أوروبا ورأسمالية العلم الحديث

عبدالله الشحي

في المقال الذي حَمَل عُنوان "الإسلام والعلوم الحديثة: لماذا ازدهر العلم الحديث في أوروبا وليس في أي مكان آخر؟"، والمنشور بمجلة "التسامح"، يُنقِّب الباحث جورج صليبا عن جَوَاب لسؤال ضروري حول سبب ازدهار العلم في أوروبا دون غيره من العالم، مُناقشا ذلك من ناحية اقتصادية، إضافة لبعض العوامل الأخرى التي مهَّدت الطريقَ نحو صعود نجم العلم في أوروبا.

لَطَالَما دَفَعت الإنسانَ رغبةٌ عارمة بفهم آلية عمل الطبيعة من حوله، مقرونة برغبة في تسخير تلك الطبيعة، ويُمكننا أن نفترض أن هذا هو المحرك الأول والعامل الأهم الذي أسهم في تشكيل أول بدايات العلم الحديث. كان مجرد المعرفة هو الهدف الأسمى والغاية الأولى من القيام بالبحث العلمي كأعمال جاليليو وحسابات نيوتن وأبحاث فراداي وملاحظات داروين، إنَّ أيًّا من هؤلاء لم يكن يبحث بالضرورة عن عوائد مادية أو أرباح تجارية في تجاربه، ولكنها كانت محاولات للفهم. إنَّ أعمال أمثال هؤلاء -التي بدأت بعد منتصف القرن الخامس عشر- هي التي شكَّلت لبنات العلم الحديث وثورته الضخمة، مُكتسحا طرق التفكير الأخرى، ومتخذا من نفسه -أي العلم- الأداة الأوحد لمنح المعرفة.

وعلى النقيض من توجُّه بعض العلماء في السعي نحو المعرفة، فإنَّ غالبية الناس تريد شيئا يُمكن الإفادة منه، واستخدامه في الحياة العملية، أي تحقيق المنفعة التي تترك أثرها في معيشة الشخص، أو منح نوع من التطبيق لتلك المعرفة. ولا ينفع عند هؤلاء أن يقضي الباحث وقته في البحث والاكتشاف في غير ما يحقق مصلحة مباشرة؛ مما يؤدي لخلق تفضيلات فيما يجب البحث فيه، ولأنَّ الباحث محتاج لتوافر الإمكانيات البحثية كالمختبرات وأدوات التجارب والبيئة، إضافة لحاجاته الشخصية الأساسية، فإنَّ مجال بحثه لابد أنْ يكون مُقنعا لمن يقوم بتمويله.

وما قد يَبْدُو في ظاهرِه تنافسا من أجل إنتاج العلم كالمنافسة بين الشركات في إنتاج الأدوية أو تقنيات الاتصالات، هو في الحقيقة تنافس تجاري بحت مبني على فكرة استثمار المعرفة العلمية وإدخالها في عملية صراع اقتصادي، بُغية التفوق على المنافسين واكتساح السوق. ولا يبدو للوهلة الأولى أنَّ هناك أية بوادر جيدة قد تأتي من تحويل العلم إلى رأسمال، لكنَّ الواقع يقول عكس ذلك، فالمستثمرون يدفعون أموالا طائلة لتوفير المستلزمات الضرورية للأبحاث العلمية، تلك الأبحاث التي يعلقون آمالا على نتائجها.

بَيْد أنَّ التاريخ يحكي حال الدولة الإسلامية وعصرها الذهبي في دعم العلماء والباحثين، وربما بشكل خاص في عهد المأمون الذي اهتمَّ بالفلسفة والطب والرياضيات، إلا أنَّ هناك عوامل حالتْ دون نشأة علم مُتكامل في دولة الإسلام على غرار ما حصل مع أوروبا. ويشير الكاتب إلى وجود عوامل مختلفة ولكنه يتحدَّث في مقاله عن العامل الاقتصادي حصرا، وبالذات فكرة استثمار العلم كرأس مال. فالعلم يملك القدرة على الاختراع والاكتشاف؛ مما يعني دخول أشياء جديدة حيز الاستثمار بشكل مستمر، كتطوير أنواع أفضل من السفن أو الأسلحة أو وسائل الترفيه والأدوات الطبية؛ لهذا يعتبر الكاتب العلم رأس مال يمكن استغلاله والانتفاع منه، بل إنَّ صفة القابلية للنفع هذه تشجع التنافس والتسابق في سبيل توسيع العلم وتسخير كل ما ينتجه.

