وليد العبري
إنَّ الصراع بين الإيمان والعقل خلق صراعاً كبيراً بين الفلاسفة والمُتدينين، والتَّحول الذي شهدته فترة ما بعد الحداثة قلب الموازين، إذ كان الإيمان هو المسيطر، وأصبح العقل هو المتحكم في الممارسات الإنسانية، في حين أن الإيمان أصبح شيئًا خاصًا، مرتبطاً بالأفراد واستبعد عن الطريق، وهذا ما سوف نناقشه في مقال المفكر والفيلسوف الأمريكي جون دي كابوتو " قيم الإيمان والعقل في أزمنة ما بعد الحداثة".
إنَّ التحول الأساسي الذي شهدته فترة الحداثة هو التوجه العلماني، الذي انتشرت أفكاره بشكل واسع، إذ لم يكن علم اللاهوت قد وجد من فراغ، ولا في علم الفلسفة التي تعتبر المجال المناسب لأولئك اللاهوتيين الذين يلحون على الجمع بينه وبين الثقافة المحيطة، إذ ظهر في وقت معروف، وعلماؤه صدقوا الوحي، وبفضل ذلك كانت لهم حرية الكلام.
ومن أجل التوضيح والبساطة، سأشير إلى ثلاثة تصورات أساسية ميزت مرحلة ما بعد الحداثة؛ ففي كتاب (الكينونة والزمان) الذي كتبه هيدغر عام 1927م، والذي يرى فيه أنّه يُمكن ملامسة تأثير علم اللاهوت، وأنه بمجرد إحساسنا بالوجود فإننا موجودون أصلاً، وأنه لا يمكن أن ننسلخ عن جلدنا وننظر إلى ذواتنا من فوق، (فالشيء الدائم القائم)، فيجب أن نعرف بأننا مسيرون بالافتراضات التي نرثها، وهذه الافتراضات لا تغلق الأفق أمامنا، ولكنها تمكننا من الفهم قبل كل شيء، وتؤطر بروز العالم بالنسبة لنا هنا وهناك، فالآراء لا تهدم وتحطم، ولكنها تفتح لنا الطريق، وذلك تشبيه بمثال طلبة قدموا لمناقشة موضوع للبحث مع أستاذهم، وينظر إلى وجوههم ويسألهم: هل قرأوا شيئًا عن الموضوع، ولكنهم يفتقدون لشيء ضروري هو: الوجهة/الطريقة لنسمي ذلك بالتحول التأويلي.
ثانياً: كان ديكارت وهو يكتب كتاب التأملات منهمكاً في الكتابة، لم ينتبه للافتراضات الأولية عندما قرر الشك في كل شيء، وعندما حاول نسيان كل ما يعرف ويبدأ من الصفر، فهل هذه الكتابات التي تعكس نوعًا من الشك من خلال اللغة المستعملة؟ وباستعماله لكلمة سمعها من أساتذته الذين تأثروا بالمسيح، وهي كلمة التأملات، وهذه الكلمة ورثها من أتباع المسيح، والفلاسفة قبلهم، ومن والديه.
لهذا عندما انتقده هيدغر، قال إنّه من الضروري أن يعتمد على نفسه، لكون الكلمات الاصطلاحية مثل الوعي والموضوعية والشك توجد كلها في الذهن، فهذه الكلمات إن استعملتها سترسم لك طريقًا مثل طريق الزورق في حالة التيار السريع، والمصطلحات شبيهة بالمفاتيح لفتح بعض الأقفال، والقيام ببعض الوظائف.
وكما قال فيتغنشتاين ليس هناك ما يسمى باللغة الخاصة، وعندما نتعمق في التفكير لمحاولة إيجاد طريق مسايرة وتطوير جديد، وليس بالطريقة التي يفتخر بها الآباء بفضل اللغة المقنعة التي يستعملها أطفالهم كدليل على أنهم أذكياء، أو الرجوع إلى المقارنة السابقة التي قمت بها: ما يفتقده هؤلاء الطلبة الذين يبحثون عن مساعدة للقيام ببحثهم هو (شيء يقولونه) لنسمي هذا بالتحول اللساني.
أما التصور الأخير هو: قام مؤرخ العلوم توماس بنشر كتاب: بنية الثورات العلمية 1962م، والذي كشف عن شيء جديد ولكنه مربك، فالعلماء ليسوا ملاحظين يقومون بقبول أية معلومة والاحتفاظ بها، فهم أناس من دم ولحم عندهم حس باطني وإلهامات، وأحاسيس قوية؛ فإنهم لا يقومون بحفظ الأشياء دون تفحصها، وعندما يظهر شيء جديد في العلوم، فذلك ليس لأننا نقوم بإضافة معلومة جديدة إلى اللائحة القديمة؛ ولكنه يتم النظر في المعلومات بأكملها قديمة كانت أو جديدة، وقد قال هذا من خلال دراسته للثورة الكوبرنيكية، فالثورة لا تقدم إضافات جديدة، ولكنها ترتب من جديد نفس المعلومات، ويمكن أن تدعي بأنّ الأرض منبسطة وكل المخلوقات السماوية تدور حولنا، ولكن بالنسبة للرياضيات فهذا يتطلب عمليات حسابية معقدة. ونيكوس كان راهباً، وبسبب بعض الضغوطات من الكنيسة لم يصدق هو نفسه نظريته، وقد اقترحها كطريقة بسيطة لتوقع تحرك النجوم بالنسبة للبحار، وقد اقترح كون عمل العلماء تنظيم التجارب التي يقومون بها، وعندما يكتشفون خطأ فإنهم لا يستطيعون تحليله أو تفسيره باستعمال الصيغة القديمة، ويعيدون النظر في الصيغة التي استعملوها، وبذلك يمرون إلى صيغة أخرى، وهذا ينطبق على الاكتشافات الجديدة؛ فالصيغة الجديدة تعتبر عرضة للنقد قبل تطبيقها، والطلبة الشباب المتخرجون والأساتذة المساعدون يؤيدونها، ولكن القدامى من الأساتذة المدرسين يكرهونها، ولا يمر وقت طويل حتى يحالوا على التقاعد، أو يموتوا، أو يقتنعوا أو يقبلوا بها.
