مفهوم الأصولية والأصولية الدينية

عبدالله الشحي

يطرح الباحث الأردني عامر الحافي في مقالته "الأصولية في الأديان: الدوافع والسمات المشتركة" مفهوم الأصولية وبعض تمثلاتها دينيًا وسياسيًا، ويتناول الأصولية الدينية بشيء من التفصيل شارحًا مكوناتها الأساسية التي تشترك فيها جميع الأصوليات سواء اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية، وأبرز النتائج المترتبة على وجود الأصولية الدينية.

تنشأ أي إيديولوجيا أو فلسفة في ظل ظروف اجتماعية وسياسية وثقافية وتتفاعل معها، مثل الاشتراكية التي نشأت من أجل محاربة الرأسمالية والإسلام في محاربة الوثنية من جهة، وتأييد الأخلاق والقيم الإنسانية من جهة أخرى. لكن مع مرور الوقت تبرز تحديات جديدة ومتغيرات مختلفة  ضد الإيديولوجيات تتطلب إعادة التفكير في المواقف السابقة وصياغة مواقف جديدة، كموقف أبي حنيفة في تجويزه إخراج زكاة الفطر نقداً بدلاً من الطعام.


  هذه المواجهة المستمرة ما بين الإيديولوجيات والعوامل المتنوعة نتنتج تنوعاً واسعاً يُساهم في تطوير وبناء الآيديولوجيا، فالعلمانية في فصلها بين الدين والدولة يوجد منها نسخة متشددة تقصي الدين تمامًا ونسخة متسامحة، ويعتمد ذلك على نتائج الصدام بين التدين المتشدد والمدنية الحديثة حول مفهوم الدولة وكيفية إدارتها. في حين أنّ هناك صدامات قد تنتج أكثر من ذلك، فمواجهة الأسئلة الوجودية المتعلقة بالغيبيات في تاريخ الإسلام أنتج مذاهب كلامية، والأسئلة الفقهية أنتجت مذاهب فقهية متنوعة. بحيث كلما طال الزمن زادت الصدامات وزاد التنوع الذي يصب في مصلحة الناس ويتيح مساحة أكبر للتفكير.

 

  بيد أنَّ مجموعة من الناس ترفض هذا الشكل من التنوع والتطور في آيديولوجيتها، وتراه شيئًا دخيلاً وتطالب بردعه وتتمسك بطريقة محددة وأسلوب معين غير قابل للتجديد والانفتاح لرؤية العالم من خلاله، هذه الفئة من الناس هم الأصولويون الذين يرون أنفسهم الأكثر فهمًا بين النَّاس، والأصولية في الواقع هي انتكاسة للعقل وردة عن منهج البحث الدائم والانفتاح على مختلف الأفكار. من الجدير بالذكر أنّ  الأصولية لا تنحصر فقط في الأصولية الدينية، بل لها تمثلات فكرية أخرى وسياسية.

 

المشكلة في الأصولية الدينية تكمن بكونها عابرة للزمان والمكان، بسبب ارتباطها بالعامل المقدس الممتنع عن الوقوع تحت النقد والتحليل، مما يجعلها تكتسب تلك الميزة أيضًا، فأيّ محاولة لتناولها تحت مجهر البحث والمساءلة تعتبر تعرضًا للمقدس والثوابت نفسها؛ فيجعلها ذلك تمتنع عن الازدهار والنمو، وترفض التفاعل مع متغيرات الواقع المعاصر، بل الاكتفاء بالنظر من خلال مقاييس القدماء ووجهات نظرهم القديمة.

يضرب المقال مثالاً للأصولية الدينية من الديانة اليهودية، الحاخام جوناثاف ساكس رئيس حاخامات بريطانيا، الذي يقول:" إذا كانت اليهودية تأمرنا بأن نكون أصوليين، فلنكن كذلك وبكل افتخار ودون دفاع". وبنفس هذه العقلية وآلية التفكير يقوم الكيان الصهيوني بممارسة كل أشكال العنف على الأراضي الفلسطينية مثلاً، ليس لشيء إلا تمسكاً بنظرتهم القديمة وقول آبائهم وتفسيرهم للكتاب المقدس.

