كامل السوطي
لطالما تساءل الفلاسفة عن مفهومي الحكمة و السعادة، و عن ربطهما ببعضهما البعض أو فصل أحدهما عن الآخر، أيهما السبب و أيهما النتيجة، أم أنهما مترادفان على الدوام لا ينفصلان. الكاتب المصري مصطفى النشار في مقاله "مفهوم الحكمة ومفهوم السعادة في الفلسفة اليونانية” يفتتح مقاله بتخطئة الشباب الذين يرون أن السعادة قرينة المال ومتعة الجسد وأن الحكمة لا تعني إلا التعاسة وسوء المظهر، و من هنا كان من الضروري أولاً الإجابة عن سؤال من هو الحكيم؟ ومن هو السعيد؟ أو ما الحكمة وما السعادة؟
فالحكمة هي اكتساب العلم من التعلم أو التجارب، ويفرق الكاتب بين الحكمة حينما تكون نظرية فيسميها فلسفة، وحينما تكون عملية فتكون حينذاك خبرة. أما السعادة فإنها حالة خاصة بالإنسان دون الحيوان، الإنسان الذي يستطيع أن يحكم على حياته بأنها في خير تام و رضا كبير. إلا أن هناك مذاهب فكرية قديمة رأت أن السعادة تتحقق بالاستمتاع باللذات أو الأهواء كما يرى القورينائيون و السوفسطائيون، بعكس سقراط و أفلاطون حيث يريان أن السعادة في اتباع الفضيلة. و قد كان الاهتمام الأول من قبل فلاسفة اليونان بالحكمة مرتبطاً بالفيلسوف هيراقليطس، الذي كان يرى أن الحكمة قرينة الزهد، بينما لم يكتف فيثاغورس بالتوافق مع رؤية هيراقليطس حول الحكمة بل أضاف على ذلك أن السعادة تكمن في محبة الحكمة، و أن ذلك لا يقود إلا إلى الإقتراب أكثر من الآلهة و محبة الآلهة، و بتمام ذلك يتحقق مفهوم السعادة عند الإنسان و يصبح واقعاً، و ذلك ما أثنى عليه الفيلسوف يامبليخوس حيث رآى أن الخير كله باتباع تعاليم الآلهة و الكف عن نواهيها. و قد سلك الفيلسوف بارمنيدس مسلك فيثاغورس و يامبليخوس إلا أن له صبغة طبيعية أكثر من سابقيه حيث أنه طريق إلهي يدرك بالعقل، و لكنه طريق محفوف بالظن كما أنه مدعم باليقين في آن واحد. وحسب بارمنيدس، فإن الحق الذي تعرفه باليقين و تهدمه بالظن هو وحدة واحدة لا تتجزأ للوجود المعقول، و حينما يدرك المرء حقيقة الوحدة تلك فإنه بذلك قد حقق السعادة التامة التي يطمح محب الحكمة أن يصل إليها. و بالرغم من مادية ديموقريطيس، فإن فلسفته توافقت نوعاً ما أيضاً مع سابقيه الفيثاغوريين، حيث رآى أن قيمة الإنسان آخر ما ترتبط به من الأشياء قوة الجسد، أما الإنسان فلا يعني شيئاً إن لم يتسم بالخلق الرفيع، و أن للسعادة معنىً ماديا عمليا و سماه باعتدال المزاج، و لا يحصل للمرء اعتدال المزاج و لا خلق النفس الرفيعة إلا حينما يكون عارفاً بحقيقة الخير الذي يحصل بالزهد.
