بسام الكلباني
لطالما كان مُصطلح الأمة العربية أو الإسلامية مصطلحاً يبعث الكثير من التساؤلات: أيُّ أمّةٍ نحنُ؟ أيُّ أمّة أكثر اتساعاً وشموليّة؟ لقد اعتدنا أن نفهم من الأمة أنَّها طائفة من النَّاس ينتمون لبعضهم البعض بأهداف ورؤى مُشتركة ومصير واحد، أو نفهم منها من خلال الاستعمال القرآني السائد بأنَّ مصطلح الأمة هو مجموعة من البشر ينتمون لدين مُعين مصداقاً لقوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)
يذكر الباحث التونسي محمد الحداد في مقالته بمجلة التسامح بعنوان "الأمة والدولة في الفكر الإسلامي مُقاربة مفهومية" بأنَّ الكلمة المستعملة في القرآن للدلالة الحصرية على الانتماء الديني هي "ملّة" والمصطلح الذي استخدمه القرآن للدلالة على الانتماء الاجتماعي هي مفردة شعب كما جاء في سورة الحجرات (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، أي أنَّه مع الإدراك التام للنص القرآني بحقيقة النظام الاجتماعي والقبلي للجزيرة العربية؛ إلّا أنَّ ذلك لم يمنع من القول بأن وجود الشعب أو القبيلة ليس إلا إحلالا للتعارف والتعايش بين الأفراد ثمَّ الأمم ثم الحضارات، لذا فالأمة كمصطلح لا تعني بالضرورة المجموعات الدينية وإنما لها مفاهيم وسياقات أخرى، فالطبري في كتابه الشهير "تاريخ الأمم والملوك" يظهر استخداماً غير مألوف للمصطلح، وهو الأمر مع أبو الفرج في كتابه "المنتظم في تاريخ الأمم". وخير دليل على هذا القول أيضاً أن الشهرستاني وابن حزم الأندلسي لم يستخدما مصطلح الأمة في كتابيهما الشهيرين: الملل والنحل، والفصل في الملل والأهواء والنحل؛ بل كان مصطلح الملّة لديهما دلالة على الانتماءات الدينية.
لم ترد كلمة دولة (بفتح الدال) في القرآن، بينما وردت كلمة دُولة (بضم الدال) في سورة الحشر (كيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ) والتي فسرت على ألا يقتصر تداول المال على الأغنياء فيحتكرونه، فالوضع السياسي قد وصفه القرآن بمصطلح الملك كما جاء في سورة النساء (فَقَدْ آتَيْنَا آل إِبْرَاهِيم الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) والآية في سورة البقرة (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ)، وعدد من الآيات الأخرى التي تشير إلى أن مصطلح الملك يطلق على النقيضين، الصالح والطالح، الفرعون وسليمان، إذن؛ فمن أين أتت مفردة (الخلافة) عوضاً عن الملك؟.
استخدمت كلمة خليفة أو خلافة لأوَّل مرة بغرض تمييز من خلف النبي مُحمد، وإشارة إلى الخلفاء الأربعة الذين نزّههم الضمين الإسلامي عن الملك وجعلهم أرفع مقاماً، بيد أنَّه في الحقيقة لا توجد إشارة في القرآن إلى أن الخلافة أرفعُ مقاماً من الملك، وإنما العكس، فقد نسب إلى سليمان الملك، ونسب إلى داود الخلافة مصداقاً للآية (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) والمسلمون يدركون تماماً أنَّ عهد سليمان أرفع وأفضل من عهد داود وأكثر عظمة.
استقر في العصر الحديث مفهوم محدد للدولة والأمة والعلاقة بينهما، فالدولة هي البنية الأساسية للأمة، والدولة تضم مجموعة أو مجموعات من البشر مستقرة في مساحة جغرافية معيّنة، وتملك الدولة شخصيتها المعنوية والقانونية وتنظم حياة أفرادها باعتبارها السلطة والسيادة والقوة، فالفارق بين الدولة والأمة هو أن الأولى جهاز أو مؤسسة لها شخصية معنوية، أما الثانية فهي مجموعات تربط بينهما روابط معينة كاللغة أو الدين أو وحدة المصير أو الانتماءات الإثنية. وترتب على أثر ذلك طمس وجود الأمة أو توسيع مفهومها ليتجاوز الدولة القطرية إلى ظهور كيان جديد كالأمة العربية أو الأمة الإسلامية، وهو ما نتج عنه توتر في العلاقة بين الدولة وقوانينها وتشريعاتها من جهة، وما يفترض أنه مصالح "الأمة" من جهة أخرى، بيد أن القانون الدولي تصدى لتلك الأزمة واعتد بسيادة الدولة وعلو قانونها فوق كل الاعتبارات ولا يمنح حق التدخل في شؤون دولة ما إلّا إذا اعتُبِرتْ حكومة الدولة حكومة غير شرعية ولا تمثل الأمة المعنية ولا تجسد إرادتها. بيد أن الأزمة في الواقع العربي لم تنته عند هذا الحد، فمع استقلال الدول العربية بعد الاستعمار، ونشوء دويلات عديدة مستقلة، إلّا أنها ما زالت تصر على كونها أمة واحدة وإن كانت مُمثلة في منظمة الأمم المتحدة بعدة دول متباينة في المصالح والمواقف في أحيان كثيرة.
القرآن ينص بتأكيد الانقسام بين البشر الذي لم يعد منه مناص، ويقر بأنَّ الإصلاح الاجتماعي العام لن يحدث بمُقاومة هذا الوضع ولكنه يحصل بجمع كافة الشعوب والقبائل في أمة تعترف بهذا الاختلاف، بيد أن التيارات الأصولية مصرّة على أن تجعل وحدة الدولة نتيجة حتمية لوحدة الأمة ولهذا فقد انقسمت هذه التيارات إلى صنفين: صنف تقليدي يرى بضرورة استعادة نظام الخلافة باعتباره الشكل التاريخي المتجسد لتلك الوحدة، وصنف يقر بتعدد الجماعات الإسلامية بتعدد الدول التي تعمل فيها على أن تكون الجماعة واحدة وموحدة في كل دولة، وتقر كل واحدة منها بأنَّ التعدد شأن مرحلة مؤقتة وأن الهدف النهائي توحيد العالم الإسلامي سياسيا عندما تنتشر الدعوة فيه وتنتصر.
لقد مرّت سنوات عديدة على محاولات التيارات الأصولية في توحيد الأمّة تحت الدين الإسلامي، ومرت سنوات طويلة أيضاً على محاولات أنطوان سعادة وميشيل عفلق على توحيد الصف تحت اللواء العربي، وإن كان لا بد من القول بأنَّ القومية العربية أيضاً وقعت في مأزق هي الأخرى في التسلّق على ظهر الأمة الإسلامية للعبور، فلو لو يكن الانتماء الديني بهذه الأهمية؛ لما خرج صدام ورفاقه بخبر اعتناق ميشيل عفلق الإسلام قبل موته، تلك الشخصية الأكاديمية ذات التفكير الممنهج يقال إنّها غيّرت رأيها في أمر جوهري كالدين في ثوانٍ فقط – كما يدَّعي صدام ورفاقه – حينها سنتأكد أنَّ صدام ورفاقه كانوا على إدراكٍ تام بأنَّ إبعاد شبهة المسيحية عن حزب البعث ومؤسسيه وعن القومية العربية سيكون له قبول أكثر بكثير مما كان.
