الصيرفة الإسلاميَّة.. تحدِّيات وآمال

بسَّام الكلباني

يُعرِّف الكاتبُ عاطف علي البنوكَ الإسلامية في مقاله "البنك الإسلامي ما له وما عليه" على أنَّها مُؤسَّسة مالية لتجميع الأموال وتوظيفها في نطاق الشريعة الإسلامية؛ بما يخدِمُ مُجتمعَ التكافل الإسلامي، وتحقيقِ عدالةِ التوزيع ووضعِ المال في المسار الإسلامي. ولكن مع وجود تعريفٍ جلي كهذا؛ فإن الأسئلة المُلحَّة التي تتبعهُ لا يمكن أن تنتهي، فعن أيِّ نظامِ صيرفة إسلامي يتحدث الكاتب؟ فالصيرفة الإسلامية وإن كانت بدايتها في مصر (البنك الادخاري في ميت غمر 1963م)؛ إلا أنَّ مصر التي وضعت تلك القواعد الاساسية لا يمكن الاعتداد بكونها أنموذجا يُحتذَى ويعتد به في ظلِّ الوجود المخجل للبنوك الإسلامية فيها؛ فهناك قواعد صيرفة ماليزية رائدة في هذا المجال، وهناك الصيرفة الإيرانية والسعودية.

لكنْ وحتَّى لا نضع الفرس أمام العربة؛ فلننظر إلى حقيقة البنك الإسلامي -بشقيه النظري والتطبيقي- فالبنك الإسلامي في الوطن العربي لم يعرف انتشاراً عالميًّا بالقدر الذي عرفته البنوك التجارية الربوية في القُطر ذاته، وإن كان يهدف إلى خدمة المجتمع المسلم من خلال التكافل الإسلامي وتحقيق عدالة التوزيع وتحقيق تنمية مستدامة وتدريب أفراده على الترشيد في الإنفاق والادخار، ومعاونتهم في تنمية أموالهم؛ فتلك هي أهداف الصيرفة الإسلامية التي لا تختلف مع البنوك الربوية الأخرى إلا في الإطار الشرعي (الحلال والحرام) فقط؛ الأمر الذي يجعلنا مرة أخرى نشارك الكاتب السؤال ذاته: ماذا تعني بالبنك الإسلامي؟

لعلَّ الإجابة عن هكذا سؤال تفتح لنا أفقاً ثيولوجيًّا مُهمًّا وأساسًا وجوديًّا جوهريًّا في البحث والتمعُّن في الحقيقة الدائمة "للوجود البشري الأصيل" كما يسميه فريدريك نيتشه، ومفاده العلة من هذا الوجود: الله هو خالق هذا الكون، والإنسان مُستخلَفٌ فيه وفي إدارة موجوداته، والمال أحد هذه الموجودات التي يترتب على الإنسان توظيفها في أحسن المجالات، وهنا تأتي أهمية البنوك الإسلامية أو النظام الصيرفي الإسلامي. فالبنوك الإسلامية كفيلة بتصحيح المسار الاقتصادي للأمة الإسلامية بما يمكنها من تسيير نشاطها الاقتصادي بيسر، وبعيداً عن القيود المفروضة من قبل البنوك العالمية الرائدة، في كون البنك الإسلامي "تاريخيًّا" قام بتمويل النشاط التجاري والاقتصادي الأكثر مُخاطرة المتشكِّل في الشركات الإنتاجية في القطاعات السلعية كالزراعة والصناعة والإسكان؛ الأمر الذي نَتَج عنه الإسهام في زيادة الإنتاج القومي الإجمالي؛ وبالتالي -وبطبيعة الحال- الزيادة في دخل الفرد وتحسين مستويات المعيشة.

كما أنَّ البنوك الإسلامية عملتْ على تعبئة الفائض غير الموظف من النقود؛ سواء أكان مدخرات مكتنزة ومحبوسة عن التعامل، أم كانت موظفة في مجالات غير اقتصادية من خلال إعادة توظيفها بالشكل الذي يُعظِّم من إنتاجيتها لتحقيق توازن اقتصادي؛ وبالتالي تحقق قدراً أكبر من التناسب بين الربحية ومقتضيات التكافل الاجتماعي البشري.

أمَّا عملية تشغيل البنوك الإسلامية، فإنها تلتزم في معاملاتها بالأمر الذي يُميِّزها ويفصلها عن غيرها من البنوك التجارية، ألا وهي قاعدة الحلال والحرام؛ من خلال الابتعاد عن المعاملات المشكوك فيها؛ حيث إنَّ البنوك الإسلامية تستمدُّ مشروعيتها بتجسيد الفكر الإسلامي من خلال عدم التعامل بالربا، وهو السِّمة المميِّزة لها عن باقي البنوك؛ الأمر الذي يجعل البنك الإسلامي أداة ترشيد ورشادة تنموية من خلال التعاملات التجارية التالية:

1- تؤدِّي البنوكُ الإسلامية دورَ البنوك التجارية وبنوك الأعمال وبنوك الاستثمار وبنوك التنمية؛ فهي بالتالي مُتعدِّدة الوظائف، ولا يقتصر عملها على الآجال القصيرة، كالبنوك التجارية، ولا على الآجال الطويلة والمتوسطة، كالبنوك المتخصصة؛ وبذلك فهي شاملة ومُتخصِّصة في آن واحد.

