بسَّام الكلباني
يتساءلُ مُحمَّد محفوظ في مقاله المعنون بـ"سؤال الهوية والتعدُّدية في المجال الإسلامي المعاصر"، عمَّا إذا كان بالإمكان للإنسان أن يفهم نفسه دون الآخر؟! وهل بإمكان الفرد العيش مستغنياً عن الآخر المختلف عنه؟!
الذات بشكلها الديني والقومي والإثني بحاجة ماسة لفهم ذاتها من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى وهو العيش السليم مع الآخر المختلف، فإذا كان عنوان الذات دينيًّا؛ فما من منفذٍ لفهمها دون فهم الآخر المختلف معها في الدين، وإذا كان عنوان الذات قوميًّا أو عرقيا أو مذهبيا؛ فإنَّه من المُحال فهم الذات وإدراك الحقائق دون نسجِ علاقاتٍ سوية مع الآخر. فالآخر هو مرآة الذات بكل دوائرها، ومن يبحث عن ذاتٍ حقيقيةٍ دون آخر حقيقي؛ لن يتمكن من استيعاب ولا فهم وإدراك حاجاته ومتطلباته دون فهم ذاته قبل كل شيء.
في القرون الخاوية؛ وقبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقبيل ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بإزالة كافة أنواع التمييز والعنصرية تجاه الأقليّات والمرأة؛ كانت دعوات استئصال ونفي الآخر تتطايرُ في كلِّ أرجاء المعمورة بدعوى الحفاظ على مصالح الأكثرية والغالبة من الأقليات الدينية أو الثقافية التي تشكِّلُ -كما يظنون- خطراً على مكتسبات الأكثرية الحاكمة والسائدة، ورغم تصاعد الوتيرة الحادة بين الأقليات والأكثرية، وبين الطوائف والإثنيات العرقية المتناحرة في الشرق الأوسط على وجهِ التحديد؛ إلا أنَّ كل تلك الممارسات المتطرِّفة جعلت الآخر أكثر تشبثاً في ذاته بكل خصوصيتها وحيثياتها المباشرة وغير المباشرة، فكل تلك الأيديولوجيات والنزعات الاصطفائية والتطهيرية لم تُفضِ إلا إلى المزيد من بروز الهويات الفرعية والخصوصيات المراد طمسها وشجبها من المنظومة الإنسانية.
الآخر الديني هو ضرورة وجودية للذات الدينية، كذلك هي الحال عند الآخر المذهبي؛ فالأخير ضرورة وجودية ومعرفية للذات المذهبية، وهكذا دواليك عند بقية العناوين ودوائر الانتماء بكافة أشكالها والتي تحدد معنى الذات للآخر؛ فالذات التي لم تتجاوز حدودها مهما كان ثراؤها ومهما كانت تملك من تجارب وخبرات؛ تظل في حاجة كيانية ماسة إلى أن تعبر هذه الحدود انطلاقاً من احتمالية أن الآخر قد يحمل ثراءً وخبرة لم تعرفها، فالذات في عملية خروجِها إلى الآخر إنَّما هي تعيدُ اكتشاف ذاتها، وقد تصِلُ إدراكها؛ أي أنَّ الذات لا يمكن أن تكون ذاتاً إلّا بوجود الآخر.
فالعُزلة والاكتفاء بالذات لا يقودان إلى اكتشاف الذات؛ ولنا في التاريخ تجارب كثيرة لإثنيات عرقية ومذاهب وطوائف انتهت باعتزالها إلى الانطواء والانحسار والتلاشي، وفي أحيان كثيرة إلى الجمود أو الاختفاء الكلي من الوجود، فحتى لو كان خيار العزلة خياراً أيديولوجيا؛ فالنظرة النرجسية إلى الذات وقيَمها وما تملك من مبادئ ومعارف لا تؤدي بالضرورة إلى فهمِ حقيقة الذات الثقافية والقيَمية؛ ذلك لأن هذه النزعة النرجسية لديها قد تقودها إلى شعور وهمي بالاستغناء عن الآخرين بكلِّ معارفهم ومكتسباتهم العلمية والحضارية؛ فالعزلة لا تفضي إلّا إلى بناءِ صورةٍ نمطيةٍ حول ذاتٍ غير قادرة على استنهاض الإنسان واكتشاف قدراته ومكامنه. وحدهُ التواصل والانفتاح حول الآخر حضاريا وثقافيّاً يقودنا إلى فهم الذات والهوية.
