وليد العبري
أصبح المُسلمون اليوم في أوروبا جزءًا من النسيج الاجتماعي لسكان القارة، وثمة أجيال ولدت وعاشت وأضحت جزءاً لا يتجزأ من المُجتمعات الأوروبية، التي يتجه معظمها إلى الشيخوخة، في حين أنَّ أغلبية المسلمين هم من جيل الشباب الذين لابد أن تقع على عاتقهم مستقبلاً مهمات ومسؤوليات كثيرة داخل هذا المُجتمع. وقد بات الوجود الإسلامي المتنامي داخل هذه المجتمعات ظاهرةً معترفاً بها على نحو غير مسبوق، وأصبح المسلمون يشكلون أقلية دينية تأتي في المرتبة الثانية بعد المسيحية في كثير من الدول الأوروبية، وهذا ما ناقشه الباحث عواد علي خضير على صفحات التفاهم في مقاله "دمج المسلمين في المجتمعات الأوروبية بين رؤيتين".
مع تغير مظاهر الانتقال من الهجرة الحديثة المؤقتة للمسلمين إلى الدائمة، وتغير نوعية المهاجرين من العمال البسطاء إلى هجرة العقول والكفاءات، إضافة إلى مظهر مهم يتمثل في دخول أعداد كبيرة من الأوروبيين في الإسلام، أي ما نسبته 6% من مجموع سكان أوروبا.
وبانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي سوف يبلغ عدد مسلمي أوروبا نحو 119 مليون نسمة، أي ما يوازي نحو %15 من إجمالي عدد سكان القارة الأوروبية.
تواجه قضية اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية وخاصة بعد تفجيرات 11 سبتمر، وما تلاها من تفجيرات في أسبانيا وبريطانيا تحديات ومعوقات عديدة، منها التميز بينهم عن بقيت الأقليات الأخرى، وتوجد فروق كبيرة فيما يتعلق بالحقوق المدنية، فبينما نجد نصف المسلمين في فرنسا وبريطانيا وهولندا وبلجيكيا يحملون جنسيات تلك البلاد، نجد نسبة من يحملون الجنسية الألمانية والدنماركية منهم تقل عن 20%.
وأن الأحكام المسبقة وألوان التمييز تجاه المسلمين قد ازدادت أيضًا؛ بل أصبح "مسموحا" في بعض دول الاتحاد الأوروبي بـ "مواجهة المسلمين بالعداء واستخدام التعبيرات المعادية ضدهم" وينتهي تقرير اتحاد هلسنكي العالمي إلى التأكيد على استحالة وجود وصفة سحرية قد تُساعد في التغلب على عدم التسامح والعنصرية، وفي الوقت عينه على الصعوبات التي تواجه قضية الاندماج، التي لن يكتب لها النجاح بالمجهودات الفردية.
ويشير التقرير إلى أن بعض الجاليات المسلمة ترى نفسها منعزلة في "جيتوهات" كما أنّ المسلمين يشعرون بعدم القبول في المجتمع البريطاني، حيث يُنظر إليهم على أنهم عدو الداخل أو طابور خامس، وأنهم واقعون تحت حصار مستمر، وهذا أمر يسيئ إلى المجتمع، كما هو للمسلمين أنفسهم. وقد أسهم ذلك في تزايد مظاهر التضييق على المسلمين الأوروبيين في حياتهم اليومية وفي مناسباتهم الدينية؛ حيث تعمَّدت بعض الصحف والقنوات التلفزيونية تقديم صورة للإسلام بشكل يشوبه مغالطات عديدة وصورة مقلوبة وغير مطابقة لواقع الإسلام، وتم ربط الإسلام بالإرهاب.
وركزت معظم وسائل الإعلام الأوروبية في تناولها للقضايا الإسلامية والمسلمين على ثلاثة محاور رئيسة هي:
- النظر للإسلام على أنه معاد للغرب.
- إظهار القيم الإسلامية المعادية لقيم الحضارات الغربية.
- إظهار القيم الإسلامية التي تشجّع الرجعية والإرهاب.
ويجب ألّا ننسى دور الإعلام الصهيوني في دعم القوى العنصرية في أوروبا، وتأجيج العداء ضد المسلمين، فغالباً ما يقف اللوبي الصهيوني وراء الإعلام والأفلام والثقافة السائدة التي تصنع المخيلة الأوروبية عن الإسلام، وتصوغ الرؤية التي ترى المسلمين خطرا على أوروبا، وليسوا أهلاً للثقة.
لكن رغم دأب هؤلاء المتطرفين والعنصريين الحثيث على عزل الإسلام في أوروبا، فإنّ الذي يقف موضوعيا في وجه هذا المخطط ليس فقط بقايا فكر التنوير المنبثة في الثقافة السياسية السائدة في العصر التي لم تعد تقبل شن حروب إبادة وتطهير عرقي كما حصل في البوسنة؛ بل العقبة الاقتصادية المتمثلة في الحاجة الثابتة والمتزايدة إلى اليد العاملة المهاجرة بسبب تفاقم العجز السكاني في القارة الشائخة، بما يجعل دول الاتحاد الأوروبي محكوماً عليها رغم كل الضجيج المثار ضد المهاجرين باستقدام ملايين العمال سنويًا، فكيف والحال هذا يمكن تصور تهجير ملايين المسلمين، ومعظمهم مواطنون؟.
