عبدالله الشحي
تتحدث الباحثة والأكاديمية المصرية منى أبو زيد في مقالها التباس المفاهيم واختلالها (مفهوم التوازن في الفكر والممارسة) عن مفهوم اللغة واستخدامها في التواصل وبعض المشكلات المتعلقة باختلاف المعنى للفظ واحد وعلاقة ذلك وأثره على الدين وفهم الدين. وتقسم أشكال الإلتباس والخلط إلى قسم يتعلق بسوء الفهم يشمل اختلاف فهم النص والتأويل ومفهومه وشروطه، وقسم ثانٍ يتناول تطوير الألفاظ نتيجة محاولة إيجاد توازن بين العلم والعمل.
تتزايد حاجات البشر بشكل مستمر طوال وجودهم على هذه البسيطة، حيث تجاوزت الحاجات مجرد البحث عن الغذاء في العصور الأولى إلى حاجات أكثر تعقيدا في العصور التالية. وفي مضي الإنسان نحو الحضارة ابتكر آلية تواصل بينه وبين بقية البشر، تلك الآلية هي اللغة، وهي في الحقيقة تستخدم لأكثر من مجرد التواصل إلا أنّ هذا ما يهم في هذا المقال. إنّ اللغة تستخدم ألفاظا معينة للدلالة على معاني محددة، فالناس يحصل بينهم اتفاق بحيث إنه عندما يستخدم اللفظ يُتوقع حصول فهم معين عند المتلقي، فيحصل بذلك إيصال للرسالة وإعلام بالمقصد. ومع توسع استخدام اللغة وزيادة التعقيد في بنائها، تعددت المعاني التي قد تفهم من كلمة أو لفظ معين، وكنتيجة لذلك لم يعد بالإمكان دائما ضمان فهم المتلقي القصد بحيث إنّه قد يفهم شيئا بينما يعني القائل شيئا آخر.
يتسع مدى استخدام اللغة إلى كل المجالات الأخرى في الحياة كالتجارة والسياسية والعلوم والدين، ويعتمد أتباع الأديان وبالأخص الأديان الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية والإسلام) على اللغة واستخدام المفاهيم لفهم وممارسة الدين الذي يتميز بعلاقة فريدة باللغة؛ كونه يتكون من نصوص يؤمن أتباع الأديان بأنّها موحى بها من الله الذي يريد منهم اتباعها وتطبيقها.
إنّ مشكلة اختلاف الفهم التي شُرحت سابقا توجد في أي مجال تستخدم فيه اللغة بما فيها الدين، ويتبع ذلك العديد من النتائج السلبية والإيجابية.
ذلك النوع من الاختلاف في الفهم تسميه الكاتبة "التباس بسبب الإشكال" وهو واحد من عدة أشكال من الالتباس تحصل عندما يتناول علماء الدين النصوص الدينية. الالتباس عند الكاتبة هو "الإشكال والشبهة وعدم الوضوح" ويساويه الاختلال والاختلاط، فبعض النصوص الدينية (الأحاديث وبعض آيات القرآن) قد تحمل أكثر من معنى، بل إنّ بعض القراءات المتواترة للقرآن فيها اختلاف فيما بينها لكنه ليس بشيء ذي تأثير كبير.
من سماحة الإسلام وسعته أن الفقهاء في مختلف البقاع قد يستنبطون أحكاما مختلفة عن بعضهم كل حسب ما يراه مناسبا لذلك الزمان والمكان مع عدم مخالفة الثوابت، مما أدى لنشأة المذاهب الإسلامية، التي عندما يتناول أصحابها نصوص الدين فإنهم يفهمونها حسب توجه مذهبهم، وهذا تنوع أرجح أنه لفائدة المسلمين، نظرا لوجود سعة عند تطبيق التشريعات.
