نوف السعيدي
يدعي إبراهيم صقر في مقاله المعنون بـ "الأخلاق والقيم في الفكر الإسلامي القديم: العقل الأخلاقي العربي" أنَّه يناقش المذاهب الأخلاقية عند المُفكرين المسلمين؛ إلا أنَّ مقاله أقرب لأن يكون خطبة وعظية تفتقر إلى المنطق العلمي. وعلى المستوى الشخصي أشعر بالسعادة لأنَّ المقال وقع بين يديَّ لأنِّي مُهتمة بفلسفة الأخلاق عند البشر بشكل خاص، والكائنات الاجتماعية بشكل عام. ورغم أنَّ المقال يحتوي على مجموعة من المقولات التي لا أتفق معها إلا أني سأورد أهمها فقط[1]:
-
صلة علم الأخلاق بالعلوم الأخرى: يقول الكاتب إنّه من غير المُصيب القول بأنَّ الفكر الإسلامي خالٍ من المذاهب الأخلاقية، الحضارة الإسلامية – من وجهة نظره – قائمة على الأخلاق و"الأخلاق بطبيعتها أقرب العلوم إلى الدين". لكن أين هو موضع علم الأخلاق من العلوم الأخرى. ألا يعتمد على المنهج العلمي في دراسة مسائل الأخلاق؟ إذا كانت الإجابة بنعم فهذا يعني أنَّه كعلم بعيد عن العلوم الدينية، وإن كانت الإجابة بلا فهذا يستدعي التوضيح إذ يبدو أنَّ الكاتب يعتمد على الأدلة النقلية التي لا يعتد بها في العلوم. أليست الأخلاق أقرب للفلسفة؟ علم النفس الاجتماعي؟ علم السلوك؟ حقيقة لا أدري على أيَّ أساس يبني الكاتب استنتاجه هذا.
-
الأخلاق بالنسبة للسلوك: بينما ينظر للسلوك الإنساني أنَّه نتيجة للوعي ثانياً والمعرفة أولاً، أي أنَّه يأتي في مرحلة لاحقة للتبني الأخلاقي، يرى الكاتب أنّ "السلوك الإنساني لا يكون خلقا إلا إذا صار طبعا وجبلة... إلا إذا صار عادة لصاحبه أو ميلا".
-
الإرادة والأخلاق: "إذا ما راقبنا سلوك الحيوان وانتقاله من التوحش إلى التأنس، ومن الجماح إلى السلاسة. وإذا كانت هذه الحيوانات وغيرها يتعدل سلوكها من حالة إلى حالة رغم أنها لا تملك الفعل فالأولى إذن أن نقول: إن الإنسان الذي وهب العقل يمكنه أن يُغير أخلاقه من حالة إلى حالة أحسن منها". يقول الكاتب باختصار إنّ الدليل على المقدرة على تغيير الأخلاق عند الإنسان هو تغيرها عند الحيوان، مرتكبًا بذلك مجموعة من الأخطاء المنطقية. أولا: هو يقول إن "الفضيلة الأخلاقية لا تنطبق إلا على الأفعال الإرادية الاختيارية"، والحيوان في هذه الحال لا يتغير بسبب الإرادة إنما بسبب الضرورة والضغط المفروض عليه. ثانيًا: التحول "من التوحش إلى التأنس" قد لا يكون أخلاقيا بالنسبة لجماعة الحيوان، فاستخدام كلمة "يتعدل" بما تحوي ضمنياً من معاني التحول إلى الأفضل قد لا يكون دقيقا.
-
العزلة والفضيلة: "الفضائل إنما تظهر في مجتمع ولا تظهر في عزلة الراهب"، شخصيا أرى أن الفضيلة توجد في صلة الإنسان بالطبيعة ومع الكائنات الأخرى وحتى بينه وبين نفسه، نعم قد تكون أوضح بوجود ناس آخرين ولكنها تبقى موجودة دائما، هذا أولاً أما ثانياً فالكاتب يستخدم لفظة "الأخلاق" و"الفضيلة" كمترادفات، وهو أمر غير دقيق.
-
"الإنسان من بين جميع الموجودات كلها هو الذي يلتمس له الخلق المحمود والأفعال المرضية لا يشاركه فيها سائر الموجودات" بينما تكشف الدراسات الحديثة عن وجود منظومة أخلاقية لجميع الكائنات الاجتماعية، إذ يمكن ملاحظة سلوكيات تنم عن الإيثار، التعاطف، والانتصار للجماعة[2].
-
من يضع الأخلاق؟ يرى الكاتب أنّ "المستنبط في الأخلاق هو مدير المدينة أو الملك" وذلك "حتى لا يؤدي إلى ما حذرنا منه سقراط وأفلاطون وأرسطو من الخلل، والفوضى الكامنة وراء المبدأ السفسطائي أو إن شئت من هذا المقياس الأخلاقي النسبي المؤدي حتما إلى الفوضى والاضطراب". وهذا رأي خطير. في الإنجليزية يتم التفريق بين مفهومين[3] Ethics و Morals حيث تأتي الايثكس من النظام الاجتماعي، أما المورالز فهي راجعة للفرد وهي غالباً ثابتة ما لم تتغير وجهة نظره. من يضع الأخلاق إذا؟ على الأغلب سيكون المفكرين ولكن يبقى للفرد خيار الأخذ بها من عدمه. فالأخلاق تحكم أفعالنا من أصغرها لأكبرها، فماذا عن الأفعال الصغيرة؟ كيف تحدد؟ هل تختار الكرم أم الاقتصاد في عشاء تُعده لضيوفك؟ الكاتب يقول إن الأفعال الأخلاقية تقع بين متطرفين فالكرم مثلاً يقع بين التبذير والتقتير ولكن أين يقع الخط الفاصل بينهما؟ قد تكون هذه المسألة أحد أهم قضايا الأخلاق. القوانين يمكن ضبطها بمحددات واضحة لكن ماذا عن الأخلاق كيف تحدد؟ يمكن تنظيم الأفعال التي تلاحظ وتحدد وتقاس عبر القوانين، ولكن هناك أمور لا يُمكن تنظيمها.
في القصة الشهيرة عن حاتم الطائي حين يذبح فرسه والتي يضرب بها المثل في الكرم، هل هذه هي حالة كرم بالفعل أم أنَّها تهور؟ ماذا عن الذي سيُعانيه أبناؤه في قادم الأيام كتبعات لهذا الفعل؟ أليس فيه شيء من التجني عليهم وهو مسؤول عن إعالتهم؟ هذه التساؤلات تدفعنا للاقتناع بأنَّ المسألة تعتمد على تقدير الفرد وفق إدراكه للمُعطيات ولتبعات خياراته.
إذًا فالمواقف الأخلاقية جدلية ولكلِ سياق حكمه الأخلاقي. هناك الكثير من الأفعال هي سيئة بالمطلق، ولكن مع وجود ما يُبررها تصبح أخلاقية. مثلا القتل سيء، ماذا عن خوض الحروب؟ مثلا عندما تفكر الدول إن كان عليها التدخل في بلدان مثل سوريا واليمن؟ يمكن أن ترى الأمر على أنه اعتداء فيكون بذلك فعلا غير أخلاقي لكن يُمكن أن تراه أيضاً على أنه انتصار للضعفاء ممن يتعرضون للأذى في بلدانهم، وتنقصهم القدرة على الدفاع عن أنفسهم. قرار كهذا لن يكون معتمدا على الخيار الأخلاقي الأمثل أو على الحس السليم وحده، ولكن أيضًا على الخيار الذي يتوقع أن يأتي بأفضل النتائج على المدى البعيد وفق المعلومات المتاحة، والتنبؤات، والآثار المترتبة على البدائل المُختلفة.
أمر آخر في حال كانت السلطة هي المسؤولة عن تشريع الأخلاق هل هذا يعني أنها ستكون مسؤولة عن ضبطها أيضًا (عن التنفيذ والفصل في النزاعات المتعلقة بها)؟ وهل سيكون ذلك وفق الانتماء العرقي؟ وهل نفترض أصلاً الثبات في الهوية العرقية؟ هذه الأسئلة تصل بنا إلى الاعتقاد بعدم جدوى طرح الكاتب.
[1] كلمة الأخلاق التي ترد في هذا المقال تعني « المبادئ والنظريات التي يستند إليها السلوك الإنساني»
[2] هناك كتاب شيق حول الموضوع بعنوان لعدالة في عالم الحيوان: الحياة الأخلاقية للحيوانات، مارك بيكوف وجيسيكا بيرس، ترجمة فاطمة غنيم، صادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث
[3] http://www.diffen.com/difference/Ethics_vs_Morals
