أخلاق العصر بين النظرتيْن: التشاؤمية والتفاؤلية

كامل السوطي

يَفْتَتح الباحثُ المغربيُّ مُحمَّد الناصري مقاله المعنون بـ"قضايا في الفكر الأخلاقي" -والمنشور بمجلة التفاهم- بتساؤلاتٍ يدُوْر مَضْمُونها حول رؤيته المتشائمة المتعلِّقة بمصير العالم، وتحديداً فإنَّه يرى أنَّ الأخلاقَ الفاضلة قد تمَّ تحييدها وتنحيتها عن الحياة وعن الواقع الذي يعيشه الناس اقتصاديًّا واجتماعيًّا؛ الأمر الذي يجعل العالم أكثر اضطراباً وقلقاً من أيِّ وقت مضى خلال عمر البشرية المؤرَّخ.

ويرى الناصري أنَّ العالمَ يغوص اليوم في الأوحال، وتردِّي الأخلاق؛ لسبب من الممكن تعميمه في تغليب المنفعة المادية، ومن الممكن تفريعه إلى ثلاثة أجزاء؛ ففيما يتعلق بالتنمية، فإن الاقتصاد مُهيمن عليها في مقابل اضمحلاح أثر المصلحة المعنوية على التنمية، ولا يعد هذا أمراً مستغرباً؛ حيث إنَّنا إذا ما نظرنا إلى الأمر بشيء من التفصيل، سنجد أن دول العالم اليوم تقيس معدلات التنمية فيها بما يُسمَّى "الناتج المحلي الإجمالي"، ويُعرَّف على أنه القيمة السوقية لكل السلع النهائية والخدمات المعترف بها بشكل محلي، والتي يتم إنتاجها في دولة ما خلال العام الواحد.

وبناءً على ذلك، فإنَّ أيًّا من المنتجات أو الخدمات التي ستنتج خلال العام ستدخُل في حساب الناتج القومي المحلي لدولة ما، وإذن سيُقرأ ذلك على أنه مؤشرٌ صحيح لقياس معدلات التنمية، إلا أن ذلك لا يخلو من خدعة؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية -مثلاً- تدخل شركات إنتاج الدواء وشركات التأمين الصحي والمستشفيات الخاصة في حساب الناتج القومي المحلي، كما تدخل كذلك شركات إدارة السجون في نفس الحساب؛ مما يدل على أنَّه كلما ازداد عدد المرضى والمساجين ارتفع الناتج القومي المحلي للولايات المتحدة. وبشكل ساخر أكثر: كلما كان المجتمع مريضاً أكثر، ارتفعت قراءة مؤشر التنمية. أمَّا الجزء الثاني، فمتعلقٌ بسيطرة التقنية على حقل العلم على حدِّ تعبير الناصري، إلا أنَّه لم يُوضِّح في مقاله بالتحديد علاقة سيطرة التقنية أو التكنولوجيا في حقل العلم بالأزمة الأخلاقية التي يعاني منها العالم، ولكن من الممكن إعمال آلة الحدس والقول بأن الأمر له صلة بجانبين؛ الأول: تكون فيه التكنولوجيا كمدخل، أما الثاني فتكون التكنولوجيا فيه كمخرج. وفي الجانب الأول تكون التكنولوجيا فيه آداةً من أدوات العلوم المختلفة كالفيزياء والبيولوجيا...وغيرها. وبالأخص، فإنَّه في حقل الهندسة الوراثية: من الطبيعي أن يفكر الفيلسوف والعالم في أخلاقيات جديدة تقنن استخدام التقنية في هذا المجال؛ كونها مجالات علمية حديثة، وتتطلب أشواطاً طويلة من الجدل الأخلاقي. أما في الجانب الثاني، فمن الطبيعي كذلك أنْ ينتج العلم التكنولوجيا؛ كَوْن العالم محكوما بنظام مالي رأسمالي يكون الربح فيه مُتعلقا بما يُباع من المنتجات المتفوقة تقنيًّا. وبالرغم من كلِّ ما سبق، فإن سيطرة التكنولوجيا في حقل العلم أسهمت في المجمل في خير البشرية، وأنقذت الملايين من الأرواح من المجاعات والأمراض، وأسهمت في نشر المعرفة بأسرع ما يمكن على مر التاريخ. ويتعلق الجزء الثالث بسيطرة الشبكة في حقل الاتصال، ويحتوي ذلك على الكثير من الصواب؛ إذ إنَّه في ظل الانتشار الواسع للشبكة العنكبوتية، وفي وقت تسيطر فيه شبكات التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت على أساليب التواصل البشرية الطبيعية، فإنَّه ليس من المستغرب أن يزداد الشعور بالنرجسية عند مُستخدمي هذه الشبكات، وظهور حالات إدمان جديدة تشبه تلك الحالات التي يدمن فيها متعاطو المخدرات. ويواصل الناصري مقاله بطرح أسئلة ثلاثة تُوْجِز ما يراه كمقترح حلٍّ أو مخرج من الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها العالم؛ الأول: ما المعول عليه في بناء الأخلاق، العقل أم النقل؟ ويؤيد الكاتب فكرة أن الإنسان يملك عقلين اثنين ويسميهما بالنور الفطري والنور الموحى، والأخير مصدره القرآن الكريم. أما الأول، فبالرغم من أن الكاتب سمَّاه فطريًّا، إلا أنه يعود مرة أخرى فيقول إنَّ العقلين منبثقان من مصدر واحد وهو الله سبحانه وتعالى، وكأنَّ الكاتبَ قد قسَّمهما إلى عقلين اثنين ثم جمعهما فجأة في عقل واحد مصدره النقل. أمَّا السؤال الثاني، فيطرحه الكاتب كالتالي: هل الأخلاق فطرية أم مكتسبة؟ ومرة أخرى يرى الناصري أنَّ الأخلاق فطرية ومُكتسبة في الوقت نفسه؛ فهناك أخلاق من الممكن اكتسابها وفقدها، وهنالك أخلاق فطرية مشتركة يُولَد عليها المرء. أما السؤال الثالث، فهو: هل الأخلاق مطلقة أم نسبية؟ ويرى هنا أنها مطلقة ثابتة بنص القرآن، ويختلف مع من يقول إنها نسبية.

