هل المسيحيَّة في خطر أم أنها الخطر؟

نوف السعيدي

مقال الباحث التونسي عزالدين عناية الذي يحمل عنوان "مسارات تأويل الدين في المسيحية المعاصرة"، يُناقش مستقبل الكنيسة، والتحديات التي تواجه المسيحية.

لقد شهدتْ المسيحية نقاشات جريئة وتغييرات عميقة تصل إلى جوهر الدين؛ فمن تحليل لحم الخنزير، مرورا بالتسامح مع مسألة زواج رجال الدين، وقبول المثلية، وصولا إلى إعادة النظر في معنى "جهنم"، واعتبار الإيمان بها ليس أساسا للمعتقد المسيحي. وبالرغم من هذه الجهود المبذولة في المراجعة وإعادة التأويل، إلا أن التدين في المجتمعات الغربية لا يزال في تراجع.

... إنَّ من الأمور التي تدعو للإحباط أن تقارن بين المرحلة التي وصلت إليها المسيحية عبر جهود اللاهوتيين الجادة، والمرحلة التي لا يزال المفكرون الإسلاميون فيها؛ ففيما يعملون على الوصول بالخطاب الديني إلى درجة تواكب تفكير الإنسان المعاصر، لا يزال الإسلاميون يناقشون جدوى نقد التراث الإسلامي من عدمه. وبغض النظر إن كانت النتيجة مُرضِية أو لا، فإنَّ الاجتهاد بحد ذاته أمر يستحق الاحترام.

وقبل مناقشة التحديات التي تواجه الكنيسة اليوم، دعونا نعرج على الأسباب التي تجعل إنسان القرن العشرين مُتشكِّكا فيه. لنفعل ذلك عبر إدراج الأسباب التي أوردها الفيلسوف وعالم الرياضيات والمنطق برتراند راسل في محاضرته التي ألقاها في العام 1927م، والتي حملت عنوان "لماذا لست مسيحيا؟". فراسل يعتقد بأنه لا توجد أدلة كافية على وجود الله، وأن الدليل المنطقي الأقوى الذي يُستخدم عادة هو أن هناك علة أولى في الوجود هي سبب كل موجود يمكن نقضه عبر التساؤل: ومن خلق المسبب الأول؟ ويقول راسل إنَّ "فكرة وجود بداية لكل شيء سببها فقر مخيلتنا عن هذا العالم". الأمر الآخر الذي يناقشه هو مدى صحة الاعتقاد بوجود قوانين طبيعية ثابتة، ويقول إنَّ ما لدينا حقيقة هو "قوانين الصدفة"؛ إذ إنَّنا عندما نحاول الدخول في العمق لاكتشاف طبيعة الذرات نجدها محكومة بالفرص النظرية، ولا يعود لدينا أي معرفة يقينية وإنما احتمالات إحصائية. وفي الموضوع ذاته، يتحدث عن أن العلم يكشف بأن الكائنات تتكيف مع بيئتها وهذا يتعارض مع فكرة أن الكائنات صممت لتلائم بيئتها، وأن كل شيء مُسخَّر لها. بعدها ينتقل للحديث عن الصراع بين الخير والشر، وهل العدالة موجودة حقا. يمكن اعتبار الشر مهما من حيث هو اختبار للخيرين لكن: هل الخير والشر كلاهما من الله؟ أم أنهما مُستقلان، وإذا افترضنا أن الخير وحده من الله، فما هو أصل الشر وهل وجوده أزلي، فإن قلنا ذلك فلا يعود صحيحا أن الله هو أول موجود، وإن قلنا بعكس ذلك نسبنا الشر إلى الله. لكن راسل يعتقد أن الدافع للإيمان ليس المسائل الفكرية أو الاقتناع المنطقي، بل القيمة العاطفية التي يمنحها الدين. ينتقل راسل بعدها إلى مناقشة شخصية المسيح (كما وردت في الإنجيل) ويكشف عن أحداث ومقولات تتعارض مع حكمته (لمن يؤمنون ببشريته) ومع ألوهيته (لمن يؤمنون بإنه إله). وبالنسبة لراسل، فالمسيحية تحوي مجموعة من التعاليم اللاأخلاقية والهمجية، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك باعتبار "الدين المسيحي الممثل بكنائسه ومؤسساته، هو الخطر الأكبر الممحق بأخلاق الإنسان"، فهو مبني على الخوف والغموض والدعوة إلى الإذعان الأعمى.

