بسَّام الكلباني
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد تراجُع حِدَّة النزاع بين المعسكرين الغربي والشرقي، والذي انتهى بانتهاء الحرب الباردة وتوحُّد الألمانيتين، وسقوط أنظمة شيوعية في بولندا ورومانيا، فضلاً عن تفكُّك الاتحاد السوفيتي؛ صارَ من الضروري البحث في شتى السبل التي تَسْمَح بنشر ثقافة حقوق الإنسان على أوسع نطاق مُمكن؛ من أجل أنْ تتحوَّل تلك الحقوق والمبادئ ضِمْن مُكوِّنات الممارسة اليومية للبشر، ولتقطع بذلك التصور السائد الذي جعل من تلك الحقوق والمبادئ مُحتكرة من قِبَل نخبٍ فكرية وسياسية كثيراً ما وظَّفتها لخدمة صالحها الخاص، والتي جَعَلت باقي شعوب العالم أمام أزمتين: التصديق أو الشك في زيف الادعاء في كل ما جاءت به المنظمات الحقوقية؛ لذا كان لابد من السير في سبيل تربية حقوق الإنسان.
يَذْكُر الكاتب مُحمَّد بالراشد -في مقاله "التربية على حقوق الإنسان..المبادئ والكفايات"- أنَّ للمدخل التربوي دوراً ناجحاً في نشر قيم حقوق الإنسان وثقافتها وإشاعتها بين البشر، لتخرج من حيز النصوص إلى حيز التنفيذ، ومن طوباوية التخيلات إلى واقعية التمكين. إذ يظل التساؤل مشروعاً حول الأسس التي يجب أن يرتكز عليها المدخل، والتي من شأنها أن تيسِّر عملية استيعاب تلك القيم وتبنِّي التلاميذ مواقفَ إيجابية منها، كما يتوجَّبُ إيضاح الكفاءات التي لابد للطالب أن يمتلكها حتى ينزع عن حقوق الإنسان تلك النزعة التجريدية التي تحولها إلى مفاهيم ومقولات نظرية تتداول في الخطابات السياسية والإعلامية لا غير، ولقد تشبَّعتْ العقول الناشئة في الأوطان العربية بعِدَّة ممارسات مؤدلجة في سبيل الإطاحة بعدة مفاهيم معاصرة كالحرية والعدالة الاجتماعية وقيم الليبرالية والعلمانية، والتي نجح الإعلام العربي في بثها على شكل طفيليات وخلايا مسرطنة تُشكِّل خطراً على القيم العربية والثوابت والمسلمات - على حد تعبيرهم. لذا؛ كان لِزَاماً الإجابة عن هذين السؤالين بما يُسهم في تقديم تصوُّرات ومُقترحات تجعل من التربية على حقوق الإنسان نشاطاً تربويًّا تُرَاعى فيه الأبعاد المختلفة، وتدخل في نطاق الكيان العربي من بابها الرحب، وأهدافها السامية؛ عِوَضاً عن مفاهيم مشوهة ومغلوطة.
يُمْكِن تعريف حقوق الإنسان بأنَّها تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا، والتي لا يُمكن من دونها أن نَحْيَا كبشر، أي أنَّ الإنسان بحقوقه، فإذا كان كامل الحقوق كان كامل الإنسانية، وإذا انتقص حق من الحقوق كان ذلك انتقاصًا من إنسانيته، وكلما تعدَّدت الحقوق التي تُسلب من الإنسان؛ يكون الانتقاص من إنسانيته بنسبة ذلك المقدار، ويرتكَّز مفهوم حقوق الإنسان على ثلاثة محاور أساسية؛ أولها: المنتفع بالحقوق وهو الإنسان، وثانيها: نوعية الحقوق، وثالثها: حماية تلك الحقوق. والإنسان يختلف عن الفرد؛ فالإنسان هو المادة والروح والحقوق، والفرد هو الوجود المادي وحسب؛ فالفرد ذو جسدية، في حين أن عبارة "الإنسان" تنطوي على الجسد والفكر والكرامة؛ فالإنسان المنتفع بتلك الحقوق هو الإنسان المطلَق المتسامي من كل ضروب التمييز الضيقة: الدينية، أو العرقية، أو اللغوية، والتي تجعله كائناً محدوداً.
أمَّا تصنيفات الحقوق؛ فهناك حقوق أساسية وغير أساسية، وهناك حقوق غير قابلة للمساس، وهناك حقوق فردية وأخرى جماعية، وهناك حقوق تثبت للفرد وحده بصفته فرداً، ويكون التمتُّع فيها وممارستها بصورة فردية. أمَّا الحقوق الجماعية، فهي حقوق فردية في حقيقتها، ولكن لا يمكن التمتع بها وممارستها بشكل مستقل عن الأفراد المكونين لها، أي أن ممارستها تتم من خلال عدة أشخاص، أي في وسط اجتماعي.
