بسام الكلباني
تنطلق الحركة الإحيائية التي يشهدها عالم المسلمين اليوم والمعروفة باسم "الصحوة " من اعتبار أن للتراث الإسلامي كل القدرة على مواجهة واقع الهيمنة الحضارية الحديثة التي يمارسها الغرب على البلدان المتخلّفة حضاريا. يذكر الكاتب احميده النيفر في مقالته المعنونة (الوحدة والاختلاف في نهج التفاهم القرآني) في مجلة التفاهم على أن هذه المقولة المعتمدة على التراث وحده واقعة في حالة فصام تاريخي، إذ أنها من جهة أولاً لا تلتفت إلى طبيعة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية الهائلة التي عرفها عالم الإنسان منذ الثورة الصناعية والتي تسارعت وتيرتها بصورة غير مسبوقة مع الثورة المعلوماتية، ويتمثل إعراض الإحيائية الإسلامية أساساً في رفض استيعاب الخلفية الفكرية والمبدئية لتلك التغييرات، مما جعلها في قطيعة معها، فعجز عن تطويرها أو تجاوزها رغم إقرارها العلمي بأنه لا مفر من التعامل معها في مستوياتها الحضارية التقنيّة.
من جهة أخرى، استفادت حركة الصحوة من حالة ثقافية سائدة في عموم البلاد الإسلامية تتيح فاعلية خاصة للتصوّر الديني، مما يجعل الإنسان في تلك المجتمعات يبقى كائناً متديّناً، حتّى وإن عبّر عن تنكّره لتعاليم الدين وشعائره؛ لكن الملاحظ هو أن الاستفادة من تلك الحالة الثقافية لم تبلغ حد اكتساب التديّن الكامن في البنية الثقافية طبيعة وفاعليّة معاصرتين.
لقد ظل التديّن – في الغالب الأعم – شكليّاً وعاطفيّاً، فهو لا يكاد يبالي بالتناقضات السلوكية التي يقع فيها، أو لا يحسن الالتفات إلى المقتضيات الاجتماعية والفكرية والقيمية التي يفرضها الإيمان باعتباره منطلقاً يشهد به المؤمن على الناس، ويكون به فاعلاً في الواقع الإنساني المتجدّد، وبذلك نشهد اليوم حالة فصام مثنّى يغذّي كل طرف منه الطرف الآخر بما يعقّد حالة المسلمين بصورة خاصة، ويجعل بعضهم يفسر ذلك باستحالة دخول المسلمين جديّاً الأزمنة الحديثة. بقي أن نسأل: كيف يمكن تجاوز ذلك التديّن الخام بتحويله إلى فاعليّة ومعاصرة؟
للإجابة ثمة أكثر من مدخل؛ لكن تلك المداخل تتجمّع حول محور "الإنسان": ما هي طبيعته، وما موقعه في الوجود، وكيف يكون تعبيره عن ذلك الموقع؟
بالنظر إلى النص القرآني المؤسس لحضارة المسلمين نجد أنَّ "الإنسان" طرف أساسي فيه، وهو من جهة البناء القرآني وخاصيّته الدلالية يبرز كمصطلح مفتاحي له علاقة ترابط مع جملة من المفاهيم والثنائيات التي تشكّل فيما بينها تكاملاً ونظاماً مفهوميا واحدا: الله والإنسان، النبي والتاريخ، الشريعة والأمّة، العالم والآيات، آدم والخليفة، تشكّل جميعها شبكة مفاهيمية واحدة تجمع بين مفرداتها صلات ترابطية تمثل العنصر القاعدي الموجه في كامل الخطاب القرآني. يطبع هذا العنصر بصبغته الأصلية كل عبارة أو مفهوم أو مصطلح متضمّن في ذلك الحقل الدلالي، لكن أهميّته تتجاوز هذا المجال المفاهيمي لتحدّد الحامل المنهجي القاطع مع الفهم التجزيئي، الذي يتخبّط فيه المسلم المعاصر في مواجهته لكبريات القضايا الحضارية المطروحة عليه وعلى الإنسانية.
المقاربة الدلالية لمفهوم "الإنسان" في اللغة القرآنية تضعنا أمام أبعاده الجديدة التي تنضاف إلى المعنى العادي للإنسان، والتي يكتسبها من النظام المفاهيمي، والترابط الذي يوجده البناء العام في القرآن الكريم. مفهوم الإنسان في المعجم القرآني مختلف نوعيا عما هو عليه في الاستعمال القديم أو الحديث، وفي السياق القرآني لا تتناقض دلالة "الإنسان" مع التعاريف القديمة والحديثة؛ لكنها متميّزة عنها في آن؛ ذلك أن الدلالة القرآنية لا تستمد من العبارة ذاتها فحسب؛ لأن الاقتصار على لفظ الإنسان غير كاف، باعتبار أنه ليس من أهم الألفاظ القرآنية تداولاً، وبهذا فإن "الإنسان" في المعجم القرآني مخاطب بالوحي فهو "الخليفة"، خليفة الله.
