محمد الشحي
تضج قاعات أقسام علم الاجتماع في الجامعات العربية بمقولات المؤرخ والفقيه ابن خلدون، الشهير بمقدمته التي شغلت المهتمين بتأريخ العلوم، والسياسة، والفكر، والفلسفة في العالم الإسلامي قاطبة. إنّ هذه العجاجة، والشبق بصنع الرموز ليست حالة خاصة بالعرب، إذ هي حاجة من حاجات النفس البشرية في طبعها، وإلا فما تفسير انتشار الظاهرة ذاتها عند مختلف الشعوب في مختلف الأزمنة. إنّ الذي يصنع الرمز هو أمر خارج عن الذات الواعية المُدرِكة للوجود الخارجي بحقيقته، إنّها ذات باحثة عن تحقيقٍ لها في الوسط الذي تعيشه، باختلاف مستوياته: المحليّة، الإقليمية، العالمية، والكونية.
تبدأ الذات هذه بالتحرر من سطوة الرمز عند وعيها، استفاقتها من سباتها الفكري، واعترافها بوضعها كما هو كائن فعلا، لا كما ينبغي له أن يكون. إنّ هذا الانقلاب من النظرة المعيارية إلى النظرة الوضعية رهينُ الوعي بالآخر، والاعتراف بوجوده، من ثم تتجه بوصلة البحث ناحية التقصي الصادق، والالتماس الموضوعي -قدر الإمكان- للوقائع كما هي؛ بهدف الشروع في نقد الذات، والعمل على تطويرها تقدمًا، لتتقدم عجلة الزمن بحركتها اللولبية، لا أن ندور حول أنفسنا في دوائر مفرغة من المعنى في حقبة من التاريخ لا تسمح لأحد بالتخلف عن الركب دون أن تُدفِعها ثمن ذلك عبودية من أشكال أخرى.
إنّ الرمزية التي اكتست ابن خلدون كونه مؤسسا لعلم الاجتماع، تكاد تكون حقيقة علميّة في أذهان كثير المشتغلين بهذا العلم، والمهتمين به: قراء، ومطلعين، وباحثين، بل ومفكرين كبارًا كذلك. ومن أجل مساءلة هذه المعرفة (كونه مؤسسا لهذا العلم)، يتساءل الباحث المصري محمد عبدالوهاب جلال، في مقاله المعنون بالسؤال العريض "هل أسس ابن خلدون علم الاجتماع؟"، يتساءل حول صدقية هذه الدعوى (أسميها دعوى لأنّها في موضع محاكمة الآن). لتتعرض الذات العارفة لاستفزاز السؤال الذي يفكك هذا الرمز ويجعله عرضة للتقويض؛ من أجل بناء معرفة أمتن بناء، وأكثر مقبولية في الراهن العلمي. يقرر جلال الدخول على القارئ من حيث يتوقع الخروج؛ إذ يجيب، بكل شجاعة، بـ"إن الإجابة عندي هي: لا، فهو لم يؤسس علم الاجتماع، وما كان ينبغي له". ليتمكن من جذب انتباه قارئه حتى نهاية المقال.
ثم يشرع الباحث في توصيف أبرز المشكلات التي يعاني منها تاريخ العلوم العربية في مصر وغيرها. ويقرر أنها: هاجس السبق، الأَمْثَلة، واعتبار علوم السلف تراثا. ويعني بالأولى طغيان الهاجس بالسعي إلى العثور على ما يفيد بأن عالما من علماء المسلمين قد سبق عالما أوروبيا في الكشف عن حقيقة علمية، مما يؤدي إلى التعسف في قراءة الآثار، وتحمليها ما لا تحتمل من دلالات وإشارات لم تُبن على السؤال نفسه المطروح الآن، مما يستتبع حدوث المفارقة التاريخية.
إن هذه المفارقة تفترض اختراق تلك الآثار للزمن، وصلاحها لكل زمان ومكان. ولعل هذه الفكرة امتداد لفكرة صلاحية القرآن لكل زمان ومكان؛ فلطالما كان العالم مسلما، مستدلا بالآيات القرآنية، ومهتديا بها – فإنه يرى بنور الله الذي لا يخضع للزمكان الأرضي. كما أن لهذه المفارقة كذلك أثرين: معرفيّ، ونفسي. فأما الأول فمتمثل في خلط المفاهيم الحديثة بالقديمة، وإغفال تطور العلم والسياقات الإبستمولوجية والخلفيات الفلسفية التي أنتجته. وأما الآخر فمتمثل في الاعتراف الضمني بالتقدم الغربي/الأوروبي على الشرقي/العربي، جاعلا الغربي مقياسا ومرجعية، وإن بدا الأمر على خلاف ذلك.
