أزمة تعدديَّة: ثقافيَّة أم سياسيَّة؟

بسَّام الكلباني

مُنذ أنْ انهارتْ الإمبراطورية العثمانية، وتلاها انهيار النظام المملوكي في مصر العربية؛ ظهرتْ شعارات وهتافات متباينة، استندت إليها سائر الأطراف والأحزاب في الوطن العربي (الإسلامية-المسيحية) كأدوات رئيسية في إنجاح عمليات التحشيد والتحزب والانضمام. وكان أشهر تلك الشعارات التوحيدية: العيش المشترك؛ فبعد الانهيار المُدمي للدولة الإسلامية مُتشكَّلة في الخلافة العُثمانية عام 1924م، والانقسامات التي حدثت جراء انهزام الكيان العثماني، أصبح الشرق الأوسط يعيش في توجُّس مستمر من النوايا الداخلية والخارجية التي تنبأت بها النخب السياسية والدينية والثقافية بأنها قد تعصفُ بالنسيج العربي المتماسك إلى حدٍّ ما. ولعلَّ مقولة أنطوان سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي: "إنَّ مصيبتنا بيهودنا الداخليين أعظم من بلائنا باليهود الأجانب"، لخير دليل على حجم الشتات العربي آنذاك.. وما زال.

يَطْرَح رضوان السيد في دراسته المعنونة "المواطنة والقومية والتعددية الثقافية" عدَّة أسئلة جوهرية: هل أسهمت اندماجية الفكر القومي القاسية في بعث انقسامات طائفية وإثنية كالتي نشهدها اليوم في العراق وسوريا ولبنان وبلدان عربية أخرى؟ وما دور الأيديولوجيا الاندماجية هذه في قيام الأنظمة التوتاليتارية في البلدان العربية؟ بَيْد أن الإجابة عن هكذا أسئلة تتطلب منظِّرين كباراً للفكر الذي ساد المجتمعات العربية ومفهوم "الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة".

 

فالقومية العربية لم تعرف يوماً مُنظِّرين كبارا بالمستوى الذي عرفناه لدى الجماعات والأحزاب الأخرى في الأوطان العربية كالإخوان المسلمين، فما من مفاهيم مدروسة ولا وحدة واضحة الخطى والمعايير رغم الاشتراك في الهدف الواحد "أمة واحدة". فقد اجتمع تحت هذا المفهوم عدد شمل كل النخب السياسية حينها بين الناصريين والبعثيين، إلا أن المشكلة كانت كيفية استدراك الجمهور لحمل هموم الأمة؛ فلطالما اهتمَّ الجمهور العربي بالوحدة، بَيْد أنَّ القوميين أصروا على أنَّ "الوعي القومي" هو الشرط الأساسي للنهوض العام، في حين ركز الناصريون على إيمان الجمهور العربي بالوحدة فقط، ولعلَّ ذلك جليٌّ في خطابات عبدالناصر، وافتقار وحدة مدروسة كانت نتيجة لتفكك الجمهورية العربية المتحدة في العام 1961م وهي في أول قيامها، ولا يمكن الإغفال أيضاً عن ذكر الاتجاه الشديد والمتذبذب في أفكار القادة القوميين كميشال عفلق وزكي الأرسوزي وساطع الحصري، الذين انحصرت مفاهيمهم في بؤرة "نظرية قومية" ونظام شمولي ذي الحزب القائد الممثل للجميع وحسب، دون الالتفات إلى الجوانب الأخرى الاجتماعية والاقتصادية.

ظلَّتْ المجتمعات الإسلامية مُتردِّدة في مسائل جوهرية عصفت بزمام المشهد العربي في منتصف القرن الماضي ما بين مؤيد ورافض؛ فمسائل العيش الوطني والوحدة الوطنية والتعددية -بشكليها الثقافي والسياسي- مسائل ومفاهيم لم تطرح يوماً في الإسلام الكلاسيكي كما يحدث اليوم، حتى خرجت جماعات إسلامية ندَّدت بالاختلاف وجماعات أخرى متطرفة حرمت الاختلاف؛ استناداً لبعض النصوص القرآنية؛ الأمر الذي جعل من الأحزاب الإسلامية الخوض في معتركٍ سياسي من أجل السلطة، وقد حدث ذلك ونالت من قلوب الشعب العربي الطامح للوحدة أو لنظام الحاكمية. وبهذا، تأسَّست مرحلة جديدة من مراحل جماعات الإحياء التي ترى وجوب شمولية الأمة تحت سقف الإسلام والتكفير بالمجتمع والدولة، وأن التعددية السياسية والثقافية خطر محدق على المجتمعات العربية والإسلامية، بيد أن تلك القوى والأحزاب لم تلتفت يوماً إلى حقيقة وجود تعددية دينية منذ باكورة الإسلام؛ فقد استندوا في تحريم التعددية الدينية والإسلامية إلى وقائع سلبية حدثت في الإسلام الخلافي.