تمرُ الشعوب العربية في حالةِ عزلةٍ حقيقية؛ تهدِفُ بهذا -كما تظن- إلى الحفاظ على ثوابت المجتمع ومكتسباته ومقدساته من خلال الانكفاء والانعزال، والمحصلة في الأخير شعوب ذات ثقافة أحادية ونرجسيات قاتلة وزينوفوبيا تجاه أي كيان غريب، واستماتة في الدفاع عن تلك الثوابت بالسيف دون التواصل المستدام مع الآخر لمعرفته وكشفِ خباياه وسبرِ أغواره ومكنوناته، معتقدين أن التطورات الحديثة بأشكالها المختلفة ومؤسساتها المتنوعة والدخيلة وآفاقة الرحبة قد تلغي الانتماء إلى هوية واضحة المعالم، لهذا كان المسلمون فيما مضى؛ يشيطنون الآخر المختلف معهم في الأمور العقدية أو الفقهية، بلا مبرر ولا تواصل، ووحده الانفجار المعلوماتي العظيم فضح كافة أشكال التميّيز والكره والانعزال والانكفاء نحو الذات، وقزّم المفاهيم وعرّى عبثيّتها، واتضح للمسلمين قاطبة فيما بعد أن الاختلاف مع الآخر لم يكن ممنهجاً ولم يكن مبرراً ولا يعدو أكثر من كونه اختلافا في وجهات النظر لا يرقى لأن يكون خِلافاً دمويًّا.
ولا شكَّ أنَّ التطور العلمي والتكنولوجي الهائل، والذي أسقط الحدود وأوصل مناطق العالم ببعضها البعض حتى أضحى قرية كبيرة، فهذا التوسع المعلوماتي؛ قد جرف الإنسان إلى مهاوٍ سحيقة وضياع وتشتتٍ ولهاثٍ وراء الجديد من التكنولوجيا وصناعة المعلومات، وقد أخطأ الإنسان العربي في التعامل مع هذه التطورات، فلم يُحسن خلقَ حالةٍ من التوازن المجتمعي حتى يتمكن المجتمع من ملاحقة التطورات ومواكبتها دون إضاعة الذات، فعملية التوازن هذه؛ لا تتم إلّا على قاعدة الهوية وتفعيل عناصرها في الوجود الاجتماعي الشامل، بيد أنّهم وقبل كلِّ شيء عليهم أن يدركوا حقيقة أن الهوية التي نطالب بإحيائها في الوسط الاجتماعي قد تؤدي إلى نظامٍ مغلق وموغل في العزلة، والتغلب على هذه الإشكالية هي من خلال خلق نظامٍ ثقافي متوازن متضمِنٍ مجموعةً من القيم والمبادئ التي ما إنْ تمسّكَ بها مجتمع ما؛ إلّا وعملَ على إحيائها، وكانت سبباً من أسبابِ التحضر، وعاملاً من عوامل التمدّن في مخلتف الحقول والمجالات، أبسطها التعامل مع الأقليات، وأوسعها اللحاق بركب الحضارة المعاصرة.
التعصُّب والعنف والتسلط الأيديولوجي والفكري والسياسي هي من سمات المجتمعات العربيّة في القرن الواحد والعشرين، والتي من شأنها سخّرت الحكومات سُبُلاً وجماعات تعملُ جاهدة على إفناء وطمس الهويات والعناصر الثقافية والأيديولوجية المختلفة معها والمغايرة لها، وهو ما أنتج فئات ومكوِّناتٍ مجتمعيةٍ منعزلة في حالة هجوم أو دفاع طوال الوقت؛ فإمّا تعايش سلمي وتعددية ثقافية وسياسية، وإمّا هجوم على الآخر لحماية المكتسبات الحضارية، والمحصلة مشهد دموي، وسلسة تصفيات، ومواثيق تُخْرق، وحقوقٌ تنتهك، ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة.
