نوف السعيدي
يُناقش الباحث السوري علي مُحمَّد إسبر في مقاله "مشكلة علم الله في الفلسفة الإسلامية وأثرها في اللاهوت الكاثوليكي"، قضية اختلاف الفلاسفة المسلمين حول طبيعة العلم (1) الإلهي، وكيف أثَّرت آراؤهم -وبالأخص آراء ابن رشد- في التصورات المسيحية حول القضية. طُرحتْ هذه المشكلة لأول مرة عن طريق أرسطو، وتبنَّى الفاربي وابن سينا رأيه، خالفهما في ذلك الغزالي وكفَّرهما في كتابه "تهافت الفلاسفة"، وعاد ليتَّفق معهما ابن رشد في كتابه "تهافت التهافت". انتقلت أفكار المسلمين لأوروبا فتبناها الرشديون اللاتين؛ وخالفهم فيها القديس توما الإكويني.
وما سأسعى إليه في هذا المقال هو مُناقشة القضية دون الإشارة إلى من تبناها ومن نقدها، ليس لأنَّ الفكرة هي الأهم فقط، ولكن لأنه ليس بوسعنا -أو بوسعي شخصيًّا- التوصل لفهم حقيقي حول ما يعنيه المفكرون السابقون؛ ففهمنا لآراء أرسطو وابن سينا مثلا لا تعتمد على المصادر الأصلية، بل على فهم من تبعهم لأفكارهم، ليس لأنها احتاجت للشرح فقط، بل لأنَّ المصادر الأصلية في كثير من الحالات تعرَّضتْ للتلف، فما تبقى لنا من أعمال ابن رشد مثلا التي كتبت في الأصل بالعربية هو ترجمة عن ترجمة الأصل.
أين المشكلة؟
علينا في البداية أنْ نُؤكِّد أنَّ جميعَ المفكرين الذين تناولهم المقال ينطلقون من منطلق أساسي متفق عليه، وهو أنَّ الله عالم بكل شيء، وأنَّ الخلاف هو فقط حول طبيعة هذا العلم: هل هو علم كلي أم جزئي؟ بمعنى آخر هل هو علم عقلي أو حسي؟
الذي نعنيه بالعلم الكلي هو أنَّ إدراك الله للأشياء يأتي من إدراكه لذاته، بمعنى آخر فإن الله هو العلة الأولى (سبب كل شيء) وهذا يعني بالضرورة أنه يعلم السبب والنتيجة لكل ما عداه. فكر ببرنامج حاسوب كلف بوظيفة معينة، يمكن للمبرمج أن يعرف النتيجة بحكم معرفته التامة لسلسة الأوامر التي ستنفذ على البيانات المدخلة.
الآن.. إذا قلنا إنَّ الله عالم بالكليات وبالجزئيات أيضا؛ فذلك ينفي صفة الكمال عن الله.. كيف؟ لأنَّ العلم بالجزئيات مُرتبط بوقوع الحدث في إطار زمني، الذي يعني أنه علم متغير. مثلا يعلم الله أنك تقرأ الآن، ولكن عند توقفك للقراءة سيكون (إن شئنا الدقة فهو كان ويكون وسيكون) الله عالما بأنك لا تقرأ، هذا التغير في العلم (علمه بأنك تقرأ ثم علمه بأنك لا تقرأ) يناقض حقيقة أن علم الله الثابت، كما أنَّه يعني أن ذاتا ناقصة مثلنا تغير في ذاته الكاملة، وسيكون محتاجا لتحقق الواقعة أو الحدث ليحدث ذلك التغير في العلم، بل وسيحتاج لأدوات حسية من أجل إثبات تحققها.
