عبدالله الشحي
مرَّت على البشرية العديدُ من الحضارات التي رَافَقَها مُختلف الإنجازات، وتمتَّعتْ بخصائص مُتنوعة.. ويُناقِش الباحث مصطفى عطيه جمعة، في مقاله "القيم الحضارية وتقاطعاتها المعرفية: رؤية إسلامية"، مفهومَ الحضارة وعلاقة الحضارة بالقيم، ويفرق بين القيم والمؤشرات الحضارية، ثم ينتقل لمناقشة أهمية المكان وتأثيره على الحضارة. ويستطردُ في توضيح مفهوم الثقافة وكيف يختلف عن الحضارة، يلي ذلك جُزء عن المجتمع والجماعة، وكيف يتفاعل مع المبدعين. مُضيفا إلى ذلك مُناقشته عن التاريخ، وكيف يُفيدنا في فهم الحضارات.. ويختم الكاتبُ حديثَه بالحديث عن الدولة والنظام السياسي وفائدته في المحافظة على المنجزات الحضارية.
يُمكِن القول بأنَّه من السِّمات الواضحة للمجتمعات البشرية خلال التاريخ: قيام أفرادها بالعمل نحو تسهيل حياتهم اليومية، وتحسين نوعية ممارساتهم على مختلف الأصعدة؛ ويتمثَّل ذلك بشكل واضح عند مُعَايَنة تسلسل الاكتشافات منذ العصر الحجري حتى يومنا هذا، ويضاف إلى هذا أيضا: الاختراعات المادية كأسلحة الصيد وأدوات الزراعة، وغير المادية كالنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي واستغلال البقعة الجغرافية وعناصر البيئة وتسخيرها لخدمة الإنسان، كذلك العمل في حقول المعرفة المختلفة وتطويرها والاشتغال في الدين والمسائل الروحية.
كلُّ هذه المساعي عندما تترافق مع امتلاك لغة خاصة بالمجتمع يتميَّز بها عن غيره من المجتمعات وأسلوب اجتماعي مُكوَّن من العادات والتقاليد والأزياء والمناسبات، وإرث فكري متمخِّض عن عمليات التفكير والتأمل التي قد تكون فلسفية أو علمية أو أدبية أو غيرها، والتواجد الثابت على بُقعة جغرافية معينة، تُنتج للعالم في مُحصِّلتها الحضارة. وفي الحقيقة، فإنَّ التعاريفَ التي تُستخدم لتتناول مفهوم الحضارة متنوعة ومختلفة، لكنها تكاد تجمع على ما سبق ذكره، لا سيما المكان الجغرافي الذي يُشترط فيه التمتع بالحياة المدنية، وليس حياة البادية المعتمدة على التنقل الدائم وعدم الاستقرار في بقعة دائمة، كما أنَّ الناس -أو عددا منهم على الأقل- في المدن قد توفَّرت لديهم حاجاتهم الأساسية من الطعام والشراب والسكن، فأصبح لديهم الوقت ليصرفوه في مجالات أخرى كالفنون والاختراعات وجميع المجالات التي تدفع عجلة الحضارة.
ومن الضروري ذِكْر أمثلة عن الحضارات حتى يَسْهُل إحكام القبضة على مفهوم الحضارة نفسه والمفاهيم المتعقلة به، ومن أشهر الحضارات -على سبيل المثال- حضارات بلاد الرافدين التي تميَّزت بالموقع الجغرافي وتشريعاتها الدينية، والحضارة المصرية القديمة التي تعتبر الأهرامات أحد إنجازاتها الكثيرة، ثمَّ الحضارة الإغريقية وروادها من الفلاسفة والمفكرين. ثم لدينا الحضارة الإسلامية وما أنجزته في مجالات العلوم والفلسفة والفنون بمختلف أشكالها، وابتكارها لنظام المراسلات السريع مثلا في زمن معاوية؛ كل ذلك يعتبر دلالة وشهادة معتبرة على الحضارة الإسلامية.
