فلسفة التأويل عند ريكور: ثنائية المنطق اللاهوتي والمنطق الفلسفي

كامل السوطي

يرى الباحث الجزائري عمارة ناصر بأن هرمينوطيقية بول ريكور تستخدم منهجاً لغوياً غير قادر على الإقناع بالعمق الكافي، برغم أن منهج ريكور في الوقت نفسه يضع مهمة التأويل الفلسفي معنيةً بالخطابات غير الفلسفية كالدين والسياسة والأدب والقانون، إلا أن ريكور في ذات الآن يضع شرطاً يوضح حدود اشتغال الهرمينوطيقا في تلك الفنون أو الحقول وهو أن يكون مصدرها تيولوجياً أو دينياً، حيث يصبح من الممكن أن تعمل فلسفة التأويل في مجال الرواية الأدبية على سبيل المثال مادام مصدرها أو أصلها تيولوجياً كرواية دان براون المسماة "شفرة دافينشي".

ولكن من المهم أولاً الحديث عن ماهية الهرمينوطيقا، حيث إنه من الممكن القول بأنها تعني فلسفة التأويل أو بشيء من الإسهاب هي المنهج الذي من خلاله نستطيع فهم النصوص الدينية بشكل خاص وبقية النصوص عموماً. ومن الممكن كذلك السؤال عن حاجتنا للهرمينوطيقا، فلماذا نحتاجها وإذن كيف نشأت؟ حيث نشأت الهرمينوطيقا بمعية ظهور البروتستانتية خلال القرن السادس عشر كمذهب ديني منشق عن الكنيسة الكاثوليكية ومعارضاً لها، والسبب وراء ظهورها - أي الهرمينوطيقا - هو أنه بوجود الكاثولوكية كمذهب سائد وحيد في اوروبا وفي معظم أقطار العالم، كان البابا أو صوت الكنيسة هو الذي يقرر للناس معاني أو تأويلات نصوص الكتاب المقدس، فلا حاجة إذن لمنهج مختلف لفهم النصوص مادامت هنالك مؤسسة دينية واحدة تحتكر تلك المعاني.

وهذا حاصل في العالم الإسلامي بهيئات متعددة ومتباينة حيث يحتكر فهم القرآن أو المدونة الحديثية شخصيات محددة ومؤيدة إما سياسياً أو شعبياً أو كلاهما. تحولت الهيرمنوطيقية لاحقاً من حقل مهتم بفلسفة تأويل النصوص الدينية المسيحية إلى فلسفة تأويل النصوص بشكل عام، أي في شتى المجالات والحقول كالأدب والقانون. يطرح الكاتب عمارة ناصر سؤالاً مهماً حول علية استناد فلسفة تأويل بول ريكور على علم اللاهوت المسيحي حيث يرى أن ذلك عائد إلى شقين اثنين أحدهما هو حقيقة أن بول ريكور مسيحي الديانة ولذلك لن يكون من المستغرب أن يكون مدافعاً عنها عاملاً عمل الفيلسوف الذي سيخرجها من قبضة الحداثة إلى القيم العملية التي يؤطرها منهج خاص بها. أما الشق الثاني فهو متعلق بحياة الرمز داخل التجربة الدينية المسيحية التي رافقتها مفارقة البعد التاريخي مع البعد الأسطوري، لكي ينتج عن ذلك في نهاية المطاف آثار متعددة للرمز على التجربة البشرية في مختلف المجالات كالقانون والأخلاق والسياسة.

حيث ينشيء ريكور بذلك الازدواج نوعين من الهرمينوطيقا، أحدهما تيولوجية مهتمة بالمعنى بغرض إحيائه وإظهاره والأخرى فلسفية الغاية منها تطوير الهرمينوطيقا التيولوجية وتفعيلها في حياة الواقع الاجتماعية، تعملان كدائرة واحدة تغذي كل منهما الأخرى. ويطرح ريكور ما يسميه بالبلاغة المتكاملة، تلك التي تجمع بين المنطق التيولوجي والمنطق اللغوي لتكوين المنهج الحجاجي لهرمينوطيقة ريكور، شاملةً - أي البلاغة المتكاملة - ثلاثة مستويات وهي مستوى المنطق اللغوي شاملاً النحوي والمعجمي، ومستوى المنطق التيولوجي شاملاً القيمي والتداولي، واجتماعهما معاً يشكل المستوى الدلالي. ويرى عمارة ناصر أن بول ريكور يستخدم فلسفةً هرمينوطيقية مرتبطة بإشكاليات ثلاث لا تسير مساراً واضحاً واحداً وإنما تتداخل وتتقاطع مستخدماً التعاليم المسيحية في معالجة تلك الإشكاليات، وهي إشكاليات الذات والنص والفعل، أي ذات الفيلسوف والنص الإنجيلي الذي هو بصدد تأويله والفعل الذي ينتج عن تلك القراءة التأويلية.

ويقول ريكور في كتابه “في التفسير: فرويد نموذجاً” التالي: “إن التعليل الهرمينوطيقي لا يمكن أن يكون جذرياً إذا لم نبحث في طبيعة الفكر التأملي نفسه عن مبدأ لمنطق المعنى المزدوج، مركباً وليس اعتباطياً، دقيقاً في تمفصلاته، ولكن غير مختزل إلى منطق رمزي، هذا المنطق ليس منطقاً صورياً، ولكنه منطق متعال، إنه مؤسس على شروط الإمكانية وليس على شروط موضوعية لطبيعة ما”.

ويقصد ريكور بذلك أن المنطق التيولوجي هو الحاكم المتعالي الذي يصبح الأساس في العمل الهرمينوطيقي، إلا أن ذلك ينتج عنه إشكالية مهمة متعلقة بذات الفيلسوف الذي يقوم بالعمل الهرمينوطيقي، فإذا كان مؤمناً أو أن ثقافته وأفكاره المسبقة منتمية إلى العقيدة نفسها التي يمثلها النص فإنه بذلك سينطلق مع افتراض أن جميع المقدمات التيولوجية التي يقدمها النص صحيحة ولا ريب فيها، فتبرز إذ ذاك مفارقة أخرى ناقشها العديد من الفلاسفة ومنهم هايديغر وجادامير وهي هل من الممكن أن يفصل المرء ذاته عن انطباعاته وتجاربه المسبقة ليكون قراءة تأويلية موضوعية للنص قيد التأويل؟ وهذه إشكالية تظهر مع الفيلسوف الذي لا ينتمي إلى نفس العقيدة التيولوجية للنص قيد التأويل، حيث يرى هايديغر وتلميذه جادامير أن ذلك ضرب من المستحيل.

وفي المقابل أشار بعض الفلاسفة أن المهم في الأمر لا يكمن في إشكالية فصل الذات عن الإنطباعات المسبقة ولكن في القيم المتعالية المستنبطة التي ستؤثر لاحقاً على الحياة الإجتماعية والقانون وغيرها من المجالات. وعلى إفتراض أن الفيلسوف غير المنتمي إلى نفس العقيدة التيولوجية قد تمكن من فصل انطباعاته المسبقة عن ذاته فإنه سيكون لزاماً عليه أن ينطلق من مقدمات غير تيولوجية وإنما إلى المقدمات العقلانية للخطاب الفلسفي التي يستنبطها ريكور من الأصل التيولوجي مرة أخرى، لتنشأ بذلك حلقة أو دائرة غير منقطعة من الحجاجية المنطقية التي تراوح بين الخطاب العقلاني والتيولوجي كنهرين اثنين يغذيان بعضهما البعض.

أخبار ذات صلة