الرؤية التاريخية الإسلامية ومنظومتها القيمية

هنية الصُّبحية

يُؤكِّد الأكاديمي والمفكِّر اللبناني مستشار تحرير مجلة "التسامح" رضوان السيد في مقاله -المنشور بمجلة "التفاهم"- تحت عنوان "منظومة القيم والحياة الأخلاقية في الرؤية الإسلامية"، أنَّ القيم الكبرى في الدستور القرآني هي قيمٌ ورموز ومرجعيات لإعطاء الحياة الإنسانية معناها في نطاق حرية الاختيار الإنساني.. وقد تضمَّنت دراسته أحكامَ القيمة في القرآن، والقيم والتجربة الإسلامية، والمتكلمين والقيمة والعمل، وأخيرا الفقهاء والقيمة بين الدوافع والغايات.

ويعد أحد أهم القيم في الدستور القرآني الوجود الإلهي والوحدانية؛ إذ تتشكل من خمس قيم أساسية؛ تتمثل في وحدة الخلق، والرحمة، والعدل، والخير العام ووقوع الفعل الإنساني بين النية والغاية. فالقيمة الأولى تتمثل في أن وحدة الخلق تنتج من وحدة الخالق، وتندرج تحتها المساواة بين البشر وأمام الرب وفيما بينهم. أما وحدة الخلق، فتتمثل في وحدة البشرية من أجل وحدة العالم الإنساني. والقيمة الثانية تتمثل في الرحمة، ويعد هذا المصطلح رمزا للهبة الإلهية التي تعد قيمة من قيمه الأخلاقية؛ فالعلاقة بين البشر تمثل التساوي في القيمة والحقوق والواجبات، وأن الرحمة هي التي تحكم العلاقات التي تقوم بينهم في الأسر والقبائل والشعوب والأمم.

 

أما القيمة الثلاثة، فتتمثَّل في قيمة العدل التي تحكم علاقة الله تعالى بعباده وعلاقة العباد فيما بينهم، وهي قيمة مستقلة وتمثل أحد خيارات الحرية المنبثقة من المساواة، أي أن الإنسان يملك الحرية في أن يكون رحيما وواجبا عليه أن يكون عادلا؛ لأنَّ العدل المستقل هو قسيم الرحمة وليس بديلا لها. كما يُمثل الخير العام القيمة الرابعة، ويقتضي معناها العميق للنفس البشرية وللفعل الإنساني، ويعد النص القرآني صريحا بأبعاد المعنى وما ينبغي أن يسود بين البشر في مجال معنى الفعل ومقاصده: "فاستبقوا الخيرات". وأخيرا القيمة الخامسة التي تعتبر قيمة معيارية ومقياسية تعني أن فعل الإنسان غاية والحكم عليه من حيث أصله ومقاصده في القيم الأخرى، وقد أوضحت النصوص القرآنية والنبوية أن الحكم على الفعل من جانب الله تعالى يحصل بعلمه بالنية وبما يترتب على الفعل من أمور تتعلق بالقيم الأخرى؛ ولهذا فقد اعتبرت الحكم على الفعل الإنساني قيمة من القيم؛ كونها مقتضى الظاهر في علائق البشر بعضهم ببعض.

 

القيم والتجربة الإسلامية

ويُشير رضوان السيد إلى القيم والتجربة الإسلامية في ذلك، ويدعمها بنموذج الخلق الرفيع لمحمد -صلى الله عليه وسلم- الذي يُمثل الخُلُق القرآني، بمعنى السجايا التي تترتب عليها الأفعال، وتحمل السجايا مضمونين؛ أحدهما يتعلق بالفطرة الإنسانية والقيم التي ذكرت، والآخر متعلق بالمحيط الإنساني الذاتي والعام، وكلاهما يتأثر بالتعلم والتأقلم مع السائد في الأسرة والمحيط القريب والمجتمع. فالرؤية للعالم تملك بُعدين؛ أحدهما يتعلق بالسلوك في المحيط القريب، والآخر يتعلق بالمفاهيم والتصورات الكلية للخير والشر وترتيبات العالم الإنساني، وتتمثل في مجال التأمل والسلوك، وقد عبر عنهما القرآن بالمعروف والمنكر. وهنا يتساءل السيد: هل المعروف والمنكر أمران اجتماعيان يُكتسبان بالتعلم والتلاؤم، أم أن لهما أبعادا فطرية وذهنية ودينية، تستند إلى الإحساس الخُلُقي الذي يتملك الإنسان ويؤثر في تصوراته الكلية ذات الأولويات غير التعليمية، والذي يُمكن أن يطلق عليه العقل البشري الغريزة أو الدافع نحو الشيء حسب رؤية الحارث بن أسد المحاسبي، كما دعا إلى تعميق التواصل بين الإنسان والعالم، وبذلك سيتحقق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذا التواصل الاسترشادي  والاستكشافي في ذاته؟

