العلوم الإنسانيَّة وفهم تأثير الدين

عبدالله الشحي

يعتبر الدين مكوناً أساسيا لدى العديد من المجتمعات في العالم؛ لذلك تتجلى حاجة مُلحَّة نحو فهم الدين. يقوم الباحث التونسي أبوبكر أحمد باقادر في مقالته "الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والدين" بتوضيح أهمية البحث الاجتماعي والأنثروبولوجي في الدين، ويطرح وجهات نظر بعض الفلاسفة بالإضافة لعرض سريع لبعض أهم النتائج في هذا المجال.

يشتهرُ أوغست كونت برؤيته حول انتقال المجتمعات البشرية من الأسطورة إلى الدين ثم العلم، وفي مرحلة العلم تمَّ إنتاج عدد كبير من العلوم؛ منها: علم الاجتماع أو السوسيولوجيا؛ حيث ظهرت حركات ودراسات سعت نحو فهم الدين كعامل من العوامل المؤثرة في حياة الإنسان، والتي يفترض بها -أي: الدراسات الاجتماعية للدين- أن تكون موضوعية، وأنْ لا تدرس الأديان بغية محاكمة العقائد؛ فصحة العقيدة أو خطؤها لا يعني للباحث شيئا ألبتة، فذلك لا يلغي تأثير العقيدة والدين، والإيمان الديني عندما يؤسس سلوكيات لأتباعه لا يستمد تأثيره من صحة العقيدة، بل من إيمان أتباعه به. وهذه الخاصية تتمتع بها كل الأديان في العالم مما يجعلها مادة خصبة للدراسة والبحث، سواء الأديان القديمة أو الحالية.

بَرَز على الساحة عددٌ من الفلاسفة الذين قدموا أعمالا تتعلق بالبحث في الدين، وعند الحديث عن كارل ماركس، فإن أول ما قد يتبادر إلى الذهن هي مقولته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب"، وهي لا تعني أبدا ما قد يفهم للوهلة الأولى، من أن الدين مخدر للعقول، فهذا اقتتطاع غير محمود للجملة من سياقها وتحريف لمعناها، بل المقصود هو أن الدين عزاء للطبقات الكادحة ومخفف للآلامهم، وفي الوقت نفسه فهو يصرفهم عن المطالبة بحقوقهم وإقناعهم بالاكتفاء بالجزاء الآخروي.

يُوجد لدى كارل ماركس رؤية تقول إن الدين اليهودي يعتبر معوقا لاندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية، وهذا يرجع من وجهة نظري لكون الدين اليهودي نفسه يعزل اليهود عن شعوب العالم باعتبارهم الشعب المختار، إضافة إلى أن المسيحيين يرون اليهود على أنهم أعداء المسيح والشياطين في هذا العالم.

إضافة إلى ماركس، فإنَّ ماكس فايبر من أشهر الفلاسفة الذين قاموا بدراسة ظاهرة الدين. ناقش فايبر السبب في نشوء فكرة الرأسمالية عند جماعة (الكالفانيين) الدينية دون غيرهم؛ حيث يرى فيبر وجود خصائص مميزة لدى الكالفانيين مكنتهم من تطوير النظام الرأسمالي. تبرز هنا ملاحظة مهمة هي أنه من الصعب جعل دين معين نموذجا لباقي الأديان ولا حتى جعل طائفة نموذجا للطوائف داخل الدين الواحد، بمعنى أن دراسة حالة دينية معينة وإطلاق التعميمات منها لباقي الحالات لا تعطي نتائجا سليمة، وهذا شيء مؤكد وواضح في أعمال فيبر وغيره من الفلاسفة.

