عبدالله الشحي
في مقالته "تساؤلات حول إسلامية المعرفة" يناقش الباحث عبدالجبار الرفاعي الفكرة القائلة بإمكانية أسلمة المعرفة، أي صناعة معرفة تستمد وجودها من الدين الإسلامي، من خلال عرض لمحة سريعة حول توجهات المسلمين في ما يتعلق بالمعرفة قديما وحديثا، وعمل مقارنات بين أطروحات بعض المفكرين المؤيدين لأسلمة المعرفة، وبين من يريد أن يكامل بين الدين والعلم. يعرج الكاتب على إشكالية التراث المقدس وحصوله على مناعة من النقد، وأن معرفة إسلامية قد تكتسب تلك المناعة أيضا.
يعتبر العلم والمعرفة العلمية بشقيه الطبيعي والإنساني من أهم معارف العصر وأكثرها ضرورة وتأثيرا، فتلك المعرفة القائمة على التجربة الموضوعية تسهم في فهم الكون وآلية عمل الطبيعة والتنظيمات البشرية، ثم الاستفادة من تلك المعرفة في تسهيل الحياة وزيادة الرفاهية. لقد ظهرت خلال التاريخ تطبيقات مختلفة لآليات العلم كالهندسة والزراعة وتهجين الحيوانات، لكن العلم بنسخته الحديثة ظهر وتجلى في القرن السادس عشر.
لقد أسهم في نمو العلوم الطبيعية منذ بداية تأسيسها حتى اليوم عدد كبير من العلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالم، فلم تقتصر الإسهامات على شعب من الشعوب أو مجتمع دون غيره. وقد يبدو أن الكثير من الباحثين هم من أوروبا وأمريكا، كإسحاق نيوتن وجالليلو قديما، وكارل ساجان وستيفن هوكينج حديثا، إلا أنه هناك مساهمات من جنسيات أخرى مثل ميتشو كاكو ذي الأصول اليابانية، وغيره من الباحثين داخل مؤسسات البحث العلمي حول العالم. لم يفت العرب عموما التأثير في الحقل العلمي وإن كانت معظم أعمالهم قد تمت خارج البلاد العربية، كالفيزيائي المصري مصطفى مشرفة الملقب بأينشتاين العرب ، وأحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل.
على الرغم من هذا التنوع الواضح في إسهام مختلف أعراق البشر في صرح المعرفة العلمية، فإن هناك تيارا يدعو إلى أسلمة المعرفة، أي إنشاء معرفة إسلامية خاصة، تستمد وجودها وقيمها من الإسلام، بحيث تكون مختلفة عن العلم بنسخته "الغربية". يسمي التيار نفسه بـ"إسلامية المعرفة" وهو تابع للمعهد العالمي للفكر الإسلامي. وقد بذلت جهود كبيرة في سبيل نشر هذه الفكرة في دول مختلفة، تضمنت المؤتمرات والمحاضرات وغيرها، مع عدم تشكل ملامح واضحة لأي علم إسلامي حتى الآن رغم كل تلك الجهود.
وربما يكون المسوغ الأبرز لهذا الأمر هو وجود فجوة متوهمة بين العلم والأخلاق، وأن العلم اليوم يمارس بحثه بطريقة لا تستند للقيم. بالإضافة لكون العلم حاليا يتشبع بنظرة غربية للكون والحياة وهي تخالف النظرة الإسلامية. نظرا لافتراض العلم بوجود قوانين وناوميس كونية موضوعية، واستغلال هذه الفكرة من قبل الملحدين لإثبات استقلال الطبيعة عن العناصر فوق الطبيعية، كل ذلك يدفع المتدينين للشعور بحصول مواجهة بين ما هو علمي وديني. ويرى الدكتور عبدالوهاب المسيري بأن تشوها يحصل حين يعمل العلم على أساس مادي فقط، ولا يميز بين الإنسان وبين بقية الأشياء.
