وليد العبري
تعد نظرية العدالة التي أعدها جون رولز أهم المحاولات الفلسفية بعد النظريات التعاقدية في القرن الثامن عشر لبناء قاعدة صلبة للممارسة الليبرالية الحديثة، إذ ولّدت الكثير من الحوارات في الفكر السياسي المعاصر، واهتز بنيانها بعد الانتقادات التي تعرضت لها، وهذا ما سوف نناقشه في مقال الباحث والأكاديمي الموريتاني عبدالله السيد ولد أباه "نظرية العدالة لدى جون رولز: الأطروحة ونقادها".
غالبا ما كان العقد الاجتماعي محطة خلاف بين الفلاسفة، إذا انقسم إلى اتجاهين: جمهوري يركز على البعد المتعلق بالإرادة المشتركة والهوية الجماعية للأمة، وليبرالي يركز على الحقوق الفردية الأولية.
أما الفلسفات النفعية التي ظهرت في القرنين الثامن والتاسع عشر فركزت على فكرة محورية مفادها أن التمييز بين الفعل الخيّر والسيء يحدد حسب معيار الرفاهية، ويمكن تلخيص أسسه إلى ثلاث محددات رئيسية: مبدأ الرفاهية، ومبدأ التقويم بالأثر الراجع، ومبدأ المنفعة.
واتجه بعض الفلاسفة إلى توجيه نقد راديكالي للحداثة السياسية القائمة على التصورات الوضعية والتاريخية، مما يؤول إلى إضعاف الجسم الاجتماعي والسياسي، ودعوا إلى الرجوع للفلسفات القديمة في تصورها العمومي كتطبيق لقيم الفضيلة المدنية.
ومن هنا بدأت نظرية العدالة التي طرحها رولز عام 1971م حدثا كبيرا في تاريخ الفلسفة السياسية، وذلك لعدة أسباب من بينها أنها أول نظرية في العصر الراهن تقدم بناء مفهوميا قويا لتأسيس مرجعية العدالة، والمعروف أن التقليد الفلسفي يتأرجح إجمالا بين تصورين للمسألة الأخلاقية:
- التصور المعياري الذي يعود لفلسفة أرسطو، ويتحدد بحسب غائية السلوك بحيث يضمن الخير والكمال، وإن السعادة هي الخير المطلق المطلوب لذاته، فهو الغاية القصوى للإنسان.
- التصور الإجرائي الذي بلوره كانط ويتحدد بحسب قابلية السلوك للتعميم والصياغة الكونية، فستبدل أخلاق السعادة بأخلاق الواجب، فالفعل الأخلاقي ليس مدى تلاؤمه مع سعادتنا أو مصالحنا، بل مع المقوم الكوني لإنسانيتنا.
وهكذا تفضي التصورات الإجرائية إلى نتيجتين هامتين، لهما أثر حاسم في الفكر القانوني والسياسي: أولاهما: إناطة الفاعلية الأخلاقية بالقوانين، ومن هنا جاءت فكرة استقلالية السلطة القضائية في جهاز الدولة.
ثانيهما: بناء الشرعية السياسية على المقوم الأخلاقي بمفهومه الحديث، أي الحرية بصفتها إرادة ذاتية تنزع للكونية من خلال إقامة مؤسسات كلية.
هذا التصور هو الأساس المرجعي والنظري لنظريات العقد الاجتماعي، ويرتكز على مصادر تناسب أخلاق الواجب مع التشريعات المدنية، ويتأسس على مرجعية العقل بصفته إطار الكونية الإنسانية.
بيد أن هذا التصور قد طرح إشكالات عدة، نذكر من بينها ما بينه ليوشتراوس من أن التصورات القانونية السياسية الحديثة التي أرست قطيعة من مفاهيم الفضيلة الأرسطية انتهت إلى تأرجح غير محسوم بين القانون كمجرد إجراءات عملية لضبط الدولة والمجتمع بصفتها جهازا له قواعد اشتغاله، وبين منح هذه الإجراءات قيمة مطلقة إما لتماهيها مع ما تعبر عنه قوانين التاريخ، وإما بمنحها قيمة القوانين الطبيعية كما يكشف عنها العلم التجريبي.
فالمشكل هنا هو تمويه مصدر القوانين بالعجز عن حسمه نظريا، فالفلسفات القديمة أرجعتها لقوة الفضيلة أي من حيث انسجامها مع نظام الوجود ذاته، والمنظومات الدينية أرجعتها لمصدر إلهي مقدّس. لذلك يتم النظر للدولة من زاوية قانونية باعتبارها مرجعية التأسيس ومصدر الشرعية بصفتها قائمة على عقد أخلاقي ذاتي يحقق إرادة جماعية مشتركة تتخذ شكل وثيقة قانونية تحكم علاقات الناس فيما بينهم، وتحدد شكل السلطة التي تحكمهم.
إن هذا التصور يقوم إذا على تناقض خفي بين المنظور الاصطناعي لتحقيق الأمن المشترك والمنظور القيمي أي الدولة بصفتها تعبيرا عن المضمون الأخلاقي للإرادة المشتركة.
