بسام الكلباني
يشهَدُ العالم في الآونة الأخيرة ذكرى واقعة هزّت كيان الاستقرار الغربي لأول مرّة بعد انتهاء جنون الحرب العالمية الثانيّة. لقد مضى على أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول خمسة عشر عاماً، وقد خلّفَت ضحايا أبرياء، وأصبحت تاريخاً ونصباً تذكاريّاً وذكرى يحييها الأمريكيون مع ذوي الضحايا للأعوام القادمة، ولكنّ الأبعاد السياسية والاجتماعية والفكرية لن تُركن في رفوف التاريخ، بل جعلت وستجعلُ من هذا المشهد المأساوي مساراً يغيّر الموقف الغربي من الإسلام والمسلمين، وقد جعلت الغرب يتفنّنون في ترهيبِ وتقسيمِ الجماعات الإسلامية هادفين في المقام الأول إلى معرفة حقيقة ما إذا أصبحَ الإسلام تهديداً فكرياً وتحريضا دينيا وحسب أم أنّه تجاوز تلك المرحلة بأبعاد لم يتوقعها أكبر المحللين السياسيين يوماً.
يذكر الكاتب السوري رضوان زيادة، في مقالتهِ المعنونة "المنظور الغربي لحركات الإسلام السياسي" بأن صورة الإسلام التي بدت في غاية السلبية – بناءاً على استطلاع أجراه معهد (بيو) الدولي للأبحاث في تموز/يوليو 2005 – بأنَّ السببَ وراء ذلك يعودُ إلى أسبابٍ تاريخيةٍ وسياسيةٍ أبعد بكثير من أحداث الحادي عشر من سبتمر/أيلول، أي أنَّ بناء هذه الصورة السلبية نابعٌ بشكلٍ رئيس من الأحكام التلقائية التي تطلقها وسائل الإعلام الغربية والنخبُ السياسية والفكرية والثقافية. ويرى الكاتب الإيرلندي ماليس رونفن أن الفشل الإسلامي يعزو إلى وجودِ نوعٍ من التمزّقُ الداخلي داخل المجتمعات الإسلامية والذي تجسّد في التمزق بين ماضٍ تقليدي وتعليم عالٍ، مضمونه غربي ومدني، الذي أدى بدورهِ إلى تأجّجٍ في الهويةِ داخل هذه المجتمعات والتي لعبت فيما بعد دوراً محورياً في استدعاء أنماط من الصراع والصدام التقليدي بين الإسلام والغرب، بينما يرى مواطنه فريد هاليداي – صاحب كتاب ساعتان هزتا العالم – أن الحركات الأصولية في مجملها، لا الإسلامية منها وحسب، معادية للحداثة والديموقراطية معاً، إذ أنَّ الآخر عندها مرفوض مبدئيّاً، وحينما تتشابك الهويّتان الدينية والإثنيّة في أحداهما؛ يتكامل العداء للآخر حتى يصير أقرب إلى كونهِ عداءً عنصريّاً، إذ يختلف مع رونفن في كون أنَّ الحركات الأصولية لا تكترثُ بالتنمية أو العولمة، وإنّما تصبُّ جامَ غضبها على حكامها، وعلى الفساد الأخلاقي وعلى الغرب وإسرائيل.
بيد أن البعض يذهبُ إلى أبعدَ من ذلك في تحليلاتهِ ليقرأ الخلفية الاجتماعية والسياسية التي مكّنت صعود الإسلام السياسي متمثلة في انهيار مشروع التحديث العربي الذي قادتهُ الأنظمة العربية ما بعد الاستقلال منذ الخمسينات وفشلها الذريع في تحريرِ فلسطين كقضيّةٍ إسلامية، ثم تصاعد تلك المسألة في الوعي العربي والإسلامي، ثم فشل التنمية الاقتصادية الاجتماعية وهو الأمر الذي انعكسَ بشكلٍ كبير على ازديادِ الفقر وتدهور المستوى المعيشي للمواطنين، ثم ترافق مع تلك الأحداث نمو شكلٍ من أشكال التسلطية السياسية المطلقة التي اختلفت بين دول عربية وأخرى؛ إلّا أنها تشابهت في انعدام تبلورِ أفقٍ لإنجاز الديموقراطية السياسية، وقد ترافق كلُّ هذا مع صعودِ نجمِ إسرائيل كقوةٍ إقليميةٍ وعسكريةٍ واقتصاديةٍ وتكنولوجيةٍ وفشل العرب في تحقيقِ أيٍّ من الشعارات التي وضعوها وحلموا بها كالقوميّةِ العربية في مواجهة إسرائيل، كل هذا خلقَ بيئة خصبة لنمو التديّن السياسي واكتساحهِ الأرياف المتوسطة والفقيرة الأمر الذي شكلَّ بدورهِ مرتعاً سهلاً لنمو التيارات المتطرفة داخل هذه القرى والأحياء المعدمة.
