الحرية في الفلسفة السياسية الأوروبية

إيمان الحوسني

تُشير يُمنَى الخولي -في بحثها عن" نظرية الحرية في الفلسفة السياسية الأوروبية"- إلى أنَّ الحرية بَوْصفها أحد أسمى الأهداف الإنسانية المنشودة، لا يقتصر التنظير بها فلسفيا، وإنما يراد بها تحقيقها على أرض الواقع، وقد شهد تعريفها اختلافات واسعة وصلت إلى أكثر من مائتي تعريف؛ وذلك نظرا لسعتها والاختلافات المعرفية بين الناس، بيد أنَّه يُمكننا أن نتطرَّق إلى محوريْن رئيسييْن في مفهوم الحرية، واللذين نجدهما قد رسما أطر الفلسفة السياسية الأوروبية؛ هما: الحرية الموجبة والحرية السالبة.. ويُقصَد بالحرية الموجبة هي تلك التي تسعى إلى تحديد مسار محدد يُمارس فيه الإنسان حريته، بينما تسعى الحرية السالبة إلى إزالة العوائق التي تعيق الإنسان عن الوصول إليها.

 

وقد تجسَّد مفهوم الحرية الموجبة في القطب اليميني الرأسمالي في أوروبا، والذي يسعى لتقليص نفوذ الدولة إلى أقصى حد لتمكين الفرد من حق التملك، بينما على العكس يسعى القطب اليساري الاشتراكي إلى إزالة العوائق التي تحول دون أن يكون للدولة دورها الرئيسي تجاه رعاياها، وظل هذا التقابل بين اليمين واليسار ماثلا وواقعا للحركة السياسية إبان القرن العشرين حتى انهيار الاتحاد السوفييتي الاشتراكي؛ وبالتالي انتهتْ الحركة السياسية لصالح اليمين والذي يقوم في جوهره على الدفاع عن حق الفرد في الملكية، وأن ترفع الدولة يدها عن وسائل الإنتاج وتترك ملكيتها للأفراد وتنافسهم الحر ولا تتدخل في العلاقات الاقتصادية بينهم.

وكانت تعني في البداية ملكية ناتج العمل، فالعمل امتداد مباشر للإنسان ولكن بدأت هذه الملكيات الفردية تنمو وتتراكم، خصوصا في ظل الثورة الصناعية التي تضاعفت فيها إمكانيات تشغيل رأس المال واستغلال الطبقة العاملة، وأدى التقدم التكنولوجي إلى ظهور الصناعات الضخمة والتي هي في غير حاجة لمهارات العمال الصغار، ووجد الذين لا يملكون قطعة أرض أنفسهم في قارعة الطريق، وظهر التفاوت والفجوة الكبيرة بين أصحاب رؤوس المال والطبقة الكادحة. ومع استبدال الصناعات اليدوية بالآلية، انتشرت البطالة والفقر مما أدى لتنامي ظهور الفكر الاشتراكي الذي يحاول إزالة معوقات الحرية التي تراكمت على كواهل الطبقة الكادحة والفقراء؛ وذلك بتمكين الدولة من إرساء العدالة الاجتماعية وتشارك الجميع في خيرات الوطن وناتج العمل على السواء، على أن الرأسمالية المتمثلة في فلسفتها الليبرالية ظلت المعبِّر الرسمي عن الحرية في النظرية السياسية الأوروبية.

والدولة في الفلسفة الليبرالية الرأسمالية كما رأينا لا تتدخل في الملكيات الخاصة، ولكن جل ما يمكن أن تفعله هو ربطها بواجبات والتزامات كالضرائب والجمارك وحقوق الطبقة العاملة. وهذا لا يعني أن للدولة دورا هامشيا، بل هي وسيلة لتحقيق غاية أشمل من الغايات الفردية وهي تحقيق النظام والقانون في الداخل ودفع الأعداء الأجانب من الخارج؛ وذلك لخلق جو صالح لكل الممارسات الفردية.

