عزيز أبوشرع | كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة ابن طفيل
إنَّ هذا القول يَهدف في النهاية إلى التخفيف من حدة الاعتقاد بربط النكبة بنهاية الرشدية، أي المعنى السياسي للنَّكبة المتضمن لمعنى الإبعاد والحصار، المبني أساساً على معنى السِّعاية التي تحمَّل وزرها فقهاء الوقت. إنَّنا نسعى إلى الكشف عبر هذه الأمور وكونها سبباً لاختفاء الدرس الفلسفي من الغرب الإسلامي إن هو اختفى فعلاً. نفترض أنَّ هذه الاعتراضات الأشعرية، قد يكون الفعل الأقوى في إضعاف الفلسفة أكثر من أي نكبة قد تكون؛ هو الفكر يضرب الفكر.
1 - حول أشعريَّة ابن رشد نفسه:
لا شك أنَّ الأصل في بداية ابن رشد كانت الأشعريَّة، ولا حاجة للتأكيد على أشعريَّة ابن رشد الجد(ت 520هـ) ، والأب (ت 563هـ)؛ غير أنَّ تلمذة أبي الوليد الحفيد لعياض (ت 544هـ) الأشعري الكبير، وتعلُّق قلبه بالمازري (ت 536هـ) في شبابه يكفيان للتدليل على البداية الأشعرية لصاحبالمناهج. أمَّا المتن الرشدي فيَجزم بأشعرية ابن رشد المبكِّرة كما تظهر في مختصر المستصفى؛ إذ إنَّ أسلوب ابن رشد في هذا الكتاب، واستعمالاته الكلامية، وإشاراته إلى أئمة الكلام الأشعري لم تكن لِتختلف عن طريقة غيره من العلماء الأشاعرة، المعروفة أشعريَّتهم.
نقرأ في استهلال الضَّروري اعترافاً مبدأياً بمكانة علم الكلام، لا نجد مثيلاً له فيما ولي ذلك من مؤلفات أبي الوليد:«إنَّ المعارف والعلوم ثلاثة أصناف: إما معرفة غايتها الاعتقاد الحاصل عنها في النفس فقط،كالعلم بحدَث العالم، والقول بالجزء الذي لا يتجزأ وأشباه ذلك»(1)؛ففي النص اعترافٌ صريحٌ بالمعرفة الكلامية، وعدّها صنفاً من العلوم المهمة، وأهم هذه المعارف إثبات حدوث العالم ومسألة الجزء، اللتين علمنا الجُهد الذي خصَّصه ابن رشد فيالمناهجلإبطالهما.
كما صار ابن رشد إلى مجاراة التقليد الرَّسمي في وصف متكلمي الأشاعرة بأهل السُّنة، ونضرب مثالاً على ذلك في مسألة الحسن والقبح العقليين:«أما حدُّ الحكم عند أهل السُّنة فهو عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين بطلب أو تركٍ، فإذا لم يرد هذا الخطاب لم تتعلق بالأفعال صفة تحسين أو تقبيح، فيكون الحُسن والقُبح على هذا ليس وصفا ذاتيا للأفعال. وذهبت المعتزلة إلى أن الحَسن والقبيح وصفٌ ذاتي للأفعال»(2). فقد وردت الإشارة بصفة أهل السنة إلى الأشاعرة، الذين ذَكر في مواضع أخرى من الكتاب بعضهم بالاسم كالجويني (ت 474 هـ) وبعض مؤلفاته كالرسالة النظامية(3)، بل ورد أيضاً ذكر إمام الأشاعرة نفسه ، الذي حلاه بالشيخ أبي الحسن الأشعري (ت 324 هـ)(4).
من جهة أخرى لا يبدو من صنيع أبي الوليد في البداية أي خروج عن التقليد الأشعري؛ حيث نجد استعمال مصطلح المتكلمين وارداً باعتبار علمي مرغوب وفاعل، كما أن قولهم في الخلاف معتدٌّ به، وخاصة في المسائل الأصولية، وهو أمر ينسجم مع ما سبق بل أولى منه، إذا تعين أن تأليف البداية يرجع إلى سنتي 563 و 564(5)، وهي مرحلة مبكرة من الحياة العلمية لابن رشد، فهو في هذه المرحلة إلى الأشعرية أقرب.
نقرأ في البداية -في سياق معالجة مسألة أصولية لها علاقة بالتكليف-: «وقد بين ذلك المتكلمون كأبي المعالي وغيره»(6) وقد علمنا أن البناء الذي سيُنشئه ابن رشد في الكشف إنما هو على أنقاض كتاب أبي المعالي، الذي كان عمدة أشاعرة المغرب لذلك العهد، مما يعني أنه -إلى حدود ذلك التاريخ- لا يزال ابن رشد في أحضان الفكر الأشعري، أو على الأقل لم يتقرر عنده تهافته، أو لم يحن الوقت للكلام فيه.