ارتكزت هذه الدراسات التصنيفية لحركات الإسلام السياسي على أنَّ هناك "تياراً أعظم" يتصِفُ بالتصالحية والاعتدال، وهو ما يطلق عليه في الفقة التقليدي (إسلام الأكثريّة) أو بمفهوم فقهي (السواد الأعظم) وهو الذي تؤخذ الحجيّة منهُ في الكثير من الاجتهادات الفقهيّة عندما يجري الإرجاعُ إلى ما عليه إلى جمهور المسلمين. فالإسلامُ السني هو الطريق الوسط، والآخرون فرقٌ وانقسامات يقاسُ صدق إسلامها بمدى قُربها أو بُعدها عن الإسلام الأكثري في الاعتقادات والممارسات.
يذكر تقرير (مجموعة الأزمات الدولية) عدَّة تقسيماتٍ لتيارات الإسلام السياسي السُني، أولها يطلق عليهِ تسمية "التوجهُ الإسلامي السياسي"، بمعنى أنّهُ يشتملُ على حركاتٍ تعطي الأولوية للعمل السياسي على الخطاب الديني والسعي للسلطة بواسطة وسائل سياسيةٍ وليس العنف، وبشكلٍ خاص تنظيم أنفسهم كأحزابٍ سياسيّة، والمثال الرئيس هو الإخوان المسلمون اليوم في مصر وفروعهم المختلفة في الأردن والجزائر.
أمّا التيار الثاني فهو يشتملُ على النشاط التبشيري المتجدد والأوصولي في آن واحد، وتتجنب الحركات من هذه الفئة النشاط السياسي المباشر، وهي لا تسعى إلى السلطة ولا تصنِّفُ نفسها كأحزابٍ سياسية، بل تركزُ على النشاط التبشيري كالدعوة لتثبيت أو إحياء الإيمان كالحركات السلفية المنتشرة في العالم العربي وجماعة التبليغ التي ولدت في الهند في القرن الماضي وانتشرت في العالم.
أمّا التيار الثالث فهو تيّار الجهاديين، وهم نشطاء ملتزمون بالعنف لأنهم معنيون بما يعتبرونه دفاعاً عن الإسلام أو في بعض الأحيان لتوسيع دار الإسلام، ويضم هذا التيار فئتين رئيستين هما:
- السلفيّة الجهادية المؤلفة من أناسٍ ذوي نظرةٍ سلفية تَتِمُّ تعبئتهم كمتطرفين تخلّوا عن النشاط المسالم الذي تتبعهُ الدعوة لينضموا إلى صفوفِ الجهاد المسلّح.
- القطبيون وهم نشطاء تأثروا بالفكر المتطرف لسيد قطب وكانوا في البداية مهيّئين لشنِّ الجهاد ضد أقربِ عدو، وهو الأنظمة المحليّة والتي وصفوها بالكفر وخاصة في مصر إبّان حكم عبد الناصر والسادات، وقبل التوجه في الجهاد ضد العدو البعيد وخاصة إسرائيل والغرب.
ختاماً، على المسلمين جميعاً، من أقصى الشرق إلى الشرق الأوسط والأدنى والشمال الأفريقي، أن يتعلّموا درساً مؤلماً من أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وأن يدركوا ضرورة إحياء إسلامٍ معتدل كالإسلام الدعوي أو الخلافي، وأن يتفهّموا مقتضيات العصر من حقوقِ إنسانٍ وعولمةٍ وتمدنٍ وتعدديّةٍ سياسية وثقافية، وأن يكون الباعث من كل هذا ليس الشعور بالأسف ولا بالأسى لما يحدث، وليس من باب الخيبةِ والهزائم المتعددة في شتى النواحي الفكرية والتنموية والسياسية، وإنَّما رغبةً وإدراكاً منهم بضرورة العيش المشترك بين الحضارات والشعوب، وأن لا يجعلوا تلك الخطابات الدينية تسهم في بناء جيل دموي، بل تحاربها بالكلمة والحجّة وإن لزم الأمر: فقاتلوا التي تبغي، وكما قال كارل بوبر: التسامح اللامحدود يؤدي حتماً إلى القضاء على التسامح، فإن كنّا متسامحين بشكلٍ مطلق حتى مع المتعصبين، وإن كنّا لا ندافع عن المجتمع ضد هجماتهم، فإنه سيتم القضاء على التسامح والمتسامحين في آن واحدٍ.
