بسام الكلباني
قد لا يتسع الوقت إطلاقاً لنتحدث عن انعكاسات المدرسة الرشديّة وتأثيرها على التأويل القرآني، وعلى مسائل الفقه والدين، ومدى تأثر الأوروبيين بالرشديّة اللاتينيّة بشكل واضح جداً من خلال هجوم الكنيسة بقيادة توما الأكويني على مؤلفات ابن رشد، وعلى المقولات التي خلّدت إبّان إعدام العالم جاليليو واستخدام مصطلحات وجمل رشديّة بحتة، فمن يُنكر أن المدرسة الرشديّة هي الجذور الأولى للتنوير الأوروبي، بيدَ أن للجانب الديني محظورات وضرورات وشروطا لا يمكن الانطلاق بها من جانب متسرع جداً، لذا وجب التعريف أولا وقبل الخوض في الموضوع بآليّات التأويل عند الفلاسفة والمتكلمين.
يذكر الكاتب عبد الجليل سالم في مقالتهِ المعنوَنة "العقل والدين عند ابن رشد" أسباب خلق قانون يحدُّ وينظمُ العملية التأويلية وهو تجنيب المسلمين الوقوع في الزلل، وشيوعِ الفوضى في التأويل وإشكالياتها على العقيدة، فأولُ المحاولات الجادة في التأويل كانت عند علماء الكلام على يد إمام الحرمين الجويني في إرشاده، عندما خصّص بابا أسماه (باب القول في السمعيات) ثم لحقهُ على أثره تلميذه الكبير حجة الإسلام الإمام الغزالي الذي وضع رسالة بعنوان قانون التأويل التي تعد من أولى الرسائل الكلامية المنهجية التي كتبت حول هذا الموضوع.
تناول كل من ابن رشد والغزالي مشكلات التأويل والفلسفة والفقه في حرب تراشقيّة منهجيّة، فقد اكتفى علماء المسلمين من القول في الفلاسفة العرب المتأثرين بالمدرسة اليونانيّة حينما آل بهم الأمر في أولى صفحات مؤلف الغزالي بأن أطلق لهم حكماً انتهائيا بالكفر والزندقة، ثم حاولَ ابن رشد بعد أعوام بأن يستعيد مجد الفلاسفة، والنهوض بأعبائها المتشكلة بشكل خاص بين العقل والنقل، فخصّص كتابه "فصل المقال" لهذه القضية، وهو بذلك يعدُ أول فيلسوف مسلم يفرد لهذه الإشكاليّة كتاباً مستقلاً، ثم أكمل ابن رشد مسيرته بأن ألّف كتابين آخرين تكملة للكتاب السابق الذي يناقشُ الإشكالية من منظور نظري ردّاً على الغزالي، فكتبَ "الكشف عن مناهج الأدلة ثم "تهافت التهافت" اللذين يعدّان أولى المناوشات الفكرية التي تحدثُ بين عالمين مسلمين يفصل الأول عن الآخر سبعون عاما.
في فصلِ المقال، طرحَ ابن رشد عدة مبادئ لإيضاح العلاقة والحاجة إلى التأويل:
- الشريعة توجب الفلسفة.
- الشريعة لها معانٍ ظاهرة للعامة، وأخرى باطنة للخاصة، ومعنى هذا وذاك وجوب التأويل أحياناً، ولبعض الطبقات من الناس.
- وضع قواعد خاصة بتأويل النصوص.
- تحديد مدى وقدرة العقل والصلة بينه وبين الوحي.
وقد انتهى ابن رشد من هذا كله إلى أن الحكمة والشريعة أو الدين والفلسفة أختانِ رُضعتا من لبان واحد.
أمّا الفلسفة الرشديّة فهي ليست أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وأمّا الموجودات فإنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وأنّهُ كلّما كانت هُناك المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم. وربما من الجانب هذا اتجهَ بعض المفكرين العرب إلى الجزم بأن الفكر الرشدي ما هو إلّا محاكاة للمدرسة الأرسطويّة، ففي سياق النص الأرسطوي "علم الموجود بما هو موجود " هو النص الذي اعتمد عليه ابن رشد في بناء قاعدتهِ التعريفية للفلسفة، بينما يُمكن الالتفات إلى جانب آخر للتعريفات الرشديّة للفلسفة التي نقتبسها من كتابه " الفصل " : إن هذه الصناعة – الفلسفة – لمّا كانت ناظرة في الموجود بما هو موجود، وذلك يقتضي النظر في مبادئ الموجود بما هو موجود وفي الأمور اللاحقة إذ كانت كل صناعة نظريّة إنّما تحتوي على هذين الجنسين من المعرفة" . جليّ جداً الفرق بين التعريفين السابقين لابن رشد، وهو لا يعزى إلى تناقض في الفكر الرشدي، وإنّما إلى اختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى الفلسفة، فالمنظور الأول ينظر من جانب أرسطوي بحت، والآخر من زاوية المتكلمين.
