المصالح الفقهية وأثرها في حياة الإنسان

وليد العبري

تُعد المصالح الشرعية إحدى الأسس والقواعد التي تستند إليها المذاهب الفقهية الإسلامية قديمًا وحديثاً، ولذلك ظلت هذه المصالح إحدى الأصول المرجعية التي تقيم عليها هذه المذاهب منهج فهمها وتفسيرها للنصوص، وطريق اجتهادها في الحوادث والنوازل، وسبيل تفاعلها مع الواقع، ورسم مقارباتها، وحلولها لمستجداته وتطوراته. هذا ما ذكره نور الدين الخادمي في مقاله المنشور بمجلة التفاهم تحت عنوان "مراعاة المصالح في المذاهب الفقهية الإسلامية". وهنا، تلخيص للمقال:

هدف الحديث عن المصالح المعاصرة، والمذاهب الفقهية المعاصرة، والجدلية القائمة بينهما، هو التوعية بأهمية الأداء المذهبي المعاصر، وأثره في الفعل الشرعي الإيجابي والإسهام العالمي، على صعيد التعبد والإنتاج والتحضر، وعلى مستوى مختلف الفروض والتكاليف العينية والكفائية.

تعد المصالح إحدى المقولات الإسلامية التي احتفت بها نصوص الشرع وكلام أهل العلم من الدارسين والمحققين. والاحتفاء البالغ بالمصالح تعددت مستوياته في الخطاب الشرعي والأداء الإسلامي عبر عصوره وصوره، وهو المعبر عنه بأدوات وصيغ وكيفيات تقرير المصالح في الأنظار والأذهان، وفي الحوادث والأعيان، وهذا الذي درج العلماء على اعتباره طريقا لبيان المصالح وبيان مراتبها وحجيتها وآثارها في فهم الأحكام واستنباطها وتنزيلها.

ومما يزيد تأكيد هذا الاحتفاء الكبير بالمصالح في نصوص الشرع ما أقرته السنة الشريفة من تعضيد وإسناد وتفصيل وتفسير لنصوص القرآن المتناولة للمصالح، فتكوّن من مجموع النصوص القرآنية والنبوية قيام المصالح ورسوخها ودوام استصحابها وتقرر انضباطها واطرادها؛ بموجب التأسيس والتعميد من قبل النصوص المباركة المجيدة.

وكان احتفاء العلماء بمقولة المصالح قد تفاوتت أقداره واعتباراته، واختلفت عباراته وسياقاته، وتنوعت مجالته وجواباته، وهو دال على التفات غير يسير لهذه المقولة، نظرا وفكرا، أداء وعملا، تأصيلا وتفريعا، تصنيفا وتأليفا، توجيها وتنويهاً، وشواهد هذا الاحتفاء كثيرة ومتداخلة ومتوافقة ومتقاربة، ويمكن ردها إلى خمسة:

المشهد الأول: نصوص أهل العلم الصريحة في مراعاة المصالح والالتفات إليها والتعويل عليها، والأقوال والمرويات في ذلك كثيرة جدا، منها: ما روي عن الإمام مالك من أنه لم يلتزم الالتفات إلى المعاني في قسم العبادات بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول، فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريف في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع ألاّ يخرج عنه، ولا يناقض أصلاً من أصوله.

المشهد الثاني: أصول المذاهب الفقهية واتجاهاتها في فهم الأحكام وتفسير النصوص وفي الاجتهاد والإفتاء والقضاء، فمن هذه الأصول: أصل المصلحة الشرعية بكل متعلقاتها الأصولية والمنهجية الاستحسانية والقياسية والعرفية والذرائعية.

المشهد الثالث: فروع المذاهب الفقهية والتي أقيمت طوائف عظمى منها مراعاة المصلحة المباشرة، مع التفاوت الملحوظ في الأوجه المصلحية والنواحي المنفعية التي استند إليها في تقرير تلك الفروع.

المشهد الرابع: قيام المذاهب الفقهية ذاتها، واستمرارها في العالم الإسلامي وفي الواقع القضائي والإفتائي والحياتي بوجه عام، فقيام هذه المذاهب دليل جلي على مقوماتها التشريعية والمنهجية التي تمثل المصلحة الشرعية المقبولة أحد أبرز قواعدها ومستنداتها.

المشهد الخامس: تأثير مذاهبهم الفقهية في الواقع الاجتماعي والمحيط الإنساني والإداري والدولي، من خلال أدوار هذه المذاهب في التقنين والسياسة والتثقيف والتوعية والإسهام الحضاري بمختلف جوانبه وصوره.

والخلاصة أن مقولة المصالح قد لازمت أهل العلم، أو أن أهل العلم قد لازموا مقولة المصالح في مختلف أعمالهم العلمية وأدائهم الوظيفي، في الإفتاء والاجتهاد والقضاء، وفي الخطابة والمداخلة والمجالسة، وفي العلاقة بالسلطة السياسية والمجتمع المدني والعالم الخارجي، فضلاً عن واجب التعبد الخاص وإقامة فروض العين.

