عبدالله الشحي
يناقش الباحث السوري معتز الخطيب في مقالته (في نقد القول بالوسطية والاعتدال) ضبابية مصطلح الوسطية في الفكر الإسلامي بالرغم من أهميته، وانعكاس ذلك على النشاط السياسي لاسيما جماعات الإسلام السياسي التي تنادي بالوسطية، إضافة إلى تأثيره معرفياً من حيث مشكلة تعريف الوسطية من جهة وتوظيفها من جهة أخرى.
يكتنف الفكر الإسلامي عددٌ من المصطلحات مبهمة المعنى، إنما تستخدم غالباً لغرض الترويج والدعاية للأفكار. يذكر الكاتب على سبيل مصطلحات مثل:الجهاد المدني، النسوية الإسلامية، الشمولية والدولة الإسلامية، وهي مصطلحات تسبب تشويها وسوء فهم عوضًا عن التفاهم والتوضيح، فمفهوم الدولة الإسلامية مثلاً هو تعطيل لمفهوم الدولة الحديثة في محاولة لإحلال مفهوم القرون الوسطى وحل مشاكل اليوم بحلول واقتراحات الماضي.
مصطلح الوسطية أو الاعتدال-وسوف نفترض أنهما يحملان نفس المعنى لبقية المقال-يحتل مكانة غاية في الأهمية داخل الفكر الإسلامي، وليس أدل على ذلك من اعتبار الوسطية خاصية من خصائص الإسلام، بل هي شرط لقبول التوجهات عند الكثير من المفكرين الإسلاميين. هناك مجموعة من التعاريف يمكن أن توضع للاعتدال حسب الكاتب، فهناك التعريف الذي يستند إلى تعريف أرسطو للفضيلة، حيث يقول بأنّ الفضيلة هي وسط بين رذيلتين، وهذا واضح في الفكر الإسلامي، فالوسطي من يعيش بلا إفراط ولا تفريط، أي في المنتصف. لدى انطوني جيدنز تعريف آخر " للوسطية أو الطريق الثالث بوصفها إعلان البراءة من التطرف أو للتعبير عن يأس من المواقف الحادة والقاطعة توخيًا للاعتدال".
تتبلور إحدى المشكلات الرئيسية في التعاريف السابقة في عدم وجود نموذج يُحدد الأفعال الوسطية من اللاوسطية، مما يسهل تحول الأمر إلى تراشق بين الجماعات الإسلامية بالألقاب مثل التطرف والإرهاب. هذه المشكلة جعلت فهم آلية التعامل مع الجماعات الإسلامية من قبل الغرب أمرًا أكثر صعوبة، فكل جماعة تنسب الاعتدال لنفسها وترمي الآخر بالتطرف مما جعل الولايات الأمريكية تبدو وكأنها في وضع متأزم بشأن آلية التعامل معهم، بيد أنني أرى حقيقة أن المعيار السياسي لا يهتم أساسا بهكذا مصلطحات، إنما تحكمه المصالح والتوازنات العسكرية والاقتصادية.
على الرغم من ذلك، فإنّ عددا من الباحثين الغربيين في الشؤون الإسلامية وربما بعض صناع القرار في الغرب يرون أن ضبابية مفهوم الاعتدال ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار وأنه من الأحوط وضع الجماعات الإسلامية جميعها في كفة الإرهاب. على أنه يحتمل أن وسطية جماعة الإخوان مثلا قد تؤدي تحت عامل التعددية السياسية إلى إضعاف الجماعة التي كانت الحامل الوحيد لحمل تطبيق الشريعة، من حيث إنّ هناك عددا من البدائل الجديدة التي بإمكان الناس تجربتها على حد قول الكاتب. كما أنه عندما يتعلق الأمر بجماعات الإسلام السياسي عمومًا، فإن تلك الجماعات تعمل على تقديم نموذج شمولي للدولة، هذا النموذج يوصف غالبا بالوسطية والاعتدال، في حين أنه يحتوي على تفاصيل تخالف المواثيق العالمية لحقوق الإنسان. وعلى هذا فإنّ فجوة في التعامل العربي الغربي حتماً ستحصل، فإن كانت هذه هي الوسطية، فكيف سيكون التطرف؟!!