كل ذلك الاختلاف في الفهم في الحقيقة ليس شيئا سيئا بل قد يعطي تنوعا يصب في مصلحة أتباع الدين، ولا يتوقف الاختلاف على مجرد تنوع المعنى بل يصل إلى حد التأويل، وتصف الكاتبة التأويل بأنه "صرف اللفظ من معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله". يمكن اعتبار التأويل عموما أوسع في ما يدل عليه من الاختلاف في الفهم من جهة أن الاختلاف في الفهم يحصل بمجرد سماع اللفظ ويحتمل حصوله عند كل من لديه معنى مختلف للفظ معين، بينما يتطلب التأويل نظرا وفكرا وجهدا للوصول لمعنى قد لا يكون ظاهرا بالضرورة.
تتفاوت درجات التأويل من جماعة إلى جماعة ويتباين مقدار قبول علماء الدين للتأويل والمواضيع التي يحصل فيها، فهناك من صرف الكثير من المعاني في القرآن لغير ظاهرها، وهناك من التزم المعاني الحرفية، وأكثر موضوع جدلي في مسألة التأويل ربما يكون في تأويل صفات الله سبحانه، لكن يمكنني القول بأن التأويل قطعا حصل من العصور الأولى للإسلام؛ ولو كان بدرجات متفاوتة. تشرح الكاتبة معنى التأويل عند الزركشي ثم تضيف بأنّ التأويل يأتي بمشاكله الخاصة التي تتعلق بمن يقوم به، كأن يصبغ آراءه وأفكاره الخاصة على النص الذي يريد تأويله ويجعله سجين ميوله ورغباته. وهذا التخوف أو التحذر من التأويل أمر ظاهر، فليس من السهولة فتح الباب لتأويل النصوص، لما قد يترتب على ذلك من تغيير للعقيدة وإمكانية تحريف المقاصد والمعاني.
تؤدي المتغيرات الزمانية والمكانية والظرفية إلى إحداث تغيير في ممارسة أي جماعة ذات توجهات محددة، فجماعة معينة مثلا عند امتلاكها سلطة سياسية ستكون ممارستها مختلفة بدونها.
تُخبِر الكاتبة عن صنف من الالتباس يحدث نتيجة ذلك وهو "الالتباس الحاصل نتيجة محاولة عمل توازن بين العلم والعمل". تضرب الكاتبة مثالين على هذا الالتباس، وهما قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقضية القول بخلق القرآن.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر قرآني يهتم به المسلمون جميعا، فالمسلمون بينهم اتفاق على ضرورته وأهميته، لكنّهم مختلفون في كيفية تطبيقه، وترى الكاتبة أنّ هذا الاختلاف ليس ناتجا عن مجرد فهم مختلف، بل كان متأثرا بالظروف السياسية والعسكرية المحيطة بالمسلمين. وربما يمكن تطبيق نفس الفكرة على مفاهيم أخرى كالجهاد والولاء والبراء، أي عمل دراسة تتبع التغيرات الحاصلة في هذه المفاهيم عبر الزمن مع ضرورة ملاحظة التغييرات المحيطة بها.
يتضح أنّه وعلى الرغم من أهميّة اللغة في الحياة، إلا أنّها تعاني من إشكالات أبرزها أنّ المفاهيم قد تحمِل وجوهاً عدة تخلقُ تنوّعا، وهذا التنوع في حقيقته قد يكون ناتجا من أسباب مختلفة قد تؤدي إلى مشكلات عند استخدام اللغة. وعلى وجه التحديد فإنّ ما يتعلق بالنصوص الدينية والاختلاف في فهمها وتفسيرها يمكن حقيقة أن يستغل بحيث يحصل تنوع صحي في فهم النصوص. بالإضافة إلى أنّ التمعن في هذا الاختلاف في الفهم يعطي فكرة أوضح حول الكيفية التي استغلت بها بعض المفاهيم لأغراض وأهداف سياسية ومذهبية، وهذا بدوره يعطي فرصة أكبر لمنع إساءة الاستغلال مستقبلا.