ولكن من المهم طرح سؤال مُعَاكس بخصوص هذا المقال، وهو: هل صحيح أنَّ العالم يعيش اليوم انحطاطاً مُستمراً في الأخلاق؟ فبالرغم من أنَّ الكاتب اقتبس اقتباسين اثنين أحدهما لرئيس بلدية كليفلاند الأمريكية، ولكنه لم يحدد اسمه ولا الحقبة التاريخية التي عاشها، لكي يتسنى لنا قراءة الظروف التي جعلته يطلق مقولته الآتية: "إذا لم نكن واعين فسيذكرنا التاريخ على أساس أننا الجيل الذي رفع إنساناً إلى القمر بينما هو غائص إلى ركبتيه في الأوحال والقاذورات". والاقتباس الآخر لنيكسون يقول فيه: "إننا نجد أنفسنا أثرياء في البضائع، لكن مُمزَّقين في الروح، ونصل بدقة رائعة إلى القمر، وأما على الأرض فنتخبط في متاهات ومتاعب كبيرة". ورغم أنَّ الاقتباسيْن مُبهمان -خصوصا لمن لا يعرف خلفيات إطلاقهما- فإنَّ هناك من يرى أنَّ العالم اليوم أكثر احتراماً للأخلاق والقيم البشرية الرفيعة من أيِّ وقت مضى. لقد تقدَّم العالم اليوم كثيراً في مجال حقوق الإنسان مثلاً، ولأول مرة على مر التاريخ تتفق جميع الدول على أن استرقاق البشر مُحرَّم دوليًّا، كما أنَّ العالم يتَّجه اليوم أكثر فأكثر إلى احترام المرأة ومعاملتها كإنسان كامل له حقوقه الكاملة بمعية الرجل، وفي مجال الحريات واحترام حرية التعبير بالأخص، فإنَّ العالم بالمثل قد قطع شوطاً كبيراً في احترام حقِّ المرء في التعبير وإبداء الرأي؛ فحتَّى الأخلاق التي كانت في العصور القديمة حِكراً على الكنيسة، أصبحت اليوم تناقش في جميع الأماكن بكل حُريَّة.

أخبار ذات صلة