بسَّام الكلباني
إنَّ ما يشغلُ العالم الإسلامي المعاصر اليوم ينحصرُ بين مفهومي "الأصالة" و"الحداثة"، وقبل البدء في التحدُّث في الموضوع المعنون، وجبَ أن نعيد طرح السؤال ذاته الذي سألهُ المستشرق الألماني كرستيان كرول في مقالهِ المعنون بـ"الفكر المتنور في الإسلام المعاصر" والذي يضع الإجابة عن السؤال رهناً وبيدِ المسلمين: هل يوجد الحلّ في تحديث الإسلام أم في أسلمةِ الحداثة؟
القرآن كتابٌ مُنزَّل من عند الله وهو جوهرُ الإسلام وأساسه، وهو كتاب أزلي وغير قابلٍ للتغيير من حيث الشكل والمضمون.. هذا ما يتّفقُ عليه المسلمون جميعاً من مختلفِ مذاهبهم الفقهية والعقائدية، بَيْد أنه بلا شك لا يُغنِي الاتفاق في هذا الأمر من اتفاقِ المسلمين جميعا حول مقاصده.
لذا؛ يجد خواص المسلمين أنفسهم بين دفتين لا ثالث بينهما؛ إما الحقيقة الأزلية الثابتة الموجودة في النص القرآني، أو الحداثة التي تجعل جميع الأمور قابلة لإعادة الصياغة والتفكيك والتطور بما يتناسب مع تراتيب العصر. أما عوام المسلمين، فقد وقعوا بين أزمة: التفسير الظاهر للنص، أو التفسير الفلسفي التأويلي للنص.
وفي نهايات القرن العشرين، تحوَّل الإسلام إلى أنظمة شرعية وحركات منظمة، ترى في نفسها مضطرةً للدفاع عن الإسلام ضد القوى غير الإسلامية، وقد نشأ ذلك إلى ظهور اتجاهات متطرفة، ويرجع ظهور تلك الحركات "الإسلاموية" لأسبابٍ متعددة؛ في مقدمتها -ودون شك- السيطرة الغربية على زمام الأمور والضعف والهوان العربي والإسلامي في المجالات السياسية والاقتصادية حتى في الشأن الداخلي؛ الأمر الذي أجبر التيارات الأصولية على التعاطي مع الأزمات الثقافية والسياسية والروحية أيضاً بشكلٍ حاد: بالتطبيق الحرْفي للنص المقدس، والنتيجة هي الصراع على التطبيق بصورةٍ فعالةٍ ولو احتاج الأمر إلى استخدام قوةٍ سياسية، وينشأ الصراع بسبب استحالة -في نظر كرستيان ترول- التطبيق الحرْفي للنص القرآني في ظل وجود الحداثة.
أما الوجه الثاني للتيارات الإسلامية، فيتشكل في إسلام التأويل الجديد، وهو إسلام يقوم على تفسيرٍ جديدٍ نابع من الإسلام الثقافي أو كردةِ فعلٍ للتجارب القاسية التي نجمت عن الإسلام الأصولي، دون المِساس بالنص القرآني شكلاً أو مضموناً، وفتح بابٍ للاجتهاد (بمعنى: السعي الشخصي لإيجاد أفكار تفسيرية جديدةٍ للنصوص المقدسة)، بعدما أغلِق في القرن العاشر عند محاولات المعتزلة والمرجئة، وما يُميِّز هذا الاتجاه -شكلاً- هو المحاولة الجريئة التي لجأ إليها البعض لإعادة تفسير ما اعتاد عليهِ الناس لأكثر من ألف عام، ومن حيث المضمون، فهو يتميز بطابعٍ حداثي عصري يتناسب ومقتضيات القوانين المدنية وحقوق الإنسان ويواجه بمرونةٍ تحديات الحداثة من خلال فهم روح النص لا الوقوف على شكلهِ ولا بإنكار الأحكام التي توصل إليها السابقون.