بقيت المعضلة الكبرى للإنسان القرآني هي الإجابة على السؤال: كيف يمكن أن نعيش سويّاً ومختلفين؟ هل يتيح الخطاب القرآني إرساء حداثة إسلامية تطرح قضيّة "التعدديّة" بصورة فاعلة تجعل حظوظ الأمّة أوفر بفضل التعايش المثري بين المنظومات الثقافية والدينية والفكرية المختلفة؟
للإجابة لا بدَّ من التنبيه على أن خطاب القطيعة الرافض للمعاصرة المعتمَد في عموم التوجه "الإحيائي" يسقط من تقديره أن الإنسان القرآني لا يمكن أن يولد اليوم بصورة ذاتية تنكر تحوّل الذات وتعرض عن فهم الآخر، وهو لذلك مطالب بالتخلّص من الرؤية التقليدية للهوية أولاً، ومدعوٌّ ثانياً إلى تمشٍ تأسيسي لمشكلة العلاقة بالآخر المخلتف.
من أول مقتضيات الإجابة عن سؤال: كيف يمكن أن نعيش سويّاً ومختلفين؟ ضرورة تأسيس عقدي وفكري لقضية الوحدة والاختلاف لمواجهة الخطاب الذي لا يرى في التعدّد إلّا مجرد عرض طارئ يمكن الرضا به مؤقتاً في الواقع الاجتماعي والسياسي والذي ينبغي تجاوزه لا محالة. مؤدّى القول بهذا التأسيس هو اعتبار أن ولادة إنسان أصيل – أي فاعل في العصر- مرتبطٌ عضوياً بمسألة العلاقة بالآخر، بما يحوّلها إلى قضية مفصلية، تتنزّل ضمن رؤية معتمدة ومحكّمة منبثقة من قراءة منهجية للنصوص المؤسسة.
ولكن، كيف يمكن – انطلاقاً من نص الوحي في ضوء الاعتبار الثقافي الذي وقعت الإشارة إليه - الإجابة على سؤال العصر؟ وكيف أفصحت آيات القرآن الكريم عن مفهوم الاختلاف؟ وهل تتوفّر للآيات القرآنية موجهات منهجية لهذه المسألة؟
إن بدأنا بجانب المضمون، فإن مسألة التعدّد ترد في القرآن الكريم ضمن حقل دلالي واسع تحدده عبارات مرتبطة بمقصد الخلف، وما اتصل بمجالي الإيمان والكفر من معاني "التعارف" و "العفو" و "الإكراه" و "التذكير"، وما ارتبط بسنن التاريخ وحراك المجتمعات. تتقاطع ضمن هذا الحقل الممتد جملة من الدوائر مجسّدة قيمة جديدة بالنسبة إلى مجتمعات قديمة كانت لا تفصل بين التديّن والروابط الاجتماعية المقيّدة منزّلة مفهوم الإنسان ضمن خطاب امتثالي، يقصره على فرديّة آسرة وعشائرية طاغية.
لقد كان مبدأ "لا إكراه في الدين" خطوة حاسمة تحدّى بها الخطاب القرآني النسق الثقافي والديني السائد، سواء أكان متمثلاً في الوثنية أم في النصرانية أو في اليهودية أم في غير ذلك، وأساس هذا المبدأ الجديد، - زمن النزول وفي كل آن – يرتبط بمفهوم الاستخلاف وبالخصائص الأساسية للإنسان المستخلف التي سبق ذكرها، ويتعلّق مبدأ "لا إكراه في الدين" في قضيّة صميمية هي مفهوم "الحق"، وتكشف هذه القضية جانباً مؤسساً في البنية القرآنية حين نقرأ: " وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ". تتدعم قيمة التعدد واحترام الاختلاف في دوائر أخرى مثل قوله تعالى " وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ". أو قوله: " وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ". أما في جانب العلاقات بين المجموعات، فالآيات تؤكد على مساواة الناس أيا كانت معتقداتهم، ومن ثم يتقرر مبدأ التعدديّة من خلال قوله تعالى: " وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ". أو قوله: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ".
في ضوء هذه العناية القرآنية التي تعمل على تجاوز حصرية الحق في طائفة أو ملّة يُستَنبت الإنسان ليكون الكائن المتميّز والمتجدّد باستمرار. إنّها ولادة تستدعي رؤية للذات وللجماعة وللآخر المختلف تسمح بتركيز بناء حضاري مبدع ومفتوح على مخلتف الجهود الإنسانية.