لكن برأيي لا يُمكن الاعتماد على آراء راسل؛ لأنه يحاكم الدين من الخارج، أي أنك إذا كنت تنوي نقضه فعليك أن تُسلم بمجموعة أساسية من المسلمات التي تُمثل جوهر الدين، ومن ثم تكشف تناقضه أو ضعفه (إن وجد).

 

تحديات الكنيسة

أظهرتْ المسيحية منذ مطلع القرن العشرين ضعفا في مسايرة حداثة المجتمعات الغربية على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي. فهي تعاني من "عدم قدرتها على طرح خطاب مقنع للناس، وما عادت طرفا في المشهد الثقافي.. فهي متهمة بقدامتها في وعي الجسد، والأخلاق، والعادات، وليس لها الأدوات الثقافية في مستوى الزمن الحالي". أما على الصعيد السياسي، "فالديمقراطية تتحدى الكنيسة؛ لأنها تتأسس على حرية الضمير وعلى مبدأ الأغلبية. والكنيسة من ناحيتها تتحدى الديمقراطية لأنها تتأسس على الحقيقة والعصمة". و"في الوقت الذي تشهد فيه الكنيسة تناقضا مع الواقع العلماني، تُصر على أن تبقى المتنفذ الديني الوحيد في فضاء ديمقراطي، وهو ما يتناقض أساسا مع تحرير السوق الديني". كما أنَّ الأسطورة وبعض الطقوس تتنافى مع العقلانية وتبدو غير مناسبة للطابع اللاديني للمجتمعات الغربية، رغم أن هذه الطقوس "من الأمور التي تسعى الكنيسة لترسيخها، ربما ذلك ما يجذب العامة، لكنه ينفر شرائح واسعة من المثقفين ويبعدهم عن الكنيسة"، يمكن التدليل على ذلك بأن غالبية المتدينين هم من ذوي التعليم المتواضع، والظروف الاقتصادية الصعبة، وهناك كثير من الدراسات التي تربط الأمرين.

العديد من المفكرين "استشعروا مُبكرا انعزال الكنيسة؛ فحاولوا تدارك الخطاب الكنسي للخروج به من عقمه"، بطريقة "تفي لروح النص وتلبي المطلب الاجتماعي"، لكنَّ عملية التأويل تواجه تحديا مهما بسبب محاولة المركز (الذي يمثله مجلس مراقبة العقيدة في روما) التمسك بالمشروعية؛ فنتاج التأويل يبقى بحاجة للاعتراف من قِبل السلطة الدينية، ومن ناحية أخرى فـ"كلما جرى التدقيق في النص تلاشت قداسته". هذا الوعي بالخطر الذي يهدد قداسة النص تسبَّب في العودة للتقليدية ذات الخطاب الأحادي و"التي لا تولي شأنا للتنوع". أو كما يقول المفكر اللاهوتي هانس كونج "المسيحية ينبغي أن تكون أكثر مسيحية".

 

البحث عن حلول

لم يعد أمام الكنسية أي خيار سوى محاولة الانسجام مع القيم العامة، "فهي تساير المجتمعات كرها لا طوعا، حتى لا تلفظها، ولكن في سيرها تبقى مخاطر التنازل عن هويتها حاضرة". كلفت محاولة الانسجام هذه، الكنيسة تبني مقولات تضمن بقاءها، فهي -مثلا- تدلل على اتفاقها مع العلمانية بحجة إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. بل وأظهرت مرونة "سواء بالتخلي عن بعض الشعائر، أو بتجاوز بعض المحرمات، أو حتى إلغاء بعض المعتقدات"، تصل إلى تقبل المثلية أو إلغاء الإيمان بالبرزخ. تبدو الموازنة بين الأمرين صعبة لأنها تحيل الإنسان العادي للتفكير بأن البشر أصبحوا هم المرجع أو لنقل بأن الفهم الكامل للنسخة الصالحة للعصر من الدين تمر عبر المفكرين اللاهوتيين والسلطة الدينية؛ وبالتالي: ما هي القيمة الحقيقية له إن كان بإمكان الإنسان الاعتماد على حسه السليم؟

أخبار ذات صلة