والمذاهب الفقهية الإسلامية كلمة اصطلاحية يراد بها مجموع فروع وأصول وقواعد واصطلاحات فقهية لطائفة من طبقات العلماء مؤسسين وأصحابا وأنصارا وأتباعا، كما يراد بها مجموع اتجاهات الفهم والتفسير والاجتهاد والتنزيل، وتتمثل ما يمكن أن نصطلح عليه بالمدارس الفقهية، مع التفاوت الملحوظ في أحجام هذه المدارس ومعالمها وسيرورتها التاريخية ومنجزاتها الحضارية ومختلف مآلاتها ومصائرها.

وتتأسس هذه المذاهب الفقهية على المرجعية الإسلامية النصية والاجماعية والاجتهادية، مع ملاحظة التفاوت الحاصل في اصطلاحات هذه المرجعية، وتنوع أصولها، ومجموع مداركها المتعددة، وهو الأمر الذي حمل أهل العلم على تفصيل هذه المرجعية وتفكيكها إلى عناصر يُفهم مهنا طبيعة المذاهب، ومعلمه العام، وتوجهه الأكبر في الاستنباط.

والتفاوت الحاصل في الاستناد إلى المرجعية يتحدد في ضوء تفاوت هذه المذاهب في مقادير واصطلاحات وتداخلات هذه المرجعية وتفاصيلها، فأحيانا يتسم مذهب ما بكثرة الرجوع إلى النصوص والآثار والأقوال والاستصحاب؛ ولذلك يتسم بكونه مذهبا نصيا أو سلفيا أو نقليا، وأحيانا أخرى يتسم مذهب آخر بكثرة إجراء النظر والفكر والتعليل والقياس والاستصلاح؛ فيُقال بأنه مذهب الرأي والنظر والاجتهاد المصلحي والمقاصدي.

وأهل النقل- وإن كان حظهم الغالب مراجعة النصوص والنقول وتحكيمها- غير غافلين عن التعليل والاستصلاح والتقصيد، وكذلك أهل النظر والرأي؛ فإنهم مستندون إلى النصوص والاجتماعات والمرويات، وإن كان مجمل مذهبهم وظاهره التعويل على الأقيسة والمصالح والمقاصد.

بين المصالح والمذاهب الفقهية تلازم مطرد، مع ما ذكرناه من وجود التفاوت في مقادير ذلك ومستوياته، وهذا التلازم تحتمه طبيعة هذه المذاهب وأعمالها ومظاهر ذلك وشواهده، وفي الاجتهاد على وفقها، بشروط ذلك وكيفيته المنضبطة السوية، ويكفيني في هذا المقام الإشارة إلى بعض الشواهد الدالة على ذلك باختصار شديد:

- تصريحات أصحاب المذاهب باعتماد المصالح، سواء باعتبارها كلمة تجري على ألسنتهم، أو اعتبارها أصلا من أصول الاستنباط، أو اعتبارها تفاصيل حكم وأسرار وتعليلات مصلحية انيطت بفتاويها وأحكامها المتعلقة بمسائلها وحوادثها.

- مشروعية هذه المذاهب وطبيعة محتوياتها الشرعية؛ فهي تعتمد على النصوص والأحكام الشرعية ومجمل قرائن ذلك ودلالاته.

- مشروعية هذه المذاهب وطبيعة اتصالها بالواقع والحياة؛ الأمر الذي يدل على التفاتها إلى مصالح الناس ومراعاة واقعهم وسد حاجياتهم.

والجزاء أساساً في الزاد المعرفي لأعلام المذاهب وأصحابها، وسمة من سمات ملكاتهم الاجتهادية النظرية والعملية على السواء. وخلاف ذلك محمول على ضرورة تحريره وتحقيقه؛ بغية رفع اللبس ودرء الخلاف اللفظي.

ويمكنني في هذا المقام إيراد مستويين اثنين بارزين لرعاية المصالح الشرعية من قبل المذاهب الفقهية المعاصرة وهما:

المستوى الأول: الأداء الوظيفي الفقهي: وهو المعروف على الصعيد الفقهي وبيان أحكامها، والاجتهاد في النوزال وتقديم الفتاوى والقرارات والحلول الفقهية.

المستوى الثاني: الأداء الوظيفي الإسلامي والإنساني بوجه عام: وهو المعروف بالوظيفة التي يمكن للمذاهب الفقهية القيام بها في الحياة الإسلامية بوجه عام، ودون أن تقتصر على الأداء الوظيفي الأول المنحصر في الداخل الإسلامي أولا، ودون ملامسة الواقع الإنساني، أو المنحصر في دائرة أحكام العبادات والمعاملات والأسرة ثانيا.

والخلاصة أن هذه المصالح تهدف إلى تقرير معنى العبودية في النفوس والواقع والحياة، وجلب منافع الناس ودرء الضرر عنهم في الدنيا والآخرة. وكل هذا يحصل بمنهج الجمع والترجيح والتقريب والمقاربة وفعل الممكن وتقديم الأولى ومراعاة الحال وتقديم المناسب.

ونحن نأمل من مذاهبنا الفقهية المعاصرة أن تعايش واقعها، وتشارك غيرها في صناعة القرار وإحداث الإعمار، وأن تقدم المقاربات الفقهية الواسعة والماتعة والشاسعة، وأن تحدث النقلة الحضارية والجودة التنموية والإضافة النوعية بكل مكوناتها وصورها وأبعادها.

 

 

أخبار ذات صلة