فما أراده رولز هو أن لا تُقدم نظرية العدالة التوزيعية كفلسفة أخلاقية بل تُعتبر نظرية سياسية لا تطمح إلى بلورة أسس جوهرية للفعل الأخلاقي. ومع ذلك تتميز أطروحته بكونها تريد الوصول إلى مبادئ كونية للعدالة، وهدفه تقديم تصور للعدالة يعمم ويرفع إلى أعلى مستوى من التجريد، أي البحث عن تأسيس أصلي لقيم العدالة من خلال الرجوع لفكرة (الوضعية الأصلية) للمتعاقدين، تفاديا لتأثير المواقع والتصورات الاجتماعية على المعايير المؤسسة للحالة الترابطية القائمة، وأن ميزة هذا الترابط يسمح بتصور مبادئ العدالة بصفتها مبادئ من شأن البشر أن يختاروها.
وإن الهدف من وضع تصور سياسي للعدالة وليس مذهبا أخلاقيا شاملا هو حسم الإشكال العصي المطروح على كل المجتمعات الليبرالية التعددية، الذي هو رسم الحد الفاصل بين الفردية الذرية المتولدة عن مبدأ الإرادة الذاتية الحرة والشمولية الاجتماعية، التي تموه وتقصي الحقوق الفردية وهي الحقوق القاعدية الأساسية للإنسان الحديث.
يعرف رولز المجتمع في نظريته للعدالة بأنه نسق التعاون الاجتماعي القائم على الإنصاف. ولفكرة التعاون ثلاث خصائص أساسية هي: أنه نمط من الترابط تحكمه قواعد دقيقة يقبلها الجميع، ويضمن الإنصاف بين المتشاركين في الحقوق والفوائد، ويتضمن فكرة الفائدة العقلانية التي تختلف عن المنافع الفردية الضيقة. ومن هنا يصبح هدف نظرية العدالة هو تحديد صيغ التعاون الاجتماعي الضامنة للإنصاف من خلال تعيين الحقوق والواجبات الأساسية التي تضعها المؤسسات السياسية والاجتماعية مع تحديد نمط وضوابط تقسيم المنافع المترتبة على التعاون الاجتماعي.
والسؤال المطروح يغدو عندئذ: ما هو التصور السياسي للعدالة الأكثر قبولا؟
للإجابة عن هذا الإشكال يقدم رولز عدة نظريات محكمة تتلخص في المفاهيم الرئيسية التالية:
- فكرة المجتمع جيد التنظيم: وهو المجتمع الذي تم تصوره لضمان الخير للأفراد، ومحكوم بتصور عمومي للعدالة من قبل المؤسسات والأفراد.
- فكرة البنية القاعدية: وهي الطريقة التي توزع بها المؤسسات الاجتماعية الأساسية الحقوق والواجبات الرئيسية.
- فكرة الوضعية الأصلية: وهي تقويم مدى عقلانية وملاءمة نظرية ما للعدالة إذا كانت مبادؤها قد انتقاها أشخاص عقلانيون من بين مبادئ أخرى.
- فكرة حجاب الجهل: وهي تعني افتراض وضع المتعاقدين الأصليين خلف غطاء الجهل.
- فكرة الإجماع عن طريق التوفيق: وهي إضفاء سمة الواقعية للمجتمع، ومراعاة للظرفيات التاريخية والاجتماعية، مما يفضي إلى نقاط إجماعية تتجاوز تضارب المواقف الفردية.
ومن خلال هذه الأفكار الخمس، يصل رولز إلى صياغة المبدئين الرئيسين للعدالة، اللذين هما زبدة نظريته كلها، وهما:
المبدأ الأول: يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساو لغيره، وهو مبدأ الحرية، الذي يتعلق بالمسائل الدستورية الأساسية كحرية التعبير والتفكير والتنظيم.
المبدأ الثاني: يجب أن تنظم أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بطريقة تضمن أن تكون في مصلحة كل أحد، وأن تكون متعلقة بمواقع ووظائف مفتوحة للجميع، وهو مبدأ الاختلاف، الذي يتعلق بالإنصاف في الفرص.
أمّا عن الجدل الواسع الذي خلفه رولز، سنقف باقتضاب في هذا المقام عند قراءات الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، الذي انطلق من نقد التصور الفردي للذات الحرة بإخراجها من سياقها الانتمائي، كما هو واضح في نظرية رولز التي تقوم على انفصام خطير بين الإنسان والمواطن، ويرى تايلور أن رولز لم يتمكن من التخلص من مبدأ الذاتية الأخلاقية المهيمنة على الثقافة الغربية الحديثة، وهنا يفقد العقل دور الحكم في الحوارات الأخلاقية، وبطبيعة الأمر يمكنك تنبيه محاوره إلى بعض النتائج التي فاتته، ولكن لا يمكنك إقناعه في حالة تشبثه بموقفه الأصلي.
والخلاصة هنا يمكن القول بأنه يجب ضبط العقل العمومي، وهو عقل المسؤولين الذين يمارسون بصفتهم جسما جماعيا للسلطة السياسية عن طريق إصدارهم للقوانين ومراجعتهم للدستور، ومشاركته مع العقل غير العمومي، الذي يتشكل في المؤسسات الدينية والجامعية ولدى وسائل التواصل الاجتماعي، وهو مقبول في حدود حرية الوعي والتعبير، لكنه لا يمكن أن يعوض العقل العمومي لأنّه مجال الثقافة والقيم المشتركة للأمة.