وفي التجربة المصرية السياسية نموذج مغاير لما حَدَث في سائر البلدان العربية كسوريا والأردن والمغرب والسودان؛ فالإخوان المسلمون رغم تجربتهم السلبية في العهدين الملكي والجمهوري ظلوا متمسكين بموقفهم الرافض لفكرة التعددية الثقافية والسياسية، ويظهر ذلك جليًّا في الكتابات السياسية لأبرز قاداتهم كحسن البنا وسيد قطب. ورغم أن التجربة المصرية اتسمت بنوع من التماسك في مفهوم "الدولة الوطنية"؛ إلا أنه من جانب آخر فحتى الدستور المصري قد حرَّم وجود أحزاب دينية للمشاركات السياسية؛ لهذا كان لحزب الوفد الغلبة رغم تعاطف المصريين مع الإخوان بشكل لافت؛ فالإخوان كان لهم التأثير الثقافي اللافت والوعي الديني والتربوي على الأفراد أكثر من التأثير السياسي في المشهد المصري. ولم تكن التجربة السورية للإخوان بأفضل حالا من سابقتها؛ فبالرغم من أنَّ أحد قادتها قد نظر في التعددية بشكليها الثقافي والسياسي بخلاف الإسلاميين الأرثوذكس -كما يحلو لأركون تسميتهم- إلا أنَّ ذلك لم يُغنِ من اندلاع حرب أودت بحياة مئات الألوف في ثمانينيات القرن الماضي مُخلِّفة وراءها إقصاء تاما للإخوان وضحايا ومنفيين.

وبعد التجربة الدموية المؤسفة للإخوان في سوريا، تغيَّرت الحال في نظرة الإخوان في مصر تجاه النظام الحاكم؛ إذ لم يصرحوا بشرعيته؛ وإنما قبلوا التعامل معه من خلال تحريمهم للعنف وسفك الدماء ورفضهم الانقلاب العنيف، حتى شرعوا في المطالبة بشراكة سياسية في الانتخابات البرلمانية دونما تنظير صريح للتعددية السياسية والحزبية حتى أواخر القرن الماضي، عندما قال محمد عمارة بالتعددية، وأن البشر بطبيعتهم مختلفون في الآراء والطبائع، وهو بذلك يخرج من مفهوم تحريم التعددية السياسية التي نادت بها الأحزاب الإسلامية منذ إنشائها، وإنشاء مفاهيم جديدة قد بدت للجمهور بأنها بداية لوسطية جامعة لكل الأقطاب استناداً إلى الآية القرآنية "وجعلناكم أمة وسطا".

لقد قَضَى الإسلاميون العرب عقوداً طويلة في القول بأنَّ الصراع بين الإسلام والغرب هو صراعٌ حضاري بحت؛ فقد غلَّبوا العوامل الثقافية في الخلافات والانقسامات الداخلية، بينما الواقع هو أن الصراع الدائر ذو أبعاد سياسية واقتصادية وإستراتيجية، ولا علاقة له بالدين والهوية والثقافة؛ الأمر الذي جعل الجو السياسي العربي جوًّا عكراً أمام الديمقراطية والتعددية؛ فقد أصرَّ الكثير على أنَّ الديمقراطية لا تفرض كما حدث في أفغانستان والعراق، بل وجب أن يخلق لها جوٌّ صحوٌ مناسبٌ لخصوصية المجتمعات العربية الواقعة بين مطرقة الإسلاميين الصارمة وبين سندان القوميين المتسرع، وكانت النتيجة أن انصرف الإٍسلاميون إلى التوجس حول مفاهيم ذات ريب وشك كبير، في حين انصرف القطب الآخر القومي في التنظير للاندماجية والشمولية، وبقي الليبراليون والعلمانيون منهمكين بالمجتمع المدني. وحتى وإن وعى الفرد العربي بضرورة إيجاد تعددية بشكليها؛ فإن ذلك لا يخفي من حقيقة أن الأمر احتاج إلى أكثر من ثلاثة عقود؛ بنتيجة مخيبة للآمال. ولنأخذ لبنان كمثال لتجربة أكثر ألماً في تعددية سياسية طائفية أو العراق وسوريا كمثال في الأنظمة الشمولية. الأُمثلة تقال ولا تقاس بكل تأكيد، وهناك أمل كبير في الأجيال القادمة للاستفادة من التجارب الماضية الدموية ليجعلوا من التعددية الثقافية ثراء حضاريا، ومن التعددية السياسية شراكة مجتمعية؛ الأمر يحتاج -بلا شك- إلى نبذ فكرة الفرقة الناجية ونظرية الحاكمية، وإلى الاستفادة من العقد الاجتماعي التطبيقي لتوماس هوبز وجون لوك، والنظري لروسو.

أخبار ذات صلة