وأما المشكلة الثانية، الأَمْثَلَة، فتعني إضفاء طابع المثالية على إنتاج رموز ذلك التاريخ. ليصبح المساس بإنتاجه مساسا بذاته، وتعريضا للرمز لخطر الزوال. وكأن المعرفة التي أنتجها هذا الرمز جاءته وحيًا سماويا كاملا، نافية عنه صفة التاريخية التي تصف أي إنتاج آخر، فيغيب النقد التاريخي للعلوم. وما هذه الأمثلة سوى محاولة صنفرة للذات المقتاة على ثمار الرمز الذي تعتمد عليه في مشيها في هذا الوجود.
وأمّا المشكلة الأخيرة، اعتبار علوم السلف تراثا، فقد أوضح الباحث أنّه يعني تلك المفارقة بين "العلم" و"التراث"، وأنهما مقولتان لا تلتقيان؛ بدعوى أن العلوم خاضعة للنقد والدراسة والإخفاق، بينما التراث هو مدعاة التبجيل والاحترام والمحافظة. وهذا الأمر متسق فقط مع أولئك الذين ينظرون إلى التراث نظرة غير تاريخية، وإني أخشى أن الباحث وقع فيما يدعو لخلافه هنا. إذ طالما اعترفنا ببشرية التراث، وبشرية مُنتجيه، فإنه نصمه بالنقص بالضرورة (في مقابل تمامية النصوص الإلهية). وبالتالي، قابلتيه للأخذ والرد، ومدافعته في ميدان النقد. وعليه، فإن هذه ليست مشكلة حقيقية في ذاتها، إنما المشكلة في الذات المُؤلّهة للرموز والأيقونات.
يتطرّق الباحث، من ثمة، إلى مراحل إعادة اكتشاف ابن خلدون على يد المستشرقين الأوروبيين، وشيئا فشيئا حتى أعاده إلى العرب كل من رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده وطه حسين. وقد مر ابن خلدون في أيدي الإمبرياليين الفرنسيين، والمتنورين المسلمين، حتى تم الالتفات إليه من جديد بعد عصور الانحطاط العربية. ومنذ تلك اللحظة التنويرية تردد اسم ابن خلدون مؤسسا لعلم الاجتماع. لكن أي علم اجتماع هو؟ وهل هذا الحكم سائغ؟ أسئلة ينبغي الوقوف الظروف التي أنتجت علم الاجتماع، وحقيقة ما تحويه "المقدمة" من مادة اجتماعية.
ففي قراءته لظهور علم الاجتماع، يرى الباحث أنه نشأ مع أوجست كانت، وتشكل في بوتقة فكر الحداثة مع فيكو، ومنتسكيو، وروسو، وجون لوك، وآخرين. وفكر الحداثة هذا يعطّل القوى الفوقانية في تفسير الظواهر، وينظر فيها كما هي في الواقع. فاستُبعد الدين من الفكر الجمعي (على مستوى التنظير)، وظهرت النزعة الفردانية في الرؤية إلى الكون، والذات، وتفرّدها. وعليه، تم بناء علم الاجتماع، بعد انفصاله عن الفلسفة، على أساس من إصلاح الفرد، بما هو وحدة بناء الجماعة. إذًا، نستطيع القول إن السؤال الذي انبنى عليه علم الاجتماع هو: ما الدلائل الرقمية للظواهر الاجتماعية وكيف نطورها ليتطور الفرد؟ فهل كان ابن خلدون يسأل السؤال ذاته؟
يرى الباحث أن شغل ابن خلدون كان منصبا على تأريخ الحالة الفكرية والثقافية والعلمية، ومآلات الأوضاع الإسلامية السياسية، بعد اجتياح التتار لبغداد عام 656 للهجرة. مدللا على ذلك بعدد غير قليل من الوقائع التي وثّقها ابن خلدون. محللا الرؤى التي اتُّخذت قضية كبرى في تأسيس ابن خلدون للسياسة، دورة الحضارات، بأنها ليست سوى نظرته لبغداد العلم والثقافة التي سقطت في أيدي التتار، أولئك القوم الذين حاربوا العلم والثقافة (أو هكذا وُصِفوا). ليخرج بنتيجةٍ مفادها: ابن خلدون لم يؤسس علم الاجتماع، ولم يكن ينبغي له ذلك، ببساطة لأن سؤاله كان مختلفا عن سؤال علم الاجتماع الذي أسس له كانت والآخرون.
