عبدالله الشحي
في مقال بعنوان "العقلانية وفرقة المعتزلة" المنشور في مجلة التفاهم يصف المفكر الألماني ويلفرد مادلونغ كيف تناولت جماعات إسلامية جملة من القضايا كمفهوم الفطرة والعدل الإلهي والجبر والاختيار والتمييز بين الصفات والذات الإلهية، وركز على تناول المعتزلة لهذه القضايا وطريقتهم العقلانية في التّعامل معها.
جرت عجلة التاريخ على الأمة الإسلامية كما جرت على غيرها من الأمم في إنتاج تيارات ذات توجهات متنوعة تتوافق أحيانا وتتنافر أحيانا أخرى كالقائلين بخلق القرآن وخلود أهل الكبائر في النار وجواز رؤية الرب في الآخرة، فهذه تيارات جمعت جماعات أصغر جاءت نتيجة للمتغيرات السياسية بالدرجة الأولى، ثم المتغيرات الثقافية المتعقلة بالاختلاط مع الشعوب الأخرى والانفتاح عليهم . صبَّ ذلك في مصلحة استحداث هذه الجماعات المحددة على مختلف النطاقات كالمذاهب الإسلامية المشهورة وخلافاتها الفقهية والعقائدية، والحركات الصوفية المهتمة بالجانب الروحي والغيبي بشكل أساسي، والحركات ذات التوجه العقلي والتوجه الفلسفي في قراءة وتفسير النصوص الدينية. وقد كان السجال بين هذه المدارس والمذاهب والتوجهات يتخذ شكلا صداميا مباشرا أحيانا، وردودا وتعقيبات غير مباشرة في أحيان أخرى، كل ذلك أثرى التاريخ الإسلامي والمكتبة الإسلامية بمحتوى غني من الأفكار والقراءات التي غطت تقريبا كل أشكال التساؤلات حول الدين والعقيدة والحياة.
كانت المعتزلة جماعة ذات توجه مختلف بشكل جذري عما كان سائدا حينها من تقديم النقل على العقل، أي عند التوجه التقليدي أو الأصولي القائل بسلطان النص على العقل وأن لا أسبقية للعقل على النص المقدس، مع الإشارة بأن الرأي السائد اليوم هو الرأي الأصولي وهو ما له مدارس وهيئات وشخصيات كثيرة تدعو إليه بعكس الرأي المرجح للعقل. ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن هذا الجدال الطويل والمحتدم بين المعتزلة ومخالفيهم في استنادهم على العقل كمشرع، بل هناك اختلافات أخرى عرج الكاتب عليها في مقاله.
يقوم المذهب المعتزلي على مجموعة من المبادئ الأساسية التي تشكل أساس الاعتزال، كالتوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين، وهذه المبادئ تتشابه في بعضها مع الفرق الإسلامية الأخرى لكن معناها وكيفية معالجتها مختلف، فالتوحيد مثلا هو الأصل والأساس في الإسلام وكل الطوائف التابعة له لكن المعتزلة يرون الله وصفاته بغير ما يراه فيها أهل السنة والجماعة مثلا. وهناك مبدأ المنزلة بين المنزلتين الذي تبنته المعتزلة حينما حاولوا حل إشكال مصير مرتكب الكبيرة ممن شهد بوحدانية الله ونبوة النبي جعلتهم يفترضون وجود منزلة بين الكفر والإيمان يوضع فيها.
لقد كان مفهوم الفطرة محل خلاف دائم بين المسلمين وكان للمعتزلة رأيهم فيه معناه ومقصده، وعلى الرغم من أن مفاهيم ومصطلحات أخرى كانت أيضًا محل خلاف إلا أن مفهوم الفطرة يختلف عن غيره أولاً كونه يتعلق بمعالجة قضية وجودية وهي طبيعة الإنسان الأولية المغروسة فيه من قبل الله دون تدخل العوامل البشرية كالتربية والتعليم، وثانيا نظرا لورودها في مواضع عدة كما جاء في القرآن الكريم :"فطرة الله التي فطر الناس عليها". إن الغرائز الطبيعية والرغبات الجسدية عند الإنسان هي ما يمكن تسميتها بالفطرة أو على الأقل جزء لا يتجزء منها، تولد مع جميع البشر بغض النظر عن الخلفيات الدينية لوالديهم وأصولهم العرقية ومكان ولادتهم وتساهم في نجاة النوع البشري، وهذا الشق المادي الواضح من الفطرة لا مشكلة فيه، لكن المشكلة في الجانب غير المادي أو الميتافيزقي غير المرئي والذي تم تحميله كثيرا من التفسيرات والمعاني من قبل المنظرين القدماء من أهل الدين والمتبحرين في نصوصه.