كما أنَّ النظامَ السياسيَّ الليبرالي هو نظام مُضاد لفلسفة الاستبداد السياسي، وهو النقيض للدكتاتورية التي تكمن مشكلتها في تفرد جماعة أو مذهب ما للسلطة وخضوع الأفراد قسرا لها، وإلا زجت بهم في السجون والمعتقلات، كما نجد ذلك في العديد من الدول ذات الحكم الشمولي المستبد والتي لا تتسامح مع تعددية الأحزاب والأفكار إلا بما يحفظ لها الحق في استمرارية حكمها. على عكس الدولة في الفلسفة الليبرالية، والتي تُؤمن بحرية الاختلاف والآراء؛ مما يجعلها حاضنة لمختلف التيارات الفكرية في جو من التسامح والديمقراطية، وقد بُني هذا الفكر على أساس أنَّ الفرد حُر في طريقة تفكيره ومعتقداته، ولا يحق لأي أحد التدخل فيها أو فرض رأيه قسرا. وقصارى ما يمكن أن يفعله الفرد كما أشار برتراند رسل هو "أن ذلك الرأي يبدو له أصح من غيره". ويشهد التاريخ الدور الكبير الذي لعبته الليبرالية في إرساء أسس الحكم الدستوري ووجوب استقلال أو فصل السلطات الثلاث عن بعضها: التنفيذية والتشريعية والقضائية.

على أنَّ هذا الوجه الإيجابي في الفلسفة الأوروبية في شقيها السياسي والاقتصادي، والذي يتأسس على إطلاق حريات الأفراد في نشاطهم الاقتصادي والسياسي، له وجه قبيح آخر كما تشير الكاتبة لذلك، وهو وجه الاستعمار وسلب الخيرات من الشعوب الضعيفة، فأضحت الحرية الأوروبية هي حرية لرعاياها ولكنها حرية سلبت الآخرين تحررهم.

لقد بدأتْ بالدفاع عن طبقة صغار الملاك، وانتهت باستعمار الشعوب الصغيرة لتأكيد التبعية لها وباسم تحريرهم وترسيخ الحرية. فبعد انتهاء المشروع الاستعماري الغربي الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية وتعاظم حركات التحرير القومي في الدول المحتلة، خرجت إنجلترا وفرنسا متهالكتين. ومن ثم شهدت الفلسفة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين تيارات دأبت على نقد المركزية الأوروبية وحركتها الاستعمارية ونقد قيم الحداثة.

ومن وجهة نظري الشخصية، فإنني أتفق مع الكاتبة فيما يتعلق بأن الفلسفة السياسية الأوروبية الحديثة قد اتخذت من الحركة السياسية والاقتصادية الحرة في دولها لتكون شعارا تستغله لنهب ثروات الشعوب الأخرى ممن لم تتوافر لهم الظروف الملائمة للنهوض، وهكذا أضحتْ الحرية في أوطانهم أداة لاستعباد الدول الأخرى. وأدى ذلك ليس فقط إلى تيارات أوربية في الداخل تنقد هذه الحركة الاستعمارية بل تنقد أيضا قيم الحداثة التي انبثقت منها، كذلك فإن الرأسمالية كنظام اقتصادي يؤدي إلى خلق توزيع غير عادل للثروات والسلطة. وفجوة ملحوظة بين طبقة الرأسماليين الذين يسعون لحصد المزيد من الأرباح والطبقة الكادحة مما يجعل من الطبقة الوسطى شبه منعدمة. وأدى هذا النظام أيضا إلى انتشار البطالة والمتسولين واحتكار القلة لسوق العمل. وهي بالتالي تعزز مشاركة الأغنياء في السياسة على حساب الآخرين من الطبقات المتوسطة والفقيرة؛ وذلك لأنهم عماد الاقتصاد؛ وبالتالي ينعكس ذلك على القرارات الحكومية المتحيزة لصالحهم، كما أنَّ حقوق العمال ليست مصانة في جميع الحالات؛ فعلى سبيل المثال: يكون الضمان الصحي مستمرا باستمراره في عمله، وحالما يخرج من العمل بسبب ظروف قاهرة، ينقطع أجره ويخسر الضمان الصحي . لننتهي من هذا إلى أن المنشود هو نظرية سياسية عادلة تؤكد الحرية لكل الأطراف وليس لطبقة أو عرق معين.

أخبار ذات صلة