بسام الكلباني
الأخلاق هي أحد فروع الفلسفة التي أولاها الفلاسفة اهتماماً عظيماً، بيد أنَّه للفيلسوف العربي مسكويه آراء مُختلفة عن بقيّة الفلاسفة، إذ يقوم مسكويه إلى خلق مُقاربة بين الأخلاق الأرسطية والإسلامية من خلال كتابه "تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق" والذي يُناقش فيه الأركان الجوهريّة للأخلاق والتي يمكن حصرها في الفضيلة والحكمة والعفة والشجاعة والعدالة والسعادة والمحبة، كما يُقدم شرحاً وافياً لمفهوم الرذيلة الأخلاقية والخوف والتعاسة.
تؤكّد ديمة بوملحم في مقالتها المعنونة "مسكويه بين أرسطو والإسلام" في مجلة التسامح بأنَّ أصل الفعل الخلقي إلى العادة والتدريب والتعلّم عند مسكويه، رافضاً إسناد الأخلاق إلى الطبع تماماً كأرسطو، لأنَّ القول في أن الطبع أصل الأخلاق يعني التقليل من أهمية دور التمييز والعقل عند الإنسان.
الأخلاق العملية هي الاعتدال في الأكل والملبس والجماع، أما التعلم فيرفع من قيمة الإنسان، وتدوم هذه الفضيلة بدوام تغذيتها، وأعني بهذه الغذاء العلم والزيادة في المعلومات والتزام الصدق في الآراء وطلب الحق وقبوله ودحض الكذب والبطلان، فبالنفس العاقلة يعوّد الإنسان على حُب الكرامة والتقيد بما يُمليه عليه الدين، وتفضيله الدين على المال، ويحذر مسكويه من اعتياد العيب عند سامع التوبيخ في حال الخطأ، لأنَّ اعتياده على ذلك يجعله وقحاً، والوقاحة تجعله يُكرر ما يفعله فيقوم بقبائح اللذات الكثيرة، أي أنّه – مسكويه- يحث على طاعة الوالدين والمعلم والمؤدّب واحترامهم، فتلك الآداب صالحة للصبيان وللكبار، بيد أنها للصبيان أنفع. وما يُثير الدهشة حقاً هو أنَّ لمسكويه أقوالاً تؤسس لنظرية التطور التي ستشهدها الفلسفة الأوروبية الحديثة وخاصة عند لامارك الفرنسي ودامين الإنجليزي حينما اعتقدا بأنّ ثمة ترقياً وتدرجاً في مراتب الوجود، وهذا يعود لقبول الآثار والصور التي تحدث في الموجودات.
الفضيلة
يرى مسكويه أنَّ الفضيلة وسطاً بين رذيلتين، فالذكاء وسط بين الخبث والبلادة، والذِكرُ وسط بين النسيان والعناية بما لا ينبغي أن يحفظ، كما أنَّ التعقّل هو وسط بين الذهاب بالنظر في أمر ما أكثر مما هو عليه والقصور بالنظر فيه عمّا هو عليه. وسرعة الفهم وسط بين اختطاف الخيال في الفهم والإبطاء في الفهم. ففضيلة النفس الناطقة متمصلة بتشوّقها إلى العلوم والمعارف، فالإنسان مؤهل ليكون وسيطاً بين العالَمين الأعلى والأسفل، كما أنَّ البعض قد حظي بالنبوّة، لمن بلغ أفقاً إنسانيّة.
الحكمة
يُشارك مسكويه أقرانه الفلاسفة في شروط الحكمة، فالحكيم يجب أن يتوافر لديه الذكاء والتعقّل وسرعة الفهم وقوّته وصفاء الذهن وسهولة التعلّم، فالحكمة هي وسط بين السفهِ والبله، ويقصد هنا هو تعطيل العقول الفكرية بالإرادة، وبذلك فهو يؤكّد بأنَّ الحكمة والفكر متلازمان، وبهذا فهو يلتقي بأرسطو الذي ركّز في حديثه عن الحكمة مطوّلاً، حيث شدَّد الأخير على أنَّ الحكمة هي أتمُّ أنواع المعرفة، أي أنّها ليست محصورة في الجانب السياسي وحسب، بل هي إدراكٌ لمصالح المرء الخاصة منها. يمكننا رؤية هذا التقارب بين آراء مسكويه والإسلام في مسألة الحكمة من خلال الجمع بين صفتي الحكمة والعلم، وهو ما ورد في سورة الأنعام (إنَّ ربّك حكيم عليم) وفي إشارة أخرى إلى أهمية دور التعقّل في حياة الإنسان وتميّزه عن ما حوله في قوله تعالى (إن شرَّ الدواب عند الله الصمُّ البكمُ الذين لا يعقلون).