وبالمقابل، إذا قلنا إنَّ الله عالم بالكليات دون الجزئيات، فهذا يعني أن العلم ينبع من التصور الذهني وفق المعرفة التامة بالأسباب والظروف؛ أي أنه لا يتطلب "المشاهدة" أو بمعنى آخر لا يتطلب أدوات حسية للتحقق. تخيَّل رجلا يسحب الحبل ليدير بكرة البئر، هو يعلم أن شد الحبل هذا سينتهي بحصوله على دلو ماء، رغم أن الدلو غير مرئي بالنسبة له، لكن هذه المعرفة سببها أنه هو نفسه من وضع الحبل ومن ألقى الدلو، لكن كيف لك بعد ذلك أن تلوم الدلو إن خرج فارغا، إذا كنت من صنعه وربطه وألقاه وسحبه؟ بكلمات أخرى إذا كان إدراك الله للاشياء يأتي من إدراكه لنفسه؛ كونه هو المسبِّب الأول فهذا يعني أن الإنسان مُسيَّر على نحو لا يصح معه أن يُعاقب بعدها. والأشد من ذلك أن هذا سيعني أن الخير والشر كلاهما من الله وهو ما يناقض صفات الله.
هناك رأي حول العلم بالكليات يذهب لأبعد من ذلك بالقول إنَّ الله وضع قوانين الكون وترك الكائنات تتخذ مسارها الخاص، بقدر من الاستقلالية، لكنَّ ذلك أيضا سيعني أنه لا يمكن أن تحدث معجزات، أو تدخل إلهي استثنائي على أي مستوى بما في ذلك ما يطلق عليه العناية الإلهية.
لماذا برأيي هذه قضية عديمة الأهمية؟
يبدو مِمَّا سبق أننا أمام فريقين؛ الأول يقول إنَّ الله يعلم بالكليات لينزهه عن النقص، والثاني يقول إنه يعلم الكليات والجزئيات ليؤكِّد أنَّ ما من شيء يخفى عليه. الفريق الأول (علم الله بالكليات) يُواجه مُشكلة نسبة الشر إلى الله وانتفاء التخيير وبالتالي انتفاء الحساب والعقاب. فيما الفريق الثاني (علم الله بالكليات والجزئيات) يُواجه مشكلة انتفاء ثبات علم الله وكمال ذاته. إذن، فهذه مسألة لا يُمكن أن يحلها المنطق هذا أولا، أما ثانيا فما نعرفه عن الإدراك نابع من طبيعتنا البشرية التي تحتاج إلى الحواس من أجل تعرف الأشياء، وحين نتحدث عن "ذات" لا نعرف طبيعتها المادية (أو بالأحرى ماهيتها) فليس بالإمكان أن نسقط عليها قوانينا؛ لهذا فإن الجدل في المسألة لا يمكنه أن يقودنا لأي نتيجة. وبالرغم من ذلك، فإنَّ البحثَ فيها مهم جدًّا لتوسيع المدارك، ومحاولة الفهم.
يُمكن للكثيرين أن يتبنُّوا أحد الرأيين، ويجدوا فيهما إجابات شافية عن تساؤلاتهم، أو يمكن أن يصلوا ببساطة إلى ما توصل إليه توما الأكويني؛ حيث قال إنَّ "علم الله بسيط غير مركب ولا يمكن أن يكون كليا أو جزئيا" (2)، ولكن بمجرد أن يُؤكد الإكويني أن الله يعقل ذاته، كما يعقل غيره فإنه يكون في صف القائلين بعلم الله بالجزئيات، وهذا يضع تصوره عن القضية محل جدل؛ إذ يُمكن أن يطبق عليه من المآخذ ما ينطبق على الغزالي أو غيره من الفلاسفة المسلمين الذين يقولون بعلم الله بالكليات والجزئيات.
ولمن أراد الاستفاضة في الموضوع، يُمكنه العودة إلى الدراسة التي وضعها المفكر العراقي يحيى مُحمَّد بعنوان "أربع نظريات فلسفية حول العلم الإلهي"، فقد ساعدتني كثيرا في فهم القضية؛ إذ يستخدم لغة فلسفية يسيرة، يستعرض فيها الآراء المختلفة.
------------------------------
المراجع:
1- سيتم استخدام الكلمات الآتية كمترادفات: العلم، المعرفة، العقل، التعقل والإدراك.
2- المقال.