ظهر تيار يوجب الاهتمام بالدين وعلم اللاهوت اللذين يسعيان إلى كشف مبادئهما في زمن ما بعد الحداثة. وارتباطا بفكرة اللعبة اللغوية وهو مصطلح اقترحه لأول مرة فيتغنشتاين، يقترح مجموعة من اللعب اللغوية كل واحدة بحقوقها، وهكذا فإنه لا وجود لما يسمى )باللغة المفضلة( ولم يعن بمصطلح اللعبة شكلاً من أشكال الترفيه، ولكنه نوع من العمل الجاد؛ أي نشاط مقنن بقواعد يمكن أن تتعلمها فقط بالممارسة، وبإلحاحه على تعددية اللغة. وهو ضد فكرة كون كل اللعب يمكن أن تترجم إلى لغة مفضلة شائعة يمكن أن تعرفها فقط بتعلمك للغة، ولم يعنِ باللغات الطبيعية كالعربية، وإنما لغة العلوم والأخلاق والدين، وكل شيء يحدث فيها يمكن ترجمته إلى لغة واحدة من بين هذه اللغات.
وبالطبع فالسيطرة التي فرضتها العلوم تتماشى مع السيطرة التي مارسها علم اللاهوت سابقاً، والتي شكلت تهديدا في فترة ما قبل الحداثة )القوي يقف أمام القوي)، ومن الفلاسفة الذين أتوا بعد الحداثة أصبحوا علمانيين، وهدفهم هو الحد من قيمة العلوم الطبيعية والاهتمام بأشكال التواصل الأخرى، بهدف الاهتمام بالفن والأدب، وليس بالدين، ولكن نتيجة ما قام به هؤلاء المفكرين العلمانيين، ومغزى الشيء الذي أرى من وجهة نظري أنهم نجحوا في تحقيقه، هو الاهتمام بالدين وعلم اللاهوت، وعندما يسعى الفلاسفة إلى تحقيق أهدافهم الشخصية، يجعلهم لا يميزون بين الحداثي ونقيضه، وعندما يتعلق الأمر باللاهوت، فبعض الفلاسفة لا يكترثون.
يتضح الآن أن الفرق بين التحول الذي شاهدته فترة ما بعد الحداثة والإيمان والعقل يجب كشفه، ففي عصر الإيمان، حسب النظرة السائدة في فترة ما قبل الحداثة، كان الإيمان هو المسيطر وتم فهمه بوضوح، وحديثاً تم قلب كل شيء، وأصبح العقل هو المتحكم في الممارسات الإنسانية، في حين أن الإيمان أصبح شيئاً خاصًا، مرتبطا بالأفراد (واستبعد عن الطريق).
لا يعتبر تصور الاعتقادات المتصارعة مجرد مجاز أو مقارنة مرتبطة بالتحول التأويلي، نحن نستقبل معطيات، لكن كلما نستقبله بطريقة تناسب المستقبل الذي يجب أن يستعد للاستقبال، فالعالم المتصور هو مجموعة من التوقعات المهمة والمتماسكة، لذلك توقعاتنا يتم تأكيدها أو لا، والسبب وراء اضطرابنا عندما نجد أنفسنا وسط أشياء غير معتادة، كأن نزور ثقافة أجنبية، أو أنه لا نعرف ما سيأتي من بعد، ونحن نتجول في العالم المتخيل، وذلك بفضل الفهم القبلي، أو إطار عمل يتم تصوره، أو مجموعة من التصورات التي تميز العالم، إلى جانب تجارب العلماء في مختبراتهم أو المؤرخين بعودتهم إلى أرشيفات قديمة، تحتم وجود بنيات للتوقع في الشيء الذي نثق فيه ونحن مجبرون على مراجعته، وإصلاحه، أو رفضه. بمعنى آخر، في التمييز الكلاسيكي بين العقل والإيمان الذي كان دائما أصل الجدال بين الفلسفة وعلم اللاهوت، على اعتبار كل منهما يساوي من جهته مقدار منزله وقوته، وهو افتراض أن العقل نوع من الرؤية الواضحة، وأن الإيمان ليس كذلك، بأنه فقط رؤية جزئية غير واضحة.
وختاما أن تكون عقلانيا معناه أن تعرض الأشياء بطريقة محكمة، أي عرضها بطريقة مثبتة تجعل الأشياء تحت مجهر (القراءة) وإن دور العقل يعني: أن تعرض الأشياء بشكل واضح، يجعلنا على استعداد لاسترجاعه عندما يستمر رفعه، ويخلق لدينا شكّا في اعتقاداتنا، وفي السياق ذاته، فإنّ الإيمان ببعض الأشياء لا يعني الظلامية أو اللارؤية بشكل مطلق؛ فعلى العكس سوف لن نستطيع الرؤية بالكامل دونما إيمان حقيقي إذا لم يكن لدينا أخذ (مماثل)، يمكننا الاعتقاد به أو الثقة به، إذ الفكرة هي فهم ما نعتقد إذا ما أردنا أن نرى.