ولـيد العبري
خيَّم على التاريخ اليهودي المسيحي جوٌّ من الخصام والعداء بين أتباع الملّتين، باستثناء القرن الأوّل الذي شهد في موفّاه خروج المسيحية من رحم المعبد اليهودي، وانفصالها وتشييدها هيكلها الخاص، بعد أن بقيت ردحاً من الزمن تُعرف بالمسيحية اليهودية. وبلغ ذلك العداء أعلى تطوّراته في حقبة اللاسامية، التي تخلّلتها فترات انفراج محدودة. ولم تهفت تلك المكابَرة الجادة من الطرف المسيحي إلا بانقشاع سطوة الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا. لقد كان تاريخ العلاقات اليهودية المسيحية تاريخ معاناة. أقرّ بذلك البابا يوحنا بولس الثاني في نداءاته المتكررة إلى الكاثوليك بغرض مراجعة علاقاتهم حيال الشعب اليهودي؛ إذ كانت حصيلة العلاقات بين الديانتين طول الألفيتين بالفعل سلبية. وهذا ما ناقشه الباحث عزالدّين عناية على صفحات التفاهم في مقاله "الحضارة اليهودية المسيحية للغرب المسارات والتحوّلات".
ففي البدء، ما تيسّرت الجرأة الوجودية للحوارين بعد غياب المسيح عيسى عليه السلام لبلورة خط مستقلّ حتى جاء بولس وبعض من رفاق التبشير الأوائل، فملؤوا المسيحية ثقة وإيمانا. خرجت المسيحية من ضيق هيكل مشترك إلى رحابة معبد مستقلّ، سمي لاحقا كنيسة، وبدأت في تأصيل عقائدها، وتقعيد لاهوتها، واستمر ذلك التباعد دهراً.
ومنذ أن غدت المسيحية ديانة الإمبراطورية الرومانية رافقت أوضاع الذلَة اليهود، ودفعت تلك الغلبة الهيئات المجمعية داخل الكنيسة للتضيق عليهم وإصدار القرار تلو القرار لضبط التعامل معهم، ومنها تحجير الزواج المختلط، وتحريم تكليف اليهود بأية مهام عمودية، وسلب اليهود حق مقاضاة المسيحيين.
لقد ظلّ الاتهام المسيحي حاضرا في اللاوعي الجمعي، تبرّره سندات من التلمود تلخَّص فها العداء اليهودي للمسيح، لعل أبرزها حديث التلمود عن عقوبة المسيح بإغراقه في خرء يغلي في الجحيم، أما اليوم بعد أن غدت تلك القرارات الكنيسية لاغية، شكّل وحدة تصورية دينية مشتركة بين الجانبين اليهودي والمسيحي، مع بقاء العلاقة بينهما مشوبة بالتوتّر، بسبب مقولة "الشعب قاتل الإله"، التي حافظت على ثباتها طيلة قرون، فلم يشفع التوافق الضمني بين الجانبين على قسم هائل من الكتاب المقدّس لتطهير العلاقة بينهما أو حتى تلطيف الأجواء.
استمر الموقف اليهودي من المسيح بأنه مجدّف، واستمرت الرؤية المسيحية لليهودية بأنه وريث قتلة الرب، ومع مطلع القرن التاسع عشر دبّت تحوّلات جوهرية في التعامل مع اليهود، سرَت في مجمل الدول الأوروبية، بلغ اليهود أثناءها وبشكل عام مساواة ضاهت مستوى نظرائهم من الرعايا المسيحيين، وبات عدد منهم يحتلّ مواقع مؤثرة في المجتمع؛ لكن تلك المستجدّات سرعان ما اصطدمت بنزعات قومية حانقة، وكان أوج تلك الموجة بصدور قوانين عنصرية في كلّ من ألمانيا وإيطاليا استهدفت اليهود.
وبقيت سياسة الفاتيكان تجاه اليهود مجارية في مجملها للخط السياسي النافذ في أوروبا لا متجاوزة له. وقال البابا بيوس العاشر بهدف توطين اليهود في فلسطين مقولته الشهيرة "إن اليهود لم يعترفوا بربّنا يسوع المسيح، ولأجل ذلك ليس بوسعنا الاعتراف بالشعب اليهودي".
لكن بسقوط النظامين الفاشي والنازي، وانخراط الكنيسة في بناء أوروبا ما بعد الحرب، توجّب عليها أن تحسم أمرها بشكل بات. وكان من جملة ما أُقرّ في المجمع الفاتيكاني "إن الكنيسة تشيد بالتراث الذي يجمعها باليهود، وتأسف لما اقتُرف من كره وظلم وعداء للسامية واليهود".
أتى طرح الحضارة اليهودية المسيحية للغرب بمثابة التكفير عن الذنب المقتَرف في حق اليهود، وذلك بضمهم إلى مكوّن الحضارة المهيمنة. وعقب تلك التحولات الجذرية تناوب بابوات ما بعد الفاتيكان الثاني على السير قدما نحو مقولة "الشعب قاتل الإله".