و لم يكن الفيلسوف الكبير سقراط ليصمت عن هذا التأثير الذي أحدثه السوسفطائيون في عامة الناس، حيث كان يسعى بكل جهده للتوحيد بين الحكمة و السعادة بعد أن قام السوسفطائيون بفك الارتباط بينهما و جعلهما كذلك حالة خاصة بالفرد. فالوصول إلى الفضيلة حسب سقراط يجب أن يمر بالتساؤل و التأمل، فمن يدعي أنه نقي فعليه أن يسأل نفسه ما النقاء حقاً، و بطول التأمل و الاستفتاء المستمر يصل الإنسان بعد ذلك إلى الفضيلة و معرفة الخير و الحكمة. و إضافة إلى ذلك، فإن سقراط يربط بين المعرفة و الفضيلة و الجهل و الرذيلة، حيث أنه يرى أنه لا يمكن أن يسلك المرء طريق الرذيلة إلا إن كان في حقيقة الأمر جاهلاً بالفضيلة, فإن ادعى أحدهم بأنه عارف بالخير و الفضيلة و ناقضت أعماله تلك المعرفة فإن ذلك يعني أن ادعاءه كان عارياً من الصحة. و قد أثبت سقراط التزامه بهذه المفاهيم عملياً حينما قبل بحكم المحكمة بقتله بشرب السم ووجد سعادته في تطبيق الحكم عليه، لأنه كان يرى أن الفضيلة تتحقق في احترام القانون. و قد سار أفلاطون على نفس النهج الذي ساره سقراط، فأكد أن الفضيلة و المعرفة هما وحدة واحدة، و أن الفضيلة لا تتحقق إلا بالمعرفة، تلك التي تنتج عن التساؤل و التأمل. ويرى أفلاطون أن هناك فضيلة فلسفية و هناك فضيلة اعتيادية، حيث أن الأولى يختص بها الفلاسفة الذين يعرفون الفضيلة عن طريق إعمال العقل، أما الثانية فهي الفضيلة الاعتيادية التي ترتبط بحياة الناس الاعتياديين و التي تشمل اتباع التقاليد و العادات و يستخدمها السياسيون. ويبرز ارتباط الحكمة بالسعادة عند أفلاطون حينما نعرف أن الحكمة ممكنة حينما يوازن الإنسان بين الفضيلة الفلسفية والفضيلة الاعتيادية، و ينتج عن ذلك بلوغ السعادة الكاملة. و كذلك أكد الفيلسوف أرسطو على ما جاء به أفلاطون من التوحيد بين الفضيلة والسعادة، و أن الأخيرة لا يمكن أن تكون قرينة اللذات و مجرد الاستمتاع بها، بل على النقيض من ذلك بالزهد فيها. بينما جاء فلاسفة العصر الهللينستي بمفاهيم قريبة للحكمة و السعادة من تلك التي أتى بها السوفسطائيون كما تم توضيحه سابقاً من ارتباطهما بالفرد نفسه، و كأحد فلاسفة ذلك العصر، فإن أبيقور لديه نظرة شبيهة و مختلفة عن سابقيه في آن واحد. فهو وإن كان يسلم بأن السعادة تميل بالإنسان إلى كل ما هو لذيذ، فإنه بالمقابل يجد أن قدرة الإنسان على اختيار ما هو طبيعي وضروري هي المؤدية إلى شعور الإنسان بالرضا.
أما الرواقيون التابعون لنفس العصر الهللينستي، فإن الكاتب يسرد خمس صفات للحكيم الرواقي: إنه رجل بلا انفعالات لأنه لا يترك نفسه تسقط فيها، و الإخلاص و محاولة الظهور بأفضل صورة ممكنة، و إيمانه التام بالألوهية، و بأنه وديع و لا يضر نفسه و لا غيره، و خامس صفاته هي شعوره الدائم بالحرية رغم الإيمان بالحتمية و القدرية.
و إذا أمكنني أن أتحدث عن الحكمة و السعادة من منظور حديث فإنه من الممكن القول بأن هذه الفلسفة مازالت سارية حتى يومنا هذا منذ فلاسفة اليونان، فالصفة الخامسة صفة متعلقة بالجدليات الكلاسيكية المتعلقة بحرية الإرادة، فإذا كان المرء مؤمناً بالحتمية أفلا يجعله ذلك يقبل بالوضاعة إن كان وضيعاً و متقاعسا، و عليه، يسير إلى الرذيلة؟ لقد تحدث ستيفين هوكنج في كتابه التصميم العظيم عن لعبة حاسوبية تسمى لعبة الحياة، و الخلاصة التي نستنتجها من تلك اللعبة هي أن الإنسان لن يفعل ما سيفعله بعد ثوان من الآن إلا لأنه قد عاش ظروفاً ستجعله تلقائياً يفعل ذلك الأمر. إلا أن صفات الحكيم الرواقي تضع حلاً عبقرياً وإن كان قديماً لهذه المعضلة، فالحكيم الرواقي يجب عليه أن يؤمن على الدوام بأنه حر رغم إيمانه بالقدرية والحتمية، فنحن البشر على أية حال لطالما آمنا بالشيء ونقيضه لكي ننجو من فظاعة الحقيقة.