العفة
لمسكويه رأي مُختلف في العفة، فهو أكثر فلاسفة المُسلمين نقداً للزهد والمبالغة في التعفّف، إذ يرى أن للإنسان دوراً مهمًا في الحياة، فالإنسان مدني بطبعه، كما اعتقد بضرورة مساهمة جميع الأشخاص ودون استثناء من أجل تحصيل السعادة، أي أنّه يرى الزاهد كالجماد الميّت الذي لا يعمل حسب قواه ومكانته التي ميّزه الله بها عن غيره من الكائنات، أي أنّه بزهده المفرط لا يتوجّه إلى خير ولا إلى شر، فهو ليس عفيفاً ولا عادلاً. فالزاهد يفتقر إلى الطموح وامتحان ذاته في مواقف الحياة العديدة التي قد تظهره شريراً، كذلك هو الحال عند أرسطو الذي أكّد أن اللذات نوعان: منها ما يرتبط بالبدن كالعفّة، ومنها ما يناط بالنفس كالطموح والمعرفة. كما تحدّث مسكويه عن تشبّه الزاهد بالجماد أو الميت إذا لم يتوغّل في دروب الحياة المتباينة من حيث الشر والخير.
الشجاعة
هنالك من يقوم بأعمال الشجعان، وهو في الحقيقة ليس شجاعاً، بمعنى أنّه يقوم بذلك من أجل غاية، فهذا شرير وليس فاضلاً أي شجاعاً، ومنهم من يقوم بأعمال الشجعان خوفاً من ملامة أو عقوبة، وهو الآخر ليس بشجاع. يرى مسكويه أن الشجاعة وسط بين الجبن والتهوّر، فالشجاعة والحكمة والعفة مفاهيم متلازمة لا يمكن الفصل بينها البتّة. وهو بذلك – مسكويه – يشارك أرسطو بفلسفته المشائية في كون أن العلم عند المحارب يجعله يستحق صفة الشجاع؛ أما المحارب عن جهل فهو غير شجاع، والشجاعة لا تخلو من الألم والصبر والتجلّد، والأمر ذاته جليّ في الإسلام، أي أننا يمكننا أن نُلامس التَّقارب بوضوح في تلاقي رأي مسكويه في الشجاعة وبين الإسلام، ففي الإسلام على الإنسان أن يأخذ الحذر من تصرفاته النابعة عن كبريائه وقوّته، وألا يكون مختالاً أو جباراً أو متعجرفاً، وهو ما تؤكده الآية (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ).
العدالة
العدل أساس المُلك، والعدالة هي أتمُّ الفضائل، فهي تتخذ الوسط بين الأطراف، عن منأى من الجميع، فالعدالة هي المساواة بالمعنى الأرتماطيقي، وقد شرح مسكويه كلام أرسطو عندما قال: "إن أرسطو الذي قرَّر أنَّ الدينار ناموس عادل، إنما كان يعني بالناموس لغة السياسة والتدبير، فالناموس الأكبر هو إلهي، والثاني هو الحاكم، والثالث هو الدينار، وأما الجائر في رأي أرسطو فهو على ثلاثة مراتب؛ الجائر الأعظم الذي يخرج عن الشريعة، والجائر الثاني وهو الذي يخضع بشكل جزئي لقول الحاكم، والجائر الثالث هو الذي يأخذ المال من غير حق، فيظلم به غيره بإعطائه أقل مما يستحق، فالعدالة هي الفضيلة كلها، والجور هو الرذيلة كلها". أما المضرّات، فيرى أنَّ أولها الشهوة وتتبعها الرداءة، وثانيها الشر يتبعه الجور وثالثهما الخطأ ويتبعه الحزن، ورابعهما الشقاء.
السعادة
إنِّه من الطبيعي أن يصعبَ على شخص واحد بعينه الحصول على كل السعادات، ولذلك وجب التعاون بين النَّاس لتحصيل الخيرات المشتركة والسعادة، إذ إنها تختلف من شخص إلى آخر، فهي كمال لصاحبها وليس لجميع البشر، فالسعيد في المرتبة الأولى هو من اعتدل في طلب الأحوال المحسوسة، واتجه إلى مثيل الحكمة، أما السعيد في المرتبة الثانية فهو الذي فضَّلَ ما هو أفضل للبدن دون أن يبالي بالأهواء والشهوات إلا ما كان ضروريّاً منها، وقد عزا أرسطو الاختلاف بين السعيد في المرتبة الأولى والسعيد في المرتبة الثانية إلى اختلاف طبائع الناس أولاً، وإلى التدريب والتعليم ثانياً، وإلى مراتبهم من حيث تحلّيهم بالفضل والعلم والمعرفة والفهم ثالثاً، وإلى همّهم رابعاً، وإلى شوقهم ومُعاناتهم وجدّهم خامساً.
مسكويه حاول جاهداً أن يوفّق بين الفلسفة اليونانية والشريعة الإسلامية، من خلال المزج بين أفكار أفلاطون وأرسطو، وما انطوى عليه الإسلام من نظام خلقي دون أن يخطَّ لنفسه فلسفة عملية أصليّة، وبالهدف هذا، يقع مسكويه في فخ الشجاعة من خلال مُواجهة الفلسفة اليونانية ومُقاربتها، وبذلك يثبتُ هو الآخر أنَّ الفضيلة والحكمة ليسا أمراً يقصدُ إليه، بل أمر تقع فيه دون احتساب وتوقّع.