ولذلك فإن ما يجعل الهدف الموضوعي من الحملات ضد الوجود الإسلامي في أوروبا من قبيل المزايدة السياسية الحزبية؛ إذ إن المهاجرين كبش فداء، يلقي عليهم اليمين -مناكفة لليسار- مسؤولية انتشار البطالة، وحتى الوساخة أحياناً، فضلاً عن الإرهاب، ويرد اليسار مدافعاً عن قاعدته الانتخابية بالتضييق على المهاجرين الموجودين، وتشديد الرقابة على استيراد المزيد منهم.
ومن هنا فإن دمج المسلمين في المجتمعات الأوروبية أمر واقعي، إن لم يكن حتمياً، وأحد أهم التحديات أمام الاتحاد الأوروبي، رغم أن مصطلح الاندماج من المصطلحات الملتبسة الذي يخضع لتفسيرات متعددة ومتباينة في بعض الأحيان؛ لأنه يتخذ من الثقافة الذاتية نقطة انطلاق لمحاولة استيعاب الآخر ضمن منظومته الثقافية، كما أنه مصطلح يختلط بمصطلحات أخرى تقترب منه بدرجات متفاوتة، مثل: التماثل، والتجانس، والتأقلم، والتكيّف.
إن المسلمين الأوروبيين ملتزمون بالكامل وبشكل صريح بحكم القانون العادل، ومبادئ التسامح، وقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وبالاعتقاد أن كل إنسان له الحق في أن تُصان حقوقه الضرورية الخمسة: النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض. ومن الواضح أن هذا الإعلان يشجع الأوروبيين على الاعتراف الرسمي بالإسلام والمؤسسات الإسلامية في أوروبا، وحمايتهم من جرائم التطهير العرقي، والإبادة الجماعية.
لكن هذا الاندماج محفوف بالمزالق، وهو معرض إلى أن ينتهي بالذوبان كما حدث في تجارب سابقة للمسلمين؛ لذلك ينبغي أن تُحدَّد له ضوابط وقواعد تسير به في مساره الوسط المُنتج، وتعصمه من الانعزال أو الذوبان، منها:
- تحديد معنى الاندماج المطلوب، وتحديد محتواه، بحيث يتميز عما يُراد منه من قبل بعض الجهات حيث تعني به الذوبان.
- أن يكون مقيداً بالمحافظة على خصوصية المسلم الممثلة في العقيدة والشعائر والأخلاق والأحكام الشرعية.
- أن يقوم على استثمار الفرص والإمكانات الكثيرة المتاحة في المجتمع الأوروبي.
- أن يكون قائماً على أساس من الحوار المستمر من مُكونات المجتمع الأوروبي الثقافية والسياسية والاجتماعية.
ومن أمثلة الدول الأوروبية التي عمدت على تطبيق الاندماج هي دولة السويد، التي أعلنت في وقت سابق عن قيامها بتوزيع دليل تعليمي عن الإسلام على طلبة المدارس لمواجهة موجة الخوف من الإسلام، وزاد الضغط من قبل النخب السياسية الحاكمة والمثقفة على ضرورة أن يسود مبدأ حوار الحضارات، وتحديداً بين الإسلام والغرب، والتأكيد على ما توفره القوانين السويدية من حرية للمسلمين في أداء شعائرهم وتأكيد هويتهم، وتوفير حماية كاملة لهم، وعدم سماحها لأي سويدي أو غيره بالمساس بحرمة الإسلام، ومنح مبالخ كبيرة للمساجد والجمعيات الإسلامية سنوياً، في إطار ما يعرف بمجتمع متعدد الثقافات والمعتقدات.
وأخيرا إذا ما قارنا بين وجهة نظر المسلمين وحكومات الاتحاد الأوروبي حول الاندماج –اللتين عرضنا أبرز ملامحمها- نجد أن نقاط التلاقي بينهما أكثر من نقاط التباعد، فكلتاهما تؤكدان على مبادئ أساسية هي: الالتزام بالقوانين الخاصة بواجبات المواطنة وحقوقها، والأسس والقيم الرئيسة المتبعة في أوروبا مثل حقوق الإنسان، والديمقراطية، واللوائح الموضوعية، والمشاركة الإيجابية والفعالة في مؤسسات المجتمع المدني، والأنشطة البيئية والاجتماعية، وبناء العمل المؤسسي، والبعد عن التمحور حول العرقية والمذهبية والطائفية، واعتبار المسلمين جزءاً أساسيا من المجتمعات الأوروبية، ومن تاريخها وحاضرها ومستقبلها.