عبدالله الشحي
في المقال المعنون بـ"العدالة وحكم القانون في التجربة الإسلامية" للمفكر اللبناني رضوان السيد، يُناقش الكاتب العملَ القضائيَّ وتطوره خلال التاريخ الإسلامي، مع شرح العلاقة بين القضاء والسلطة الحاكمة. وأيضًا بين القضاء والفقه، أو القضاء المستند للفقه والقضاء المستند للقانون. كما يتحدَّث عن "المؤسسة الفقهية" ومصيرها الذي آلت إليه.
وقد حظيت عملية التقاضي وفض النزاعات في التاريخ الإسلامي بالكثير من الاهتمام عبر مختلف الفترات الزمنية، منذ عهد النبوة، وقيام الخلافة الراشدة، حتى الخلافة العثمانية. وأخذتْ بالتطوُّر تدريجيًّا في مواجهة المتغيرات التي كانت تظهر على الساحة؛ فكانت هيكلية القضاء تتغيَّر من زمن إلى زمن حسب الاحتياجات والمصلحة التي يراها الخليفة.
وكان العدل هو المحور الذي تدور حوله آلية القضاء؛ باعتبار العدل أساسا ضروريا لقيام المجتمعات، ابتداءً من عدالة رب البيت بين أفراد أسرته، وانتهاء بعدالة السلطة على الشعب، بل إنَّ الأخيرة أكثر خطرا، فيكون سبيل تحقيق ذلك والمحافظة عليه بين أفراد المجتمع على اختلاف مكانتهم وأوضاعهم بواسطة جهة تملك صلاحية البت في المنازاعات وجهة لتنفيذ الأحكام الصادرة.
على أنَّ مفهوم العدل نفسه قد يكون من المفاهيم البديهية التي لا تحتاج تعريفا؛ فهو مفهوم لديه صورة في الذهن يكاد يتفق عليها الجميع، إلا أنَّ هذه الصورة لا يُمكن تطبيقها حرفيا، وهو ما يُشير إليه علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري" في قصة عُمر بن الخطاب، التي تذكُرها الروايات حينما قام بمعاقبة ابن عمرو ابن العاص على خطأ ارتكبه، وعندما فَرَغ من عقابة قام لعقاب عمرو ابن العاص نفسه باعتبار أنَّ الابن ما تجرأ على هذا الخطأ لولا وجود أبيه. وهذه المرونة في تنفيذ العدل في مواقف معينة لها آثار قدرها الخليفة آنذاك، قد لا يقبلها الناس في هذا الزمان.
كانتْ العملية القضائية في البداية عملُا يقوم به الخليفة نفسه، لكن وقوع أراض جديدة تحت النفوذ الإسلامي، وعدم تفرُّغ الخليفة، حتَّمت عليه اتخاذ أشخاص لشغل منصب القضاء، وكان بداية ذلك في عهد عُمر ابن الخطاب، واستمر هذا التقليد طوال وجود الخلافة.
ويُشار هنا إلى مسألة قد تلفت الانتباه، وهي الفصل بين السلطات، وأقصد بها فصل السلطة التشريعية عن السلطة القضائية. ربما لم يُقصد من إنشاء قضاء مستقل عن الخليفة فصلا للسطات بقدر ما كان مجرد تلبية لحاجة طارئة، لكنه آتى ثماره على كل حال؛ فالقاضي هنا يملك الصلاحية في محاسبة حتى الخليفة، وهذا مما تميَّزت به الخلافة الراشدة.
وبالطبع، فإنَّ القضاء أخذ يتغيَّر تحت تأثير عدد من العوامل؛ أبرزها: التحول في دولة الخلافة ومكوناتها كاستحداث وظائف جديدة وتوزيع الصلاحيات؛ مثل: وظيفة قاضي القضاة. ويُشير الكاتب إلى أنَّ هذه النقلة النوعية لها أهمية؛ بحيث يُمكننا القول إنها عزَّزت مبدأ استقلال القضاء إلى حدٍّ ما. مع أنَّ ذلك بالطبع لا ينفي أن صاحب هذه الوظيفة لا يخضع للخليفة، لكن كون القضاة في مختلف أرجاء الدولة يعملون تحت ما يشبه الهيئة المستقلة التي يرأسها قاضي القضاة، فيُعتبر مؤشرا مقبولا من جهتي على الاستقلالية في ذاك الوقت على الأقل.