وآلية البحث العلمي أيضا قد تعتبر معضلة أخلاقية من جهة أن بعض التجارب قد تخالف النظام الأخلاقي في الشرق، في حين تتوافق مع النظام الأخلاقي الغربي.
إن العداء لكل ما هو غربي يعتبر أمرا طبيعيا على أية حال، وليس العلم استثناء في هذه الحالة، فالغرب مارس أشكالا فظيعة من الاضطهاد ضد الشرق وبقية العالم، فيحصل هناك رفض للإنتاج المعرفي الغربي، هذا الرفض الناتج عن عدم تمييز بين مكونات العنصر الغربي، فالعلم وحقوق الإنسان مقبولة، بينما الاضطهاد والحرب والاحتلال هو ما يجب محاربته.
لكن من الضروري فهم المنهج العلمي عند التعامل مع العلم، فالعلم يفحص صحة الفرضيات المطروحة ثم يجري القياسات التجريبية لتصحيح الخطأ منها، وهذه المنهجية هي منهجية موضوعية مستقلة عن الباحث، سواء أكان يهوديا أو مسلما أو ملحدا، فاكتشاف نيوتين للجاذبية لا يجعل من النظريات المتعلقة بها نظريات مسيحية، بالرغم من أنه أحيانا قد تتشبع بعض التفسيرات بمعتقدات معينة، إلا أن الحل من وجهة نظري ليس صناعة معرفة من دين أو أي أيديولوجيا أخرى، بل تكثيف العمل على العلم من قبل أشخاص ذوي خلفيات مختلفة لتقليل نسبة تأثير الأيديولوجيا.
مع أن الدين الإسلامي خصوصا والأديان عموما تطرح أمثلة وتشبيهات تتعلق بظواهر الطبيعة كالشروق والغروب والمطر ونمو النبات، إلا أن كل هذه الأمثلة لا تحمل دلالات علمية أو معرفية فيها، إنما هي موجودة كتأملات يستخدمها الفرد للوصول لنتائج تتعلق بالتجربة الروحية للفرد. وتلك التأملات ليست مسوغا لبناء نتائج علمية عليها، ولا هي قابلة لتحمل تأويلات تزيل روح النص ورحابته إلى آفاق ضيقة رهينة المعرفة النسبية.
إنني أتصور أنه من الضروري أن لا يصطبغ العلم بصبغة دينية محددة، أو حتى بصبغة وطنية أو قومية، ولا أن يكون رهين حقبة تاريخية خاصة، بل هو ينتمي للبشرية جمعاء، فقد اشترك في إنتاجه البشر عبر مختلف الأزمنة والأمكنة، فهو ليس صناعة مغلقة خاصة، إنما هو معرفة تجميعية تعاونية. مع أنه من الحكمة القول بأن هناك أشكالا قليلة من تطبيقات العلم لا زالت تخضع لسطات سياسية وهناك تحفظ حولها، ويمكن حل ذلك عبر الحلول الدبلوماسية والتعاون العلمي السلمي بين الدول.
وبافتراض تحقق مطلب المطالبين بأسلمة المعرفة، فإن معرفة دينية ستكتسب قداسة الدين بطبيعة الحال، هذه القداسة بالتالي ستعطل النقد والتبديل في العلم، مما يؤدي لتعطيل العلم ذاته، فالعلم قائم أساسا على التغير المستمر لمواكبة كل الاكتشافات الجديدة، فإذا وجد علم غير قابل للنقد فإنه يصبح كالتراث الإسلامي، يمنع الاقتراب منه ومخالفته، وهذا ليس من مصلحة تطوير العلم.
يبقى العلم من أبرز ما أنتجه الجنس البشري طوال التاريخ، ولم تقتصر المساهمة في إنتاجه على مجموعة من الناس دون غيرهم، وأي محاولة لإخضاع العلم ووضعه ضمن محددات ثقافية سيضر بروح العلم وحيويته. وربما يكون المنهج الأمثل بتحييد العلم والمحافظة على استقلاليته.