يناقش الكاتب بعدًا أعمق في جانب إساءة استخدام مفهوم الوسطية والاعتدال، بحيث يمكن أن يُجعل في خدمة توجهات أيديولوجية معينة، ويتم إلباسها ثوب الوسطية على حساب إلغاء توجهات أخرى، وهذا كما أرى يزيد الطين بلة، فصفة الوسطية ليست بالأساس مسوغا لصحة الفكرة، إذا لا يشترط لقبول فكرة أن تكون وسطية، بل يكفي أن تكون خالية من الدعوة لإقصاء الآخر كما يشترط الكاتب.
هناك أيضا قضية المبالغة في وصف الوسطية بالحل لمشكلة الثنائيات -كالعقل والنقل، الأصالة والمعاصرة-، وهذه العادة السيئة في التعالي على الواقع ونبذ التجربة وطرح الحلول المثالية والنهائية لمشكلات البشر لدى بعض المفكرين الإسلامين تحجب عنهم النظرة الموضوعية للأمور، وهذا في رأيي إضاعة للوقت والجهد، فلا يمكن فرض الحلول والنظريات التي أثبتت فشلها وإلقاء اللوم على التطبيق. يدعو الكاتب إلى ضرورة خلق مساحة للاجتهادات البشرية في الفكر الإسلامي، وهو على الأرجح محق، حيث الاجتهادات البشرية تمتلك مرونة تجعلها صالحة للنقد والتعديل، غير منغلقة أو معطلة عن التطور الذي هو سمة من سمات المجتمعات البشرية.
يوجد جملة من المسائل والمواقف الأخلاقية لا تحتمل حالة من الوسط، فلا يوجد مساحة وسطى بين الصدق والكذب مثلاً، وعليه فإنّ الوسطية ليست بالحل المثالي، وقس على ذلك مسائل الحلال والحرام، التي يفترض أنها بينة وواضحة، كل ذلك يفرغ الوسطية من معناها، فلا معنى للتوسط حينما يكون هناك موقف متحيز يجب اتخاذه.
ناقش الكاتب فكرة سام هاريس بشأن النفاق الذي يمارسه المعتدلون من حيث قبولهم للمعتقدات الأخرى مع اعتقادهم ببطلانها، وأتصور عدم وجود مشكلة في التلازم بين اتباع معتقد ورفض المعتقدات الأخرى في جو من التفاهم والحرية، بل ذلك فعل بشري طبيعي تماماً.
يقترح الكاتب إعادة النظر في المحاولات المختلفة لفهم الوسطية، فهناك مفهوم مختلف عن ما طرحناه سابقا، ففي قوله تعالى:" وكذلك جعلناكم أمة وسطًا " يقول الطبري إنّ الوسطية هي الخيرية، أي أنّها خيار عدول، وهي أمة على الحق والصراط المستقيم. إنّ هذا بالتأكيد يغير من هيكلة المسألة، فلا وجود لأطراف ووسط داخل هذا التعريف، ويترتب على ذلك من وجهة نظري إلغاء الاعتزاز الفئوي والإقصائي للاعتدال، فالأمة كلها وسطية، ولا حق لجماعة أو طائفة بالاستئثار بهذه الصفة دون الغير.
تتجاوز المشكلات المتعلقة بضبابية مصطلح الوسطية تلك المطروحة في المقال، فهو من المصطلحات التي لا تحمل معنى موضوعيًا متفقًا عليه؛ حيث يمكن لأيّ شخص توجيه بوصلته لخدمة مصالح جماعته الدينية وحزبه السياسي، مع كونه يحتل مكانة بارزة في الفكر الإسلامي، فلابد من إعادة النظر فيه.