2- لا تتعامل البنوك الإسلامية بالفوائد والائتمان، بل تعمل على أساس المخاطر والمشاركة في النتائج سواء بالربح أو الخسارة.

3- إنَّ العلاقة بين البنوك الإسلامية والمتعاملين معها -سواء كانوا أصحاب الموارد أو مستخدميها- ليست علاقة دائنية ومديونية؛ بل هي علاقة مشاركة ومتاجرة.

4- إنَّ البنوك الإسلامية لا تتاجر بالديون، ولكنها تشارك في عمليات وتتاجر في سلع، بمعنى أنها تقدم تمويلاً عينيًّا.

5- البنوكُ الإسلامية هي مُؤسَّسات ذات رسالة اقتصادية اجتماعية تستمد مبادئها من الشريعة الإسلامية.

ولعلَّ أبرزَ التجارب المصرفية الإسلامية التي كان لها السبق في القطر الإسلامي، في القرن الماضي المنصرم، قد عانتْ العديدَ من العقبات والصعوبات في سبيل سيرها وفق النهج الإسلامي والأهداف والطموحات المرسومة لها؛ إذ يُلخِّصها الكاتبُ في نقص الكوادر البشرية اللازمة للعمل في البنوك الإسلامية، وفي الإعلام المحدود عن البنوك الإسلامية، التي تُمثِّل فكرةً جديدةً تحتاج للتوضيح والشرح، وفي موقف البنوك المركزية من البنوك الإسلامية، التي كانت إلى وقت قريب غير مُستعدة للاعتراف بها، وفي وجود فائض من السيولة كبير لدى البنوك الإسلامية، وتقهقُر نسبة العائد الذي يُوزِّعه البنكُ الإسلامي على التوظيف طويل الأمد، وفي القدرات الهائلة للأجهزة المالية العالمية على الإعلام المضاد لفكرة وحركة البنوك الإسلامية، تمكنت من إحداث تيار لا يتعاطف مع البنوك الإسلامية، وأخيراً في ضعف وغياب التنسيق بين مجموعة البنوك الإسلامية، بالرغم من وجود الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.

وبطبيعة الحال، فإنَّ أيَّ نظام جديد يستدعي للحكم عليه مرور بعض الوقت الطويل نسبياً، لإتاحة الفرصة لاختباره ومعرفة مدى نجاحه ومدى قابلية تطبيق تلك الغايات المرسومة له؛ فالصيرفة الإسلامية لا تزال بحاجة إلى الكثير من الأدبيات والتعديلات والقوانين التي تُسهِّل ديناميكيتها وكسب ثقة الزبون القابل على استثمار ماله، على أنْ يكون الباعث من وراء اللجوء إلى البنك الإسلامي ليس الإطار الشرعي وحسب؛ بل اليقين التام بجدوى الاستثمار في تلك المؤسسة، وشفافية التعامل والربحية والتكافل الذي يضمن التنمية المستدامة في المجتمع الإسلامي.

... إنَّ البنوك الإسلامية الحالية لا تتناسب مع الآمال الكبيرة التي يُعلِّق عليها الفكر الاقتصادي الإسلامي، ولعلَّ الأمرَ جليٌّ لنا في كَوْن استمرارية مثل هذه البنوك حتى الآن هو كونها تقوم بالعمل التقليدي الذي تقوم به البنوك الربوية؛ من خلال التركيز على الائتمان المصرفي وإعطاء التسهيلات للمنشآت التجارية المهمة، بَيْد أن الأدبيات الاقتصادية كانت تشدِّد على ضرورة العمل على تشجيع إنشاء المشروعات الجديدة التي يحتاجها المجتمع، والتي من شأنها أن تشغل القوى العاملة والعاطلة وتسهم في حلحلة العديد من المشاكل الاقتصادية.

وفي الأخير، يجب الإشارة إلى شيء مهم في هذا المقال، أنَّ الحُكم على مَدَى نجاح الصيرفة الإسلامية بعد تجربة مُنقطعة تاريخيًّا وجغرافيًّا ومليئة بالمؤامرات البنكية العالمية والتعطيل والتنكيل؛ ليست مقياساً لنجاحها من فشلها، على اعتبار أن تلك البنوك غير موجودة في بعض البلدان الإسلامية من الأساس، كما أن أقدمها قد ظهر قبل حوالي نصف قرن ليس إلا، ولم تتح لها -البنوك الإسلامية- الفرصة لتجارب تطبيقية لسد الثغرات والسعي نحو تحقيق الأهداف المنشودة كـ"رسم الاستخدام" عوضاً عن الفائدة، وتشغيل "نظام التأمين على الودائع تحت الطلب"، وجواز أخذ "الأجرة على خطابات الضمان"، وأخيراً: ضرورة التفريق بين الربا والفائدة؛ فالأول قد حرم صراحة بنص قرآني قطعي الدلالة وغير قابل للتأويل، بيد أن الفائدة ناتجة عن الأنظمة المالية الحديثة التي تضمن استمرارية تقديم الخدمة وغيابها يشكل خطراً لوجود النظام الصيرفي بأكمله.

أخبار ذات صلة