بسام الكلباني
يذكر الجابري في مقدمة كتابه (العقل الأخلاقي العربي) أنَّ المكتبة العربية خالية من أيّة محاولة جادة وشاملة، تحليلية ونقدية لنظام القيم في الثقافة العربية الإسلامية، ثم يستعرض ما كتب قديماً وحديثاً في مقاربة هذا الموضوع؛ ليستنتج أن العرب لم ينتجوا في ميدان الفكر الأخلاقي ما يرقى إلى مستوى ما أنتجوه في الفكر الفلسفي؛ وليجعل هذا الاستنتاج بمثابة فرضية يترتب عليها سؤاله: لماذا لم يقم علم الأخلاق في الثقافة العربية على غرار العلوم الأخرى؟
يقول محمد أمين فرشوخ في مقالته المعنونة "نقد نظم القيم في الثقافة العربية" بمجلة التفاهم بأن الجابري قد جعل كتابه في قسمين: القسم الأول تحت عنوان: المسألة الأخلاقية في التراث العربي، حدد فيها معاني المفردات: أخلاق، أدب، نظام، قيم متحدثاً عن أزمة القيم وأيهما يؤسس الأخلاق، العقل أم النقل. وفي القسم الثاني تحت عنوان: نظم القيم في الثقافة العربية أصولها وفروعها، درس الموروث الفارسي واليوناني والصوفي، قبل أن يدرس الموروث العربي الخالص، والموروث الإسلامي في البحث عن أخلاق إسلامية، ليعود في فصول هذا القسم الأخيرة إلى أزمة القيم ومحاولات في أسلمة الأخلاق.
وهكذا استعرض وناقش في القسم الأول معاني المفردات الاصطلاحية التي تعبر عن الحقل المعرفي لموضوع البحث، ففي اللغة العربية كلمتان يعبر بهما عن الأوصاف التي يوصف بها السلوك البشري:
خُلُق (والجمع أخلاق) وأدب (والجمع آداب) والكلمتان غير مترادفتين مع أن الواحدة منهما قد تنوب عن الأخرى. وقد قرر الجرجاني في تعريفاته أن "الخُلُق عبارة عن هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية" مشيراً هنا إلى فكرتين هما: الرسوخ والتلقائية، وبهذا المعنى يكون الخلق غير السلوك، فهو ملكة أو هيئة في النفس تكون منبعاً للسلوك. وبعد أن دقق الراغب الأصفهاني في ذلك – ناقلا عن المراجع الأفلاطونية والأرسطية في الأخلاق، مستحضراً في الوقت نفسه المرجعية الإسلامية – قال:" جُعل الخلق مرة للهيئة الموجودة في النفس التي يصدر عنها الفعل بلا فكر، وجُعل مرة اسما للفعل الصادر عنه باسمه"، ويخلص الجابري إلى الاستنتاج بأن للفظ الخلق أربع استعمالات: الأول هو معنى "القوى الغريزية" وهو قريب من معنى السجية والطبع. والثاني هو معنى "الحالة المكتسبة التي يصير بها الإنسان خليقاً أن يفعل شيئاً، كمن هو خليق بالغضب لحدة مزاجه. والثالث أن يكون اسماً للفعل الصادر عن الحالة، وهنا توحيد بين السلوك وبين الخلق دافعه الغريزي. والرابع أن يكون اسماً للهيئة والفعل معاً، مثل العفة والعدالة والشجاعة.
ثم ينتقل الجابري إلى البحث في معنى الأدب في المعاجم والشواهد الشعرية، والدراسات الحديثة، مشيراً إلى قول طه حسين في إن الكلمة: " كانت تدل منذ العصر الأموي على هذا النحو من العلم الذي ليس ديناً ولا متصلا بالدين، وإنّما هو خبر أو متصل بالشعر والخبر"، ساكتاً عن معنى آخر ظل ملازماً لكلمة أدب منذ العصر الأموي وهو الأخلاق، فابن المقفع له "الأدب الصغير" و"الأدب الكبير"، وقد أشار بوضوح إلى أنهما في الأخلاق، ويؤكد هذا أيضاً عبد الحميد- كاتب مروان بن محمد – إذ استعمل كلمة أدب بمعنى أخلاق في كثير من نصوصه. لقد شبه ابن المقفع الأدب بالغذاء، فهو مجموع النقول والمرويات من الأخبار والأقوال المأثورة الداعية بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى التحلي بمكارم الأخلاق.