ساعدتْ أعمال فيبر على بلورة أفكار ونظريات عديدة؛ فقد اقترح مفهوم "الأخلاق البروتستانتية"؛ بوصفها مجموعة من الأخلاق التي يتمتع بها الكالفانيون وقادتهم لخلق الرأسمالية الحديثة؛ الأمر الذي دفع عددا من الرواد للقول بأن المجتمعات النامية تمتلك منظومة دينية خالية من هذه الأخلاق، وهذا سبب تخلفها. لكنه من غير المرجح عندي الوقوف عند هذا العامل فقط، فالدول النامية قد تكون -إضافة لذلك- قليلة الموارد، وتحت وطأة الحرب والاستبداد، وكل هذه عوامل تفاقم المشاكل وتمنع عجلة التنمية والتطور.

بَيْد أنه من غير الممكن على أية حال تجاوز أثر العامل الديني على سلوك الأفراد داخل المجتمع؛ فالمجتمع الذي تسود فيه أفكار دينية لا تقدس العمل ولا تعلو من قيمته أو تدفع نحو تحسين الوضع المعيشي، علاوة على الدعوة لنبذ الارتباط بهذا العالم وتسفيه الجهد المبذول للبناء، كل ذلك لن يؤدي سوى لتردي الأوضاع. يتضح من ذلك جليًّا أن العامل الديني عامل مهم في التأثير على الاقتصاد، وله نفس مقدار التأثير على الوضع السياسي والاجتماعي، وكل ذلك يعتبر تأكيدا على نتائج الدارسين في هذا المجال.

لم يتوقف الاهتمام بالدين عند فلاسفة وعلماء الاجتماع فقط، بل إنَّ علم الأنثروبولوجيا؛ وقد عرفه معجم المعاني الجامع بأنه العلم الذي يدرس الإنسان وأصله وتطوره وتطور عاداته ومعتقداته. فقد بذل علماء الأنثروبولوجيا -المتخصصون في الجانب الثقافي والحضاري خصوصا- جهودا كبيرة تركزت في بدايتها على المعتقدات البدائية والأساطير، إضافة لدراسة الخرافات والسحر أيضا، والذي ركز بعض الباحثين على ضرورة التفريق بينه وبين الدين، أي عدم الخلط بين الممارسات الدينية والسحرية، كون كل منهما يلعب دوره الخاص.

ويعتمد الأنثروبولوجيون على مسلمات وأدوات معرفية معينة، تنطلق من نظرة تم اعتبارها نظرة دونية للشعوب الأخرى؛ بحيث يكون المجتمع الأوروبي هو النموذج، وكل ما دونه هو تخلف، على أنه يمكن على أية حال الإفادة من نتائج هذا العلم. فقد قام ديمزديه بدراسة النصوص الهندية مثلا؛ مما ساعد في توسيع الفهم بشأن تصورات أتباع تلك الديانات للحياة والكون.

لم يتوقف الأنثروبولوجيون عند المعتقدات القديمة فقط، بل قاموا بدراسة الحديث منها أيضا، مثل كليفرد جيرتس الذي درس مفهوم الإسلام بين المغرب وإندونيسيا، ووجد أن الرموز والشخصيات تستطيع عمل إعادة تفسير للنصوص الدينية وتقدم معاني جديدة للتسامح والتجديد الديني. وأتصور أنه من الممكن اتباع نفس الآليات لتحليل معاني الرموز مع الجماعات المتطرفة؛ مما سيساعد في تقديم فهم أعمق تجاه تلك الجماعات وربما المساعدة في مقاومتها، وقد يدفع ذلك نحو استمرار الدراسات الأنثروبولوجية لا من ناحية معرفية فقط، بل من ناحية سياسية أمنية أيضا.

هكذا.. فإنَّ العلوم الإنسانية عموما وعلمي الاجتماع والأنثروبولوجيا خصوصا عندما تتناول الدين، فإنها توفر عددا كبيرا من المعطيات التي يمكن أن تسهم في فهم آلية تأثير الدين في العوامل المختلفة، ولا يزال الباحثون يضيفون مزيدا من الأبحاث للأبحاث الموجودة، في سبيل زيادة حجم المعلومات حول ظاهرة الدين ودقتها.

أخبار ذات صلة