ولا يغفل الكاتب عن ذكر تحول مهم في الأحداث؛ ألا وهو قيام أوروبا باكتشاف أمريكا والطرق التجارية الجديدة التي لم تكن تمر بأراضي الحضارة الإسلامية؛ مما تسبَّب في تقليص ثراء الدولة الإسلامية؛ وبالتالي تضاؤل فرص التقدم العلمي بشكل كبير. إنَّ ضربة الحظ تلك التي صادفت أوروبا قلبت الموازين في العالم؛ حيث أعادتْ رَسْم خارطة العلم مرة أخرى، وضَمِنَت لأوروبا أنْ تتبوأ مكانة مهمَّة اليوم. وليس أدلَّ على ذلك من تلك الأسماء البارزة التي أثْرَت العلم وطورته واكتشفت النظريات والقوانين العلمية، وبغضِّ النظر عن كَوْن العلم الذي تطور في أوروبا قد أسهمت فيه حضارات أخرى غيرها، يبقى جديرا بالذكر أنَّ إسهام أوروبا كبير جدًّا، وهذا دأب كل العلوم والفلسفات على أية حال، تخلق في مكان وزمان وتنمو وتتفرع نتيجة الإضافات التي تتلقاها عبر مختلف الحقب وبواسطة مختلف العقول.

ويقترح الكاتب -إضافة إلى ما سبق- أنَّ الإسلام يمنع احتكار العلم "من كتم علماً بما ينفع الله به في أمر الناس ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار"، وهذا أدى لتأخر بل تعطيل رسملة العلم حتى فترة متأخرة جدا من التاريخ عند المسلمين، وأنَّ العواقب الأخلاقية التي تأتي من ذلك قد تتطلَّب من المسلمين جهدا لحلها. مع أنَّه من الممكن الافتراض بأنَّ هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي تتحدث حول العلم إنما تُعنى بالعلم الشرعي فقط، إلا أنَّ المعارف التجريبية تعتبر علوما نافعة يدخلها البعض في معنى الحديث.

وعند النظر جيدا في عملية تحويل العلم إلى رأس مال، فإنَّ العملية قادرة على جلب بعض المنافع؛ أهمها: تأكيد استمرارية تطور العلوم والحرص على استغلاله بأكثر ما يمكن. وعلى الجانب الآخر، يؤدي ذلك إلى إحداث احتكار خطير في المعرفة ووضع نتائج الأبحاث في أيدي قلة من الناس تجعلهم في محل القوة والإخضاع. وأوْضَح مثال على ذلك اليوم هو الصناعة الدوائية التي تكبِّد الناس والحكومات أمولا طائلة من أجل الحصول عليها ممن يملكون حقوق تصنيعها وبيعها.

وأَرَى أنَّه يُمكن التقليل من كلِّ هذه العواقب عبر تكثيف دعم الحكومات والمؤسسات المستقلة وغير التجارية للأبحاث العلمية، والقيام بالتبادل المعرفي بين المؤسسات البحثية والعلمية المختلفة، يُضاف إلى ذلك إمكانية سن القوانين من المنظمات العالمية المختصة بضرورة عدم احتكار العلم والاستئثار بالنتائج البحثية المفيدة للبشرية، مع التأكيد على عدم ضياع جهد الباحثين ومكافأتهم بما يتناسب مع جهودهم المبذولة.

ويتَّضح أنَّ قضية رأسمالية العلم ليست شيئا يُمكن الاستهانة بها، خصوصا مع التقدم المتسارع في مختلف جوانب المعرفة العلمية اليوم. وبالطبع، سيتطلب حل المشاكل المرافقة لذلك تعاونا مكثفا من جهات مختلف الجهات، خصوصا تلك المتعلقة بالأنشطة البحثية.  

أخبار ذات صلة