 

المتكلمون والقيمة والعمل

تعدَّدت السياقات والنقاشات عند المتكلمين والفقهاء؛ إلا أنَّ هنالك أربعَ مسائل يمكن التركيز عليها؛ فالمسألة الأولى متعلقة بالوحدانية والنبوة، وتهتم بتصحيح مفهوم الوحدانية وعلاقة الإنسان بالله، والمسائل الأخرى ارتبطت بالقيم فعلاقة الإيمان بالعمل يعني التلازم الكامل بين الإيمان والعمل الخيَّر، اعتبارا بأن المعصية كالقتل أو إهمال الصلاة خروجا عن الإيمان، ووجهة نظر أخرى ترى أن هنالك انفكاكا بين الأمرين؛ باعتبار أنَّ الإيمان تصديق يتضمن القيم والفضائل الأصلية المستندة إلى التوحيد، وأخرى تعتبر العلاقة بين الإيمان والعمل علاقة توتر دائم؛ حيث لا يوجد أي انتظام كامل بين الإيمان والعمل، ورغم التعقيدات البحثية في هذه النقطة إلا أنه ذو أهمية بالغة؛ إذ يناقش مجالات الوعي الإنساني وتأثيرها في السلوك عن طريق الأشكال المختلفة للوعي؛ فيؤكد السيد أن الله تعالى هو مصدر القيم الكبرى النابعة من الوحدانية والإيمان، وبهذا فإن الحرية اللازمة للفعل الإنساني تصبح ذات فعاليات أخرى لا تتعلق بالإيجاد وإنما تتعلق بالقدرة على التمييز بين الحسن والقبيح.

 

الفقهاء والقيمة بين الدوافع والغايات

كما ناقش السيد المقاربات الفقهية للفقهاء، وأوضح من خلالها أن بعض الفقهاء ينطلقون من النص الديني ويهتمون بتنظيم العلاقات بين البشر، كما أن مباحثهم تتناول أمر التطبيق المباشر للأحكام القرآنية والنبوية في حياة الإنسان، لكي تكون أخلاقية ومنتظمة ومحققة للمصالح، وأمر الغايات العامة للتشريع الإلهي والمقروءة من تلك الأحكام. كما يشير إلى أن الفقهاء في الأمر الأول يحكمون على الأفعال الإنسانية في العبادات والمعاملات من منطلق النص والاجتهاد أثناء التأويل. وفي الجانب الآخر، نجد أنَّ الفقهاء المعنيين بفلسفة التشريع يطلق عليهم علماء أصول الفقه؛ حيث يصلون إلى تحديد أمور وغايات ومصالح أساسية خمس للتشريع الإلهي؛ وهي النفس والعقل والدين والنسل والملك، ويهتم الفقهاء بتقديم الدين في هذه الخماسية التشريعية؛ كونه هو الذي حدد هذه الأولويات من خلال قراءة نصوصه؛ فالدستور القرآني من خلال الشرع الإلهي له أولويات يسعى لتحقيقها من أجل صون الحياة البشرية والتي تتمثل في النفس، أي حفظ الحياة الإنسانية منذ عقد الزواج وحتى الوفاة وما بعدها، كما أن للشرع أحكاما وتوجيهات في كل مرحلة من أجل حفظ الحياة الإنسانية، أما العقل المقصود بوظائفه في حماية الحياة الإنسانية من عدة جوانب، فهو المُكلف ويقوم على فهم الشرع، وهو الذي يدبر حياة الإنسان في الوعي والتصرف.

وأخيرا.. يتساءل السيد عن استقراء الفقهاء إذا كان استقراء تنظيميا أو قيميا، ويوضح أن الاستقراء التنظيمي هو المتعلق بالحكم على الفعل إذا كان حلالا أم حراما؟ أما تحديد الحقوق فيعتبر مسألة قيمية متعلقة بصون الحياة الإنسانية سواء في استخلاف الإنسان وكرامته وعمله وإنسانيته.

أخبار ذات صلة