ولحقوق الإنسان ثلاثة أجيال تاريخية، وهو تقسيمٌ يعكسُ في واقع الأمر حيوية حقوق الإنسان وحركيتها، فضلاً عن كَوْنِه يُعطينا فكرة عن المراحل الكبرى التي مرَّت بها مسيرة حقوق الإنسان؛ فالجيل الأول هو هذا الجيل الذي طالب بالحقوق المدنية والسياسية، والذي قام على اعتبار الفرد يتمتع بصفته المدنية والسياسية والتي مصدرها القانون الطبيعي الذي يسمو فوق القانون الوضعي؛ إذ يستمد الجيل الأول فكره وحقه من تلك المذاهب الفلسفية التي ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر حول الفرد المستقل، وعن الحقوق الطبيعية، وهي حقوق ليست مُستمدة من النظم السياسية؛ بل مُؤسَّسة على حقوق طبيعية أسبق من سيادة الدولة، وأسمى منها أيضاً. فالجيل الأول يعكس حجم التحوُّلات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي عرفتها أوروبا وشمال أمريكا، والتي أثْمَرت عن صدور وثائق مهمة في مسيرة حقوق الإنسان من قبل وثيقة إعلان استقلال أمريكا 1776م، وإعلان حقوق الإنسان والمواطنة في فرنسا 1789م، والتي تضمَّنت عدداً من الحقوق كالحقوق والحريات الفردية: الحق في الحياة، ومنع التعذيب والعقوبات القاسية أو المعاملات اللاإنسانية أو المهينة، وحظر العبودية والرق، والحق في الحرية والتنقل وكالضمانات القضائية التي شملتْ: المساواة أمام القضاء، والضمانات في الإجراءات الجنائية والمدنية، وحظر تطبيق التشريع الجنائي بأثر رجعي، والحق في الاعتراف بالشخصية القانونية لكل فرد. والحقوق العائلية والتي عنيت بحماية الأسرة وتساوي الزوجين في الحقوق وحقوق الأطفال وحمايتهم، وأخيراً الحقوق السياسية والتي تضمنت: المشاركة في إدارة الشؤون العامة، والحق في الانتخاب والترشح والتجمع السلمي وفرصة تقلد الوظائف العامة.
أمَّا الجيل الثاني، وهو جيل معروف بالقراءة الاشتراكية لحقوق الإنسان، فيجد مصدره على وجه التحديد في الإفرازات الاجتماعية والآثار الفكرية للثورة الصناعية التي أحْدَثت حِراكاً اجتماعيًّا كبيراً، فقد تبيَّن أنَّ الإنسان -إضافة إلى كَوْنِه فرداً يستمتع نتيجة لصفته تلك بحقوق فردية وسياسية- طرف في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو بذلك يتمتع بجملة من الحقوق ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وله أن يُطالب الدولة بتحقيقها -ممثلة في "العدالة الاجتماعية"- وهو أمرٌ لطالما كان الاشتراكيون يعيبون به الليبراليين، ويشتمل هذا الجيل على عِدَّة حُقوق: كحق العمل والحماية من البطالة وتشكيل النقابات والضمان الاجتماعي وحماية الأسرة وتحسين أوضاعها المعيشية والصحة والتعليم والمشاركة في الحياة الثقافية.
أمَّا المكوِّن الأخير لحقوق الإنسان وهو الجيل الثالث، والذي هو في حقيقة الأمر دليلٌ قويٌّ على حيوية حقوق الإنسان وحركيتها؛ لأنَّ الجيلين الأول والثاني لم يتمكَّنا من استيعاب جميع حقوق الإنسان نتيجة التطوُّر الذي عرفته؛ لذلك جاء الجيل الثالث المسمى بحقوق التضامن أو حقوق الجماعات أو الحقوق التكافلية، وهو يضمُّ حقوقا من قبيل الحق في السلم والحق في بيئة سليمة، والحق في المساعدة الإنسانية، والحق في السيادة الدائمة على الثروات الطبيعية.
وفي ختام هذه التصنيفات والتقسيمات للأجيال الثلاثة؛ وجب التأكيد على مسألتين مهمتين؛ فحقوق الإنسان ملازمةٌ للطبيعة الإنسانية، والأمر الآخر هو أن حقوق الإنسان تتطور، أي أن قائمة حقوق الإنسان لم تغلق بشكل نهائي.
التربية على الحقوق لا تخلو من تعقيد؛ فأهدافها معقدة ومتباينة، وطرائقها كثيرة ومتنوعة؛ فهي عملية مستمرة تتأتَّى صفة الاستمرارية فيها من كَوْن هذه العملية التربوية تنتقل من جيل لآخر في المجتمع؛ فهي عملية نموٍّ فرديٍّ واجتماعيٍّ بعيدة عن الارتجال والعشوائية، وهي عملية تفاعلية تتحقَّق من خلال التفاعل والتواصل الدائم بين المعلِّم والمتعلِّم والبيئة الاجتماعية. كما أنَّ التربية على حقوق الإنسان تَعْنِي ترسيخ مفهوم الديمقراطية لدى الناشئة في جميع مراحل التعليم، والتعريف بالقوانين والتشريعات الوطنية والقومية والعالمية التي تُعْنَى بهذا الجانب، والخروج من ضِيْق الانتماء الفردي إلى رحابة الإنسانية.