 

تحكم جملة من العوامل شدة اندفاع الناس نحو الأصولية، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو نفسي. فالعمال وأصحاب الطبقة الكادحة الذين يشعرون بالاضطهاد قد يميلون نحو الاشتراكية وفرضها ولو بالقوة، لأنّها تعطيهم حقوقاً أكثر. نفس المبدأ ينطبق على الشعوب العربية المسلمة التي تعرضت للاستعمار، مما جعلها تتبنى حركات جهادية دينية خدمت بشكل جيد ضد الاستعمار في وقتها، ولم تعد هناك حاجة لوجودها بعد الآن.

يُعاني الأصوليون الدينيون من حالة تضخيم للذات ونزعة نحو الاعتقاد بأفضلية مجموعتهم عن غيرهم، كاعتقاد اليهود بكونهم شعب الله المختار، هذه الفكرة التي تخلق مسوغاً لارتكاب مختلف أشكال الفظائع تعتبر محورًا هامًا عند الأصوليين، فهي تحكم علاقتهم بغيرهم، والتي غالبا ما تكون نظرة دونية للآخر. يمكن أن يتجلى الخطر الحقيقي في توليهم للسطلة وامتلاكهم للسلاح، فالحركات الدينية العسكرية ذات المنهج الأصولي في الغالب لا تخضع لقوة الدولة ولا تخدم قيم المواطنة بل تعمل لتحقيق أهدافها الخاصة ولو على حساب إقامة حروب أهلية.

 

لا تعبأ الأصولية الدينية في السير ضد التقدم والبحث العلمي، حيث تمتلك إيمانا راسخا بوجهة نظرها تجاه مختلف القضايا والتساؤلات التي يطرحها الناس، ومثال ذلك إنكار الكنيسة لفكرة دوران الأرض حول الشمس، هذا النوع من الثقة العمياء بالمعتقد يعرقل النهضة ويسهم في وقف عجلة المعرفة التي يتم دفعها بالبحث والتجربة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل غالباً يترافق مع إنكار العلم نشر أفكار خاطئة وخلق حالة من وهم المعرفة والتي أعتبرها مرحلة أسوأ من الجهل.
 

مع كل ذلك فإنّ الساحة ليست حكرًا على الأصولية، فهناك حركات تجديدية تملك قراءة مختلفة للدين وتوجهاً منفتحاً نحو قبول الآخر، مع قابلية للتغيير ومرونة في تناول المفاهيم المعاصرة وتمثلاتها، كالحداثة والعولمة وحقوق الإنسان. والحق أنّ الحركات ذات هذا التوجه قديمة في تاريخ الإسلام وتضم تنوعاً في الآليات والنظريات المستخدمة، كابن رشد واستخدامه فلسفة أرسطو، وابن الرومي ونسخته من التصوف الإسلامي.

حظي عصرنا الحالي أيضاً بأسماء بارزة كنصر حامد أبوزيد ومحمد الجابري ومحمد أركون، بمشاريعهم المختلفة مثل تكوين العقل العربي ونقد العقل الإسلامي، في محاولة شجاعة لإعادة النظر في المفاهيم والطرق التقليدية التي يتناول الأصوليون من خلالها الدين مثل القرآن وتفسيره وأسباب النزول والأحاديث ومنزلتها، بالإضافة لتناول التراث العربي ومكوناته أدبيًا وفكريًا وثقافياً وفنيًا. وبالرغم من أن هؤلاء المفكرين قدموا  أعمالا جديرة بالاحترام والتقدير، إلا أنّ الأصوليين لا ينظرون إليها هكذا، بسبب مخالفتها لمنهجهم وتشكيلها لنوع من التهديد ضد قوة التيار الأصولي.

 

  مع أنّ مختلف أشكال الأصوليات تلعب دورا في الوطن العربي، إلا أن الأصولية الدينية هي قطعاً الأكبر تأثيرا، من حيث امتلاكها لمؤسسات وأفراد وانتشار واسع لا يكاد يخلو أي بلد عربي منه، مما يجعل الحرب ضدها غاية في الصعوبة، وتتطلب تضحيات على مختلف المستويات. تبقى هناك حركة تنويرية نشطة تحاول جاهدة تقليل تأثير الأصولية الدينية في مقابل توسيع رقعة الحريات.
 

 

أخبار ذات صلة