وأمّا العلم، فهو معرفة الأشياء بأسبابها كما جاء في كتابه "الكشف " وقد حصره تحت مسمى "العلم الحق" الذي هو معرفة الله تعالى وسائر موجوداته على ما هي عليه وبخاصة الشريعة منها، بيد أنّ ابن رشد الذي عرّف الفلسفة من زاوية كلاميّة لا يريدُ أن تبقى معزولة خصوصا أنّه اعتبر أن الفلسفة من المعارف التي أكد عليها الشرع بل ربما أهمها، لذلك فهو يرى أن الفلسفة تفحّصٌ عن كل ما جاء بهِ الشرع، إذ يذكر في تهافته "والفلسفة تفحّص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوى الإدراك وكل ذلك أتم في المعرفة" وقد انتهى بقوله القاطع "وإن لم تدرك؛ اعلم بقصورِ العقل الإنساني عنه، وأن يدركه الشرع فقط" وقد تبنّى الفلاسفة اليهود هذا الأمر بتعريف مشابه جداً، فقد تحدّثَ ابن ميمون على أن العقل له حدٌ يقفُ عنده في قدرتهِ على المعرفة، وحينئذ يجبُ اللجوء فيما لا يمكن أن يصل إليه العقل، إلى الوحي.
ولعلَّ أبرز الأمور التي شغلت فلاسفة القرن السادس والسابع والثامن والتاسع عشر في أوروبا، هي تلك الأمور التي تحدّث عنها ابن رشد في محدوديّة العقل البشري وهي "معرفة الله" و"السعادة" و"الشقاء الإنساني"، ابتداءً من ديكارت وباسكال مروراً بسبينوزا ولوك وهوبز ثم كانت وهيجل وكيركجارد شوبنهاور وانتهاءاً بنيشته وفرويد وهايدجر وسارتر، إذ توقّف الأمر عند كثيرٍ من الفلاسفة في الإتيان بنتيجة حتميّة حولَ الأمر، فوصل الأمر إلى إنشاءِ توليفة بين الفلسفة والكنيسة كتلك التي أتى بها الفيلسوف الوجودي المسيحي سورين كيركجارد، وما يؤكدُ على تلك الفرضيّة هو نقيضها الذي أتى بها فريدريك نيتشه عندما هاجَم أبرز خصائص اللاهوت المسيحي حينما تحدث عن "الشفقة" و"النعمة" و"الرحمة"، وجليّ أنّها مرادفة لتلك التي تحدث عنها ابن رشد قبل ثمانية قرون وانتهى بهِ الأمر – ابن رشد – إلى الاعتراف بمحدوديّة العقل البشري وفاعليّة الوحي والشريعة.
يطرح الكاتب عبد الجليل سالم واحداً من أهمّ الأسئلة على الإطلاق – في الجانب التأويلي – وهوَ "كيفية حل مشكلة عدم مخالفة الفلسفة للشرع الجامع إلى جانب البرهان والطرق الظنيّة من خطابة وجدل؟" ولحل تلك الإشكاليّة والتساؤل، لجأ ابن رشد إلى تحليل الخطاب الإلهي وإظهار ما فيهِ من تفاوتٍ حسب مستوى مخاطبيه فيقول : والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلافُ فطرِ الناس وتباين قرائحهم في التصديق"، ولهذا السبب حرّم ابن رشد التصريح بالتأويل اليقيني لأهل الجدلِ فضلاً عن الجمهور، فغاية ابن رشد من التأويل القرآني هو البحث في المعنى الفلسفي للنص على غرار غريمه الغزالي الذي كانَ يبحثُ عن المعنى الحقيقي للنص، وهنا يكمن الخلاف الأساسي بينهما، وخلاصة الأمر إذا كان التأويل هو الفلسفة والحكمة ؛ فأعلمهم به هم الفلاسفة، فهم الذين سماهم الله في محكم كتابه " والرّاسِخونِ في العِلمِ" فالبرهانيون هم أهل العلم والأحق بالتأويل. فإخراج دلالة اللفظ من الدلالة المجازية إلى الدلالة الحقيقية هو أمر وجب الوقوف عليه تماشياً مع مقتضيات الشرع والعصر.
