عبدالله الشحي
في مقالته المعنونة بـ" الفن الغربي المعاصر: الحداثية وما بعد الحداثية "يتحدث الباحث صلاح قنصوه عن التحولات التي حصلت في مسار الفن في الحقبة الحديثة أو ما يسمى بالفن الحديث، وتقسيم التحول الحاصل لمرحلة الحداثية وما بعد الحداثية. يشرح فيه الفرق بين مصطلح الحداثة ومصطلح الحداثية، ثم يوضح أبرز النقاط الجوهرية المميزة للفن الحديث، والعلامات البارزة فيه. ويتحدث عن أمثلة من بعض المنظرين للفن الحديث وبعض المدارس الفنية الحديثة.
في حين لا يمكن وضع تعريف لمصطلح الحداثية، يمكن القول إنها فكرة تتمثل في ممارسة التجديد في جوانب مختلفة، تزيد وتنقص بين المنظرين للحداثية. فمن الدعوة للتجديد في اللغة من جهة استبدال الفصحى بالعامية والشعر العمودي بالحر، إلى مختلف دعوات التجديد في مختلف جوانب حياة الإنسان، كل ذلك نتيجة الرغبة في الخروج عن المألوف وإحلال الحديث بالقديم. ولا ترغب الحداثية في التعايش مع أي نموذج تقليدي سابق، فلا يخضع المجتمع مثلا لنموذج ماض، يخبره بما يجب أن يكونه أو ما لا يجب أن يكونه. تختلف المجتمعات في طريقة تعاملها مع الحداثية، فالمجتمعات المحافظة التي تجد صعوبة في تقبل الجديد عموما، ترى خطرا عظيما في الحداثية، وهو موقف متوقع وطبيعي على أية حال. فأخطبوط الحداثة أحدث اضطرابات كثيرة وكثيفة أدت لتحولات جذرية لم تكن كل المجتمعات مستعدة لها، ولذلك فقد اعتبر مرفوضا عندهم حتى قبل النظر في دعوته، فتحول كبير كهذا يحتاج وقتا ليترسخ، مع إمكان استثناء الأجيال الجديدة التي عاشت خضم هذه التحولات، فهي أكثر صلة بنتاج الحداثة.
من الضروري كما يرى الكاتب لفت الانتباه للفرق بين الحداثية والحداثة، حيث الحداثة تمثل حقبة تاريخية ومجموعة من الاختراعات والتحولات التي حصلت على مستويات عدة، أما الحداثية فكانت "انقلابا قيميا فنيا" أي أنها جاءت نتيجة للحداثة ولكنها متمايزة عنها. تلك التحولات والتغييرات شملت أشياء كثيرة، وطالت مختلف جوانب الحياة، والفن واحد منها. الفن داخل النظرة التقليدية المشهورة يمكن أن يوصف بأنه محاولة جاهدة وعملية إبداعية من أجل إنتاج عمل يعبر عن الواقع، أي تصوير الأشياء كما ما هي عليه في الحقيقة. على عكس الفن في الاتجاه الحداثي.
تشكل نقطة الخروج من المألوف مربط الفرس عند الحداثويين، وليس ذلك لشيء إلا لكون العمل الفني مختلفا فالعمل الفني لا يحتاج أن يحمل معنى خارجيا أو يمثل حقيقة موضوعية، بل إن الفن والعمل الفني مكتفٍ بذاته غير محتاج لاكتساب معانيه من غيره، أي أن اللوحة الفنية مثلا هي واقع خاص مستقل، وليست مجرد التقاطه لشيء آخر. يشير الكاتب إلى أن هذا الاتجاه ليس جديدا وإنما طالما كان موجودا ولكن بصورة متخفية. وتختلف التوجهات التي تندرج تحت فضاء الحداثية فيما بينها في كيفية عمل الفن ولكنها تشترك "في رفض الواقعية"، إذا لا سلطان للواقع على الفن، بل لا سلطان لأي شي على الفن، نتيجة للحرية اللامشروطة التي منحت للفن.