وربما من السليم أن نلقي الضوء على مفردة الفطرة، فمعجم الوسيط يعرف الفطرة بأنها "الفِطْرَة الْخِلقة التي يكون عليها كل موجود أَوّلَ خَلْقِه والفِطْرَة الطبيعة السليمة لم تُشَب بعَيْب"، ثم نزيد إلى ما سبق الإيمان بالله تعالى، والإيمان بصفاته، بل إن الفطرة عند البعض هي الإسلام نفسه، فكل مولود يولد على الفطرة والتي تعني جميع ما سبق، أي أن الطفل إذا لم يتعرض لأي تعليم ديني أو تلقين عقائدي فسوف ينشأ على الإسلام، وهذا افتراض يستحيل اختبار صحته اليوم. إن جملة من التساؤلات يمكن أن تطرح هنا كما بين الكاتب كالقول بعدم وضوح الفرق بين الإسلام الموجود بالفطرة والإسلام المنزل من قبل الوحي فإن كانت الفطرة تساوي الإسلام فما الحاجة للوحي والرسالة، أتصور أن أقرب جواب للعقل هو الرأي القائل بأن الرسالة الإلهية جاءت فقط لتوقظ الإسلام الموجود في قلوب الناس مسبقاً والذي قد ينساه الناس بفعل عوامل عديدة.
يرى المعتزلة أن المولود يولد بدون دين وهذا ما يقصد به الفطرة، أي الشيء الطبيعي الأصلي الخالي من التعديل والتغير، فهكذا يوضحون مقصد الحديث النبوي بأن المولود يولد من غير عقيدة ثم يتم تلقينه العقدية من أبويه.
يختم الكاتب مقالته بقوله إن الحداثيين المسيحيين وغير المسيحيين يملكون حرية أكبر في أخذ أو رفض أفكار المعتزلة وآرائهم، مع وجوب بيان أن المعتزلة قد قاموا بوجه خاص بالرد على تشكيك وأسئلة المشككين في مسائل التوحيد ووجود الله من غير المسلمين وبالتحديد أتباع الأديان الغير إبراهيمية، وكانت ردودهم تتسم عموما بالمنطق وإعمال العقل وهذا الشرط قريب من روح العصر الحالي عكس ردود المتدينين التقليديين التي اعتمدت النصوص والأساليب اللغوية وهذا بدوره كان مناسبا لأزمنة ماضية أكثر منها اليوم. ولهذا أظن بأنه يصح القول بإمكان استفادة الحداثيين المتدينين عمومًا من إنتاج المعتزلة.
لقد تبين أن فرقة المعتزلة تملك إمكانية عالية على تقديم إجابات وتناول القضايا بطريقة منطقية مبنية بشكل عقلاني متناسق منذ بداية ظهورهم بداية القرن الثاني هجري وحتى اليوم رغم قلت أتباعهم الحاليين. تتجسد عموما الحاجة إلى التلاقح الفكري والحوار والاختلاف ليس فقط بين المعتزلة وبقية الفرق بل أيضا بين كل الفرق التي تنتسب إلى الإسلام، لأن اختلافهم يعطي طيفا واسعا من الأفكار ليختار منه الفرد وينتقي المناسب له، ولا زال المجال مفتوحا لمزيد من المعالجة من قبل الفرق الإسلامية للأطروحات خصوصا الجديد منها كقضايا حقوق الإنسان وحوار الأديان والمفاهيم السياسية كالدولة والمدنية وغيره.
