة "مقاصد الشريعة" لنور الدين بوثوري.
وأخيرا.. شهد فقه المقاصد تطورا واتساعا، والنهوض بقوة مما كان عليه سابقا، فقد شكل نقطة مرجعية للنظام الإسلامي، عند الإسلاميين الجدد، ويحل مكان الفقه القديم، الفقه الجديد، وهنا بإمكاننا القول "فقه جديد لزمان جديد".