ويتحدَّث الكاتب عن القيم وتأثيرها في الحضارة؛ حيث يفترض أنَّ القيم الإيجابية تُسهم في تقويم وتهذيب الحضارة، وجعلها قائمة على أسس معنوية؛ مما يُعزِّز ويقوي وجود الحضارة. ويعرف القيم عموما بأنها الدافع الأيديولوجي الذي يؤثر على أفكار الأفراد؛ أي أنَّ الأفراد يعتنقون مُعتقدات معينة على مختلف الأصعدة كالسياسة والدين، وهذه المعتقدات تؤثر على أفكار الأشخاص وتصرفاتهم. ولا يجب أن تفوتنا الإشارة إلى اختلاف القيم بين الشعوب، بل اختلافها بين أفراد الشعب الواحد، وهذا من شأنه أن يصب في مصلحة الحضارة؛ حيث تجعل الأفراد متنوعين في توجهاتهم وأهدافهم داخل إطار الحضارة الواسع الذي يشملهم، ومن السليم القول بأنَّ القيم تملك تأثيرا أكبر في الحضارات المتأخرة كالحضارة الإسلامية مثلا أكبر من الحضارات القديمة؛ نظرا لوجود تنوُّع مُثرٍ في الأفكار والمعتقدات في الحقبة الإسلامية أكثر بكثير من الحقب السابقة عليه.
ثم يصفُ الكاتب العلاقة بين الثقافة والحضارة، وكيف أن حضارة ما من الممكن أن تكون مُتعددة الثقافات، ويُمكن القول بأنَّ الثقافة تعتبر جزءا من الحضارة؛ مثل: الثقافة الفرنسية والألمانية؛ كونهما ينتميان للحضارة الغربية. ومن المقبول أن تعزى المنجزات المادية إلى الحضارة، بينما المنجزات غير المادية إلى الثقافة، فيصبح من الممكن حُصُول تبادل في المنجزات الحضارية المادية بين الحضارات دون التأثير على الحضارة نفسها، لكن الأمر غير صحيح حينما يتعلَّق بالثقافة التي إذا ما استعارها شعب من شعب آخر، وجب على المستعير إحداث تغييرات كثيرة في وسطه.
ومن السليم القول بأنَّ وجود نظام سياسي مُعيَّن ضروري لحفظ مقدرات الحضارة وإنجازاتها والتأكد من وجود جو من الأمان والتنظيم يُمكن الأفراد من العمل والإبداع والتنمية، فكما قلنا بأن المدينة توفر الحاجات الأساسية للناس، فإنَّ النظامَ السياسيَّ جُزء مهم من تركيبة المدينة نفسها. ويَطْرح الكاتب فكرة النظام السياسي الإسلامي المعتمد على الشريعة، ويفترض أن الشريعة منفصلة عن الحاكم، والذي بدوره مُنفصل عن الشعب أو أفراد الأمة، فحينما يتغيَّر النظامُ الحاكم تَبْقَى الشريعة مصدراً للقانون، فيكون هذا الانفصال خالقاً مرونة تصبُّ في مصلحة الحضارة، لكن لا يخفى على أحد أنَّ شرط هذه المرونة إنَّما هو وجود وعي عن الأفراد، وتمتُّعهم بالاستقلالية حتى لا يستغل النظام عواطفهم الدينية، كما حصل ذلك كثيراً خلال التاريخ.
تحتاجُ الحضارة إلى مجتمع متحضر لكي تزدهر، وعلى المجتمع أن يخلق الجو المناسب لأفراده للإبداع، وقد وَصَف الكاتبُ هذا المجتمع، وأخبر أنه عندما يكون المجتمع ذا توجُّه جمعي عام مبني على الحث على الابتكار والتفكير، فإنه حتى الأشخاص الذين لا ينتمون لهذه الحضارة سوف يُسهمون فيها كما أسهم غير المسلمين في الحضارة الإسلامية. ولا تتوقَّف هذه الظاهرة عن كونها صحيحة حتى على مستوى العالم اليوم؛ فالعقول المبدعة إذا ما وُجِدَت في المجتمع المناسب، فسوف تُسهم فيه بغض عن النظر عن أصولها.
وفي عَصْرِنا الحالي، الحضارات تسير نتيجة للعولمة نحو الانصهار والاندماج في حضارة عالمية؛ حيث تغلَّبتْ اللغة الإنجليزية، وأقبل الناس على لبس البدلة والبنطلون، وكذلك ْبدأت بعضُ العادات بالتغيُّر من المعتاد المحلي إلى ما هو مشهور وعالمي، وأتوقَّع أنَّه من الصَّعب التنبؤ بما ستكون عليه الحضارة البشرية في المستقبل، في ظلِّ التغيُّرات السريعة في الاختراعات والمعرفة البشرية.