كما أنَّ هذا التيار يعول على استخدام المنهج التاريخي النقدي والذي يهدف لتخطي الفترة الزمنية التي تباعد بين القارئ والمستمع الحالي وبين نصٍّ من القرن السابع، أي أنَّ المنهج التاريخي النقدي يحاول وضع النص في سياق تكونه؛ كون القرآن هو جزء من التاريخ؛ فهو كلام الله، ولكنه لا يُناقض التاريخية من خلال أسباب النزول: فتاريخيته مُتجسَّدة في تكوينِ النص (طبيعتهِ وتركيبهِ)، وهو ما أشار إليه ميرتشيا إلياده في كتابهِ "البحث عن التاريخ والمعنى في الدين".
وطبقاً لدعاة التفكير التقدمي، فإنه لا يمكن التصدي لمتطلبات الحداثة والوصول إلى القيم الإنسانية للعقيدة الإسلامية دون تفسير جديد موضوعي ومختلف للنصوص المقدسة، بيد أن الأخيرين يواجهون مشكلات قد تنهي استمراريتهم في الوجودِ الإنساني كوصفِهِم بالمرتدين أو بقتلهم أو نفيهم أو بوصفٍ كلاسيكي أدق "زنادقة"، ولنا في المفكر نصر حامد أبو زيد خير مثالٍ تراجيدي لما آلتْ إليهِ الأمور؛ إذ من الخطأ الجسيم أن يقوم أعداء هذا التيار -أو أي تيار آخر- باتهامهم بأنهم ارتموا في أحضانِ الفكر الغربي وقبلوا القيم الغربية دون نقدٍ أو تمحيصٍ أو على الأقل أمانةٍ أخلاقية.
النصوصُ المقدَّسة هي كما كانت، يقرأها المتدين والعقلاني، الأصولي والمنفتح، الإحيائيون منهم والمستشرقون، والمحصلة تباينٌ في التأويل بين موسعٍ ومضيق، وبين شارحٍ للنص بمعناه الحقيقي أو بمعناه الفلسفي المتواري، والمحصلة: دينٌ لم يعانق التقدم والعصر، ولم يتصالح مع حقوق الإنسان، ولم ترض النصوص أن تجعل من الفردِ محركاً للتنمية والتحرر والإبداع، ولنا في التجربة السلفية خير دليل، ولو قِسنا بذلك المسلم الهندي بتسامحهِ -أو بلا مبالاته على الأحرى- وبين مسلمي باكستان؛ سيتضح جليًّا أنَّ النسخة الأخيرة ما هي إلا نتاج نصوصٍ عقدية جامدة أسَّست بيئة ملائمة لسلفية جهادية كالقاعدة وطالبان، بَيْد أن الأولى تعايشت مع شتى المِلَل والنِّحَل وأنتجت بيئة توافقية تعددية.
وبالأخير.. أود أن أقول: لنا في "القتل" مثالٌ، ولنا في "الطلقاء" آية. والإسلام لم يكن يوماً سبباً في حجم الكسل الحضاري الذي نعيشه، ولا في انحطاطِنا الفكري أو حتى عجزنا السياسي في الداخل والخارج؛ بل في كيفية التعامل مع نصوصه بشتى أنواعها، والتذرُّع بعدم مقدرِة المؤمن على التحليل والتأويل والاستولاد بما تقتضيه تراتيب العصر؛ لهو دعوةٌ إلى إنشاء أنظمة توليتارية وثيوقراطية توزع الحصص بالتساوي بين الحاكم المستبد وشيخ الدين ولإعادة حقنِ الجينات العربية بسرطان الرجعية والانحطاط وجلد الذات. وقد أوْقَف عُمر بن الخطاب حدًّا من حدودِ الله بعد أقل من عشرِ سنواتٍ من وفاةِ النبي، فهل سيضع المسلمون حدًّا للعقل ومقتضيات العصر؟!
