نوف السعيدي
مقالُ "المواطنة والديمقراطية في المجتمعات التعددية" لآرنت ليبهارت يطرحُ ملاحظةً شديدةَ الدقة والذكاء؛ وهي: أنَّ وجود نظام الحزبين -الحزبين وليس تعدد الأحزاب- يُسهم في حفظ استقرار النظام السياسي؛ لأنَّ نظام الحزبين أكثر اعتدالا. ففي الأنظمة مُتعدِّدة الأحزاب تبدو الفوارق بينة، والتعصب واضحا -أو ممكنا- لوجود حزب يُمثِّلهم ويعبِّر تمامًا عنهم. إنَّ "التجانس الاجتماعي والإجماع السياسي يُعتبران شرطيْن مُسبقيْن للديمقراطية المستقرة". هذا التجانس قد لا يكون مُمكِنا إذا ما تمَّ اللجوء إلى الأنظمة التوافقية. صحيح أنَّ مثل هذه الطرق من شأنها أن تحقق التمثيل لجميع الفئات -الأقليات خصوصا- إلا أنها تحمل اعترافاً ضمنيًّا بوجود الفوراق، وقد تؤدِّي لانقسامات حادة وخلل سياسي بدل تحقيق الإرادة المشتركة.
ويُعدُّ تصنيف ألموند للأنظمة السياسية المحاولة الحديثة الكبرى لتحديد مختلف أنماط الديمقراطيات. وتصور ألموند يؤكد على سمة التمايز في الأدوار باعتبارها أحد مفاتيح الحل الديمقراطي المستقر، حتى إنه يقول: "مستوى التنمية السياسية ينبغي أن يقاس بدرجة تمايز الأدوار"؛ الأمر الذي تُحقِّقه أنظمة الحزبين. تتفق منظومة ألموند ومذهب فصل السلطات في أنَّ كليهما يُعنى بأمور مثل: الاستقرار الديمقراطي، وهيكلية الأدوار، والثقافة السياسية. وتختلف في أنَّ ألموند يُوسِّع فكرة فصل السلطات بحيث تشمل الهيكليات الفرعية غير الرسمية (الأحزاب، وجماعات المصلحة، ووسائل الإعلام). لكن ألموند يعترف بأنَّ "الحفاظ التام على الحدود بين الأدوار والوظائف لا يحدث أبدا"؛ لذلك احتاج مذهب فصل السلطات لمفهوم "الضوابط والتوازنات" لإكماله. هذا الأمر يوازيه مفهوم "تعدد الوظائف" لدى ألموند؛ أي أنَّه بجانب قيام الهيكليات بميزة وظيفية خاصة، فإنها تقوم بدور تنظيمي لوظيفتها داخل النظام السياسي.
والأنظمة التي يهتمُّ بها المقال هي الأنظمة الديمقراطية تحديدا. يُمكن تصنيف أنظمة الحكم المعاصرة على أساس تعددية الأحزاب، إلى أنظمة: الحزب الواحد، الحزبين، الأحزاب المتعددة. والسؤال الأهم هنا هو: ما الذي يجعل نظام الحزبين متفوقا؟
يُمكن الإجابة عن السؤال عبر التعريج على قضيتين مهمتين: قضية العضويات المتداخلة، وقضية الانقسامات المتقاطعة. و"حاصل هاتين القضيتين أنه عندما ينتمي الأفراد إلى عدد من المجموعات ذات المصالح والمنظورات المتنوعة؛ فإن مواقفهم تميل إلى الاعتدال"، وهذا قد يُخضِع قادة المنظمات ويدفعهم لاتخاذ مواقف وسطية، وهو الأمر الضروري للاستقرار السياسي. عكس ما يحصل في المجتمعات التي لا تتداخل فيها العضويات حيث تكون الانقسامات حادة، والحدود متمايزة فينتفي وجود ذلك النوع من الضغط الذي يؤدي للوسطية؛ إذا فـ"فرص استقرار الديمقراطية تتعزز بقدر ما يكون للجماعات والأفراد عدد من الانتماءات المتقاطعة".
... إنَّ نظامَ الحزبين يضمن الفاعلية السياسية وتكتيل المصالح؛ ففيما يقتصر كل حزب -في الأنظمة مُتعدِّدة الأحزاب- على نقل مصالح مجموعة محدودة، يعمل نظام الحزبين على اختزال مصالح مجموعة عريضة بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، أمر كهذا من شأنه خلق ثقافة سياسية متجانسة. أضف إلى ذلك أن الأنظمة متعددة الأحزاب تبقى مهددة بأن تفضي إلى حكم ديكتاتوري أو تنطوي في جوهرها على مبادئ النظام الشمولي، وعليه فـ"لا يمكن لهذا النمط غير المستقر من الحكم أن يديم الديمقراطية".
ولفهم المعنى الذي يُريده الكاتب من كلمة "التعددية"، دعونا ننظر في الفقرة الآتية والتي أزعم أنها ستقرِّب الأفكار السابقة كلها، يقول ليبهارت: "في البلدان الأوروبية الكاثوليكية -مثلا- يميل النمط إلى أنْ يكون تراكميا من حيث الأيديولوجية. فالأسرة، والكنيسة، وجماعة المصلحة، والعضوية الحزبية تميل إلى التطابق في سماتها الأيديولوجية والسياسية وإلى التعزيز المتبادل لتأثيراتها في تكوين الرأي العام. أما في الولايات المتحدة وبريطانيا، فإنَّ النمط المتداخل يبدو أكثر شيوعا".
ويختتم المقال بموضوع شيق؛ وهو: التباين بين العالم الأول والثالث، ويشير الكاتب إلى مجموعة من الأخطاء التي تُرتكب عند دراسة الوضع:
- أولا: المبالغة في درجة التجانس في الدول الديمقراطية الغربية.
- ثانيا: رغم أنَّ العديد من النماذج توصَّلت إلى ديمقراطية مستقرة من خلال طرائق توافقية؛ إلا أنَّ الطريقة التوافقية في التمثيل الشعبي تميل إلى إضعاف الإرادة الاجتماعية عِوَضا عن تقويتها؛ إذ بإمكانها أن تأتي بنتائج عكسية عبر خلق انقسام فئوي.
يُمكن إذاً للحل التوافقي أن يكون مرحلة مُؤقَّتة، ويُمكنه أن يكون سبيلا للديمقراطية المستقرة إذا ما حقَّق الشرطيْن الأساسيين: التجانس الاجتماعي، والإجماع السياسي. وبالرغم من تكرار النماذج الفاشلة للديمقراطية في عالمنا، إلا أنَّه لا يجب أن يدفعنا لفقد الإيمان بها، وإلا قد يؤدي هذا الموقف السلبي إلى شيوع الديكتاتوريات.
أتساءل كثيرًا عند مقارنة الوضع في عُمان بجاراتها: أيُّ هذه الدول أقرب لتحقيق الديمقراطية؟ هل هي عُمان التي تمتزجُ فيها ثقافات كثيرة مفصولة في حقيقتها عن بعضها، أم هي الدول التي يتَّضح فيها الصراع بين التيارات المختلفة؟ يبدو أنَّ الإجابة الوحيدة عن هذا السؤال هي أنَّه كلما كان النظام السياسي أقرب لطبيعة المجتمع أو المجتمعات المنضوية تحته، فإنه يعد بالبقاء والاستقرار، خصوصا بعد "الخيبة المتكررة" للثورات والديمقراطيات العربية.