ويُضاف إلى ما سبق التأثير الناتج عن ظهور المذاهب الإسلامية؛ حيث كان الرأي بخصوص المسألة الواحدة يختلف من مذهب لآخر. وكل قاض بطبيعة الحال يتبع مذهبا معينا؛ مما يخلق بعض الإشكال.. فالقاضي مثلا عندما يُصدر أحكاما بناء على مذهب معين لا يُوافق المذهب السائد في تلك المنطقة، فإنه يُضيِّق على الناس من حيث لا يقصد. ويَرَى الكاتبُ أنَّ وجودَ المذاهب في الحقيقة يصبُّ في صالح الفصل بين السلطات؛ فالأحكام القضائية تُبنَى على أحكام فقهية ذات استقلالية عن النظام السياسي القائم، وليس على القوانين التي يرسمها النظام.
ويصفُ الكاتب تأثيرَ العامليْن السابقين بـ"التطور في علاقة الدين والدولة"؛ فهناك تطور حصل في الدين وهو ظهور المذاهب، وتطور حصل في الدولة وهو استحداث وظيفة قاضي القضاة؛ مما أفضى لحصول تطور في علاقة الدين بالدولة.
لم تدم الحال هكذا طبعًا؛ أي أنَّ السلطة لم تكن لتترك القضاء بدون تدخل، ويُبرز الكاتب محاولات السلطة التأثير في سير العملية القضائية من جهات عدة؛ فالدولة كانتْ تتدخَّل في العملية القضائية بواسطة المحاكمة المباشرة لبعض المتهمين، أبرزهم هم المتهمون السياسيون، بحجج مثل محاولة إثارة الفتنة ومحاولة التخريب، وكان القضاة يحاولون تخفيف نتائج هذا التدخل؛ لتوفير مساحة أكبر من الحرية، وكي لا يتم اعتبار كل نقد جريمة تستحق العقاب.
وفي فترة الدولة العثمانية، كان هناك شكل آخر من تدخُّل سلطة الدولة بالقضاء، يصفها الكاتب بـ"قضاء الشريعة" في مقابل "حكم القانون"، أي أنَّ المسألة هنا لم تكن المحاكمة المباشرة من قبل السلطة، بل إصدار قوانين وإلزام القضاء بالحكم وفقها. حيث إنَّه وكما بيَّنا في آلية عمل القضاء حتى الآن، أنَّ القاضي يتَّخذ أحكامه بناءً على الآراء الفقهية، لكنَّ حُكم القانون يعني أنَّ الأحكام تُبنى على القرارات والمراسيم الخاصة بالحكومة.
وفي القرن التاسع عشر، وبعد وصول السوق العالمية للبلاد الإسلامية، يُوضِّح الكاتب حصول تداخل بين منظومات قانونية مختلفة، جعلت القضاء الشرعي -المستند للأحكام الفقهية- أقل هيمنة على الساحة، وانحساره في جوانب معينة، في مقابل ازدياد انتشار حكم القانون. وتتفاوت الدول الإسلامية اليوم في مقدار اتخاذهم للقواعد الفقهية كأساس قضائي، وأتصور أنَّ سبب الثبات الجزئي للقضاء الشرعي يرجع لكون الأحكام الفقهية أصبحتْ أعرافا اجتماعية كمسائل النكاح والمواريث، مما يجعلها أصلح للناس من الأحكام المستندة للقانون.
... إنَّ العملَ القضائيَّ -كما تُشير المعطيات التاريخية- لم يكن ثابتاً، بل كان دائما مرنا مُتحولا، وكذلك علاقته مع الفقه والسياسة كانت مُتغيِّرة طبقا للظروف المحيطة، ودراسة هذه التغيرات ضروري لفهم العمل القضائي التاريخي من جهة، والحالي من جهة أخرى.