ويشير الجابري أيضاً إلى أن الأدب في اصطلاح الفقهاء كالتكملة للسنّة؛ وذلك "أن الواجب ما شرع لإكمال الفرض، والسنة لإكمال الواجب، والأدب لإكمال السنة" وعلى هذا الأساس تحدثوا عن آداب العبادات والتي جمعت فيما بعد تحت عنوان "الآداب الشرعية"، وابن عربي يفضل لفظ "أدب" على لفظ "أخلاق"، ويقدم تصنيفاً آخر للأدب متفرعاً عن ثنائية شريعة/حقيقة التي تحكم التفكير الصوفي، وهو عنده قسمان: أدب الشريعة، وأدب الحقيقة، وكلاهما متقابلان؛ إذ الشريعة تؤخذ من الواسطة (الرسول)، أما الحقيقة فتؤخذ بالكشف عندما يصل المتصوف إلى درجة الفناء. فالشريعة أدب، والحقيقة ترك الأدب بالفناء إلى الله.
ثم يستعرض في الفصول الثلاثة التالية من هذا القسم: أسباب حضور موروثات ثقافية في الساحة العربية، وهو حضور المستوى العادي لتداخل الثقافات، وكأنه ظاهرة لا يمكن أن تفسر إلا بالغزو الثقافي الذي يصاحب أو يتبع الغزو العسكري والسياسي، مركّزاً على أزمة القيم التي عانى منها المجتمع العربي الإسلامي والتي أفرزتها الفتنة الكبرى، وعمّقتها الأحداث والتطورات التي تلتها.
ولما كان النقاش حول معطيات هذه الأزمة قد ارتفع خلال العصر الأموي إلى مستوى "التعالي بالسياسة"، فقد فسح المجال للنظر والبحث عن حلول فكرية لأزمة القيم المستفحلة، وهذا النقاش الذي أطلق عليه فيما بعد اسم علم الكلام، تعامل مع أزمة القيم مثيراً موضوعات هي من صميم البحث في الأخلاق، وقد استنتج الجابري هنا أن النتيجة كانت سلبية؛ فالمتكلمون من معتزلة وأشعرية بحثوا بعمق في موضوعات تعرف في الفكر الفلسفي "بالمشكلة الأخلاقية"، ففصلوا في قضايا الحرية والمسؤولية والجزاء، ووجهات الحكم على الأفعال، ورغم أنهم أجمعوا على أهمية دور العقل – سواء بوصفه شرطاً في التكليف، أو ملكة لإدراك الحسن والقبيح، والتمييز بين الخير والشر- فإنهم لم يخصوا القيم والأخلاق بنظر واستدلال، يتعامل معها كعلم قائم بذاته.
لذا عاد الجابري للتأكيد أنّه" في البدء كانت أزمة قيم" هذه الأزمة التي تطورت سياسياً إلى محاكمة النوايا بتوظيف أسئلة إرهابية حول مرتكب الكبيرة، والإيمان والكفر، والفرق بين الكافر والفاسق، والقضاء والقدر، والمسؤولية والجزاء...".
وبدا واضحاً تنويه الجابري بالحل الذي ابتكره واصل بن عطاء، بدعوته إلى منطق "ثلاثي القيم يقول بالمنزلة بين المنزلتين، بين الإيمان والكفر، مثبتاً الخطأ في حق جميع الذين شاركوا في الفتنة الكبرى، ومنهم صحابة كبار، ولكن لا على التعيين"، هذا الحل فتح النقاش النظري والاجتهاد الفكري للبحث عن طريق لتجاوز الأزمة، وهو حل معقول كمخرج نظري، ولكنه لم يكن مطلوباً ولا معقولاً كمخرج سياسي؛ لأن المشكلة سياسيّة أصلا. فالأمويون يطلبون حلاً فكريا آخر صالحاً للتوظيف السياسي لفائدتهم، حلا يتجاوز أزمة القيم التي تطورت إلى أزمة سياسية خانقة، عمّقها تمزق المجتمع والدولة في آخر عهدهم.
ويأتي أفلاطون – تلميذ سقراط - ليوسع هذه الأفكار، فيفصل في عالم المُثُل، حيث النماذج الثابتة، ويتحدث عن قوى البدن وفضائلها، وأن التوازن بينها هو عماد الحياة السعيدة، وأن السعادة لا تكون مع الجهل، ولو كان الجهل مقرونا باللذات كلها، ولا يرى أفلاطون مانعاً من تحصيل العلوم جميعها من ضرورة التمييز بين اللذات الحقيقية وتلك الشهوانية التي هي في الحقيقة فترات تفصل بين ألمين، فاللذات التي تتناغم مع العلم تزداد بازدياده، فيتحول العلم إلى لذة واللذة إلى علم، ومثل هذه اللذة نموذج من السعادة المطلقة وهي في الوقت نفسه الخير المطلق، والوصول إليه يحتاج إلى تدبير، إلى سياسة النفس، وهي تتلخص في تحقيق العدالة بين قوى النفس الثلاث: الفضيلة، والسعادة، والأخلاق.