فممّا يتجلّى من التاريخ الكنسي الحديث أنّ مقولة التراث اليهودي المسيحي ما كانت حصيلة تطوّرات مستقلّة في اللاهوت المسيحي؛ بل أملتها تحوّلات فكرية ومسارات سياسية انساق فيها الغرب والتكتلات اليهودية.
لما تنبه العرب إلى مقولة " التراث اليهودي المسيحي المشترك" التي باتت علامة بارزة في خطاب الغرب وفي خطاب الكنيسة على حدّ سواء ذهب في ظنّ الكثيرين أن المقولة تستهدف بالأساس عزل أتباع الدين الإسلامي وموالاة الذين هادوا أينما كانوا، فضلا عن الريبة التي لازمت العرب بشأن آثار ذلك التقارب المسيحي اليهودي على مسألة القدس وعلى أرض فلسطين عموما. وهو ما جعل مداولات المجمع الفاتيكاني الثاني إبان مناقشة مقولة التراث اليهودي المسيحي المشترك تلقى اعتراضات وانتقادات من قبل ممثّلي الكنائس الشرقية. وهي في الحقيقة ريبة مبرّرة؛ إذ نجد من الغربيين من انتقد مفهوم الحضارة اليهودية المسيحية ناعتا إياه بـ"الهزلي"، فهو لا يضاهي من حيث الواقع والأثر مفهوم الحضارة الإسلامية المسيحية البالغ النفاذ والتطوّر.
ولا شك أنّ هناك مصالح يهودية مسيحية مشتركة بيّنة في التاريخ الحديث، وهو ما دفع نحو أشكال من التقارب والتعاون المتنوّع، وأما أن نردفها بأن هناك تراثا يهوديا مسيحيا مشتركا دون أن نضمّ له الجانب الإسلامي أو نتعمّد إقصاءه، فيبدو أن ذلك أمر فيه إجحاف، ولا يستقيم تاريخيا وعلميا، فالمكوّن اليهودي في الحضارة الغربية بات جليا ومعترفا به لأسباب سياسية، ويوازيه مكوّن إسلامي في الحضارة الغربية غدا خفيّا ومبعدا لأسباب سياسية أيضا.
والملاحظ أنه في الوقت الذي تبنّت فيه الكنيسة مقولة التراث اليهودي المسيحي المشترك، وسعت في الدعاية لها، وعمدت في الآن نفسه إلى الخوض بشكل ملحّ في نوع من الحوار مع المسلمين أيضا. هدف من جملة ما هدف له إلى تطبيع العلاقات الدينية، بعد قرون توزعت بين الوئام والخصام؛ بيْد أن مقارنة حصيلة تينك التجربتين تبدو متفاوتة؛ حيث بات العرب والمسلمون عرضة وبشكل متواصل إلى عديد أصناف الميز والضغط والحملات الإعلامية في الغرب في يومنا هذا، رغم مشروع الحوار الذي ودّت الكنيسة الغربية تدشينه في العالم الإسلامي.
وقد كان لابد من توضيح: هل كانت اليهودية في ذلك العهد الغابر لها مفهوم ديني أم مفهوم عرقي؟ ربما من هذا الجانب تجد بعض القراءات مشروعيتها باعتبار المسيح قبل ثورته على رجالات الهيكل كان منضويا تحت ديانة موسى بالمفهوم الديني وليس بالمفهوم العرقي المروّج له اليوم، وإلاّ أين نضع مسيحيي بلاد الشام باعتبارهم امتدادا لذلك التاريخ القديم؟
من هنا يبقى مفهوم الملّة الإبراهيمية مفهوما إسلاميا بارزا، وليس هناك من الأديان الثلاثة ما أقرّ به وسعى إليه مثلما فعل الإسلام. أما مفهوم الحضارة اليهودية المسيحية فيبدو دون تلك الرحابة بكثير، وهنا يكمن الفارق الجوهري في دلالات الانغلاق والانفتاح في المفهومين.
إلى أن تلقّف المفهوم فكرَ صدام الحضارات، الذي وجد مجالا خصبا منذ تواري الاتحاد السوفياتي وبروز العالم الإسلامي كإشكالية سياسية، فلاقى المفهوم انتعاشا بتنزيله إلى معترك الصراع الحضاري، ما أخرجه من الانكماش داخل الدائرة الدينية إلى التمدّد داخل التفاعلات الحضارية.
فقد مثّلت إشكالية تبْيئة التحديث في العالم الإسلامي إضافة إلى تعثّر المسار الديمقراطي، مبرّرا لأنصار المركزية الغربية للحكم على أن جوهر الإشكالية في تلك المجتمعات الإسلامية كامن في البنية الثقافية الدينية، التي باتت مطروحة في مقابل البنية الثقافية الغربية ذات الجذور التواراتية الإنجيلية كما يُزعم.