ومن المدارس الفنية الحديثة المدرسة المستقبلية التي تصنع قطيعة مع الماضي، وتستشرف المستقبل، وتتميز لوحاتها بالمؤثرات التي تدل على الحركة وسرعة الضوء، والمدرسة الدادية التي تشتهر بنقد الفن بالفن، أي السخرية من الفن وقيم الفن واتخاذ الفوضى والعبثية سبيلا للتعبير. يوجد أيضا المدرسة السريالية والتي يمكن اعتبارها أكثر تنظيما من الدادية، بل هي في الحقيقة ناتجة عنها، وتقوم فلسفتها أساسا في ترك النفس تمارس التعبير وليس العقل، وقد تأتي مكونات الأعمال السيريالية من الواقع لكنها تستخدم بطرق غير واقعية.
تعتبر عملية التجديد في أي مجال من مجالات الحياة آلية لضمان الحيوية في ذلك المجال وضمان مرونته، فالقواعد التي نفترض ثباتها والقوانين المطلقة تمنع روح التجديد والتبديل، ذلك بأن كل الاكتشافات مثلا ماهي إلا نتاج محاولات جريئة وممارسات جديدة غير مسبوقة وعمليات مدفوعة برغبة التغيير. هذه الحركة في الفن يسميها الكاتب بميتا فن أو نقد الفن، حيث يتم تجاوز المألوف والمعتاد لما هو مختلف وغير مألوف، كما يضرب أمثلة بماركس وفرويد وماكس لانك، هؤلاء الفلاسفة والعلماء قد غيرو القواعد في مجال تخصصهم، وابتكروا طرقا جديدة لفهم وتفسير الظواهر، ونشأت نظريات مختلفة من جهودهم.
تكثر الأعمال الغريبة وغير المفهومة عند الفنانين الذين يعملون بالفن الحديث، وهي كذلك لعدم تعود الناس عليها وعلى غرابتها، فقد توجد لوحة مليئة بالألوان والخطوط التي ليست ذات معنى عند تفحص العمل للمرة الأولى، لكنها تحتاج حاسة خاصة يكتسبها الشخص وليس شرطا أن توجد عند جميع الناس. في نفس الوقت قد لا يروق هذا المفهوم للجمال كثيرا من الناس، نظرا لتعودهم على التعرض لنوع واحد من الجمال مما جعله قالبا مسيطرا للأحكامهم لكل ما هو جديد.
وفيما يتعلق بالفرق بين أشكال الفن داخل الحداثية وما بعد الحداثية، فإن الحداثية ركزت على المعنى في العمل الفني أو المدلول على حد تعبير الكاتب، فالمشاهد أو المتذوق عند اتصاله بالعمل الفني يحاول استخلاص المعنى الذي وضعه أو قصده الفنان، من جهة أن الفنان فعلا قد قصد وضع معنى محدد لإدراكه. لكن الأمر ليس كذلك في ما بعد الحداثية، فالمعنى هنا ليس بيد الفنان بالضرورة ليفرضه على المتذوق، بل على المتذوق أن يصبغ العمل بالمعنى الذي يراه مناسبا.
مر الفن بمراحل من التغيرات أعادت تشكيل ملامحه في حقب مختلفة، حيث ظهرت توجهات ومدارس كانت نتيجة التحولات والمتغيرات الراهنة لتلك الأزمنة. والعصر الحديث أيضا بموجة تحولاته المتسارعة والمتلاحقة تركت أثرا جسيما في الأعمال الفنية المعاصرة، وولدت فلسفات جديدة تحاول وضع مفاهيم جديدة للفن. وأظن أنه من المنطقي والمعقول التنبوء بحدوث المزيد من التحولات مستقبلا، نظرا لوتيرة التطور الموجودة والتي شملت كل شيء.