في زمن ابن رشد كانت الأشعريَّة قد مدَّت يدها على الغرب الإسلامي، ولم يَشِذَّ عن ذلك إلا آحادٌ من القائلين ببعض المقالات المخالفة، أو ذوي نزعات غير أشعريَّة، في بعض القضايا الكلامية. فالدرس الكلامي الرَّسمي في المدارس ومجالس العلم إنما كان درساً أشعرياً بالأساس.
إنَّ تلمذة ابن رشد لعياض (ت 544هـ) وللمازري (ت536 هـ)، بل وحتى الرَّاوية ابن بشكوال (ت 578هـ) إنما تعني بالضَّرورة أنَّه خرِّيج مدرسة أشعرية عريقة؛فالأول (عياض) هو تلميذ مباشر ومُلازم لأحد أركان الأشعريَّة المغربيَّة،وصاحب تآليف تعدُّ مؤسِّسة في المغرب، وهو أبو الحجَّاج الضَّرير (ت 520هـ)، وقد روى عنه عياض تلك المؤلفات(7). بل إنَّ مع عياض نفسِه بلغهذا الاتجاه الكلامي مرحلة جعلت صاحب المدارك يُفرد الإمام بترجمة حافلة في كتابه(8)، وما كان لذلك من داعٍ؛ فهو غير مالكي أصلاً. وكان أبو الفضل لهِجاً بالثناء والاستشهاد بأعلام المذهب ورموزه؛ كالباقلاني (ت 402هـ) وابن فورك (ت 406هـ) وغيرهما.
وأمَّا المازري فهو رجل حملته أشعريَّته على الرد على أعلام كبار للأشاعرة، شذُّواْ في أشياء-كالجويني نفسه- في مسألة الكليات وغيرها. كما أن ابن السبكي رأى أن الموقف النقدي للمازري من الغزالي(ت 505هـ)، لم يكن إلا لأسباب أشعرية بالذات، تجلَّت في حَيدة أبي حامد عن قول الأشاعرة في مواضع، وعدم تقيُّده المثالي بالاتجاه الأشعري(9). أما صاحبالصِّلةفلم تكن أشعريته لتخفى وهو يترجم لأعلام الأشعرية على عهد المرابطين، مُشيداً بتميُّز صناعتهم، ويُغرقهم بالثناء.
من جهة أخرى-وعلى عكس ما كرَّسه المرحوم الأستاذ الجابري، من الجُهد في التَّكثير من جدوى "فتوى التشويش"(10)، الواردة عن ابن رشد الجد، في التأسيس لموقف سلبي من الأشعريَّة-كان أبو الوليد الأكبر من الأشاعرة المصرِّحين بمذهبهم في غير موضع من مؤلفاته وفتاويه، فكان لذلك ولا شك الأثر المُباشر في تعريف الحفيد بتراث الأشاعرة وكذا تَنشئته على ذلك، بالإضافة أيضاً إلى أبي القاسم نفسه والد ابن رشد، الذي كان دون شك من هؤلاء المغاربة المتشبِّعين-إلى جانب مذهبيتهم المالكية- بتراث أبي الحسن الأشعري.
غير أننا-مع كل الذي قدمناه- نؤكد أننا لا نصبو إلى إثبات أشعريَّة الفيلسوف ابن رُشد، وليس ذلك هو الغاية؛ وإنما القصد إثبات النشأة الأشعرية لأبي الوليد لا غير، أمَّا التحول عنها أو عدم الانصياع لجميع جزئياتها فهو أمر لا يكاد يخفى في الكتابات الرُّشدية الأولى ذاتها، التي اتخذنا بعضها مصدراً لإثبات نشأة ابن رشد على مذهب قومه؛ ففي المسألة التي أوردناها أعلاه -حيث سَرَد المؤلف اختلاف أهل السنة والمعتزلة- عاد ليصرِّح بعدم أفضلية أيِّ منها على الآخر:«والقول في هذه المسألة ليس من هذا العلم الذي نحن بسبيله. ويشبه ألا يكون في واحد من هذين القولين كفاية في الوقوف على هذه المسألة»(11)
وهذه المسألة على كل حال لا تدل على خروجه من زُمرة الأشاعرة بقدر ما تُدخِله في زُمرة أهل النَّظر المحض، كالفلاسفة والغزاليين الذين صار واحداً منهم بإقباله على اختصار كتاب المستصفى، و لا حاجة إلى التذكير بكون الغزالي نفسه خرج عن أشعريَّته في مسائل، وقد يكون ابن رشد-في هذه المرحلة- استساغ المخالفة لِسابقة أبي حامد في تسويغ ذلك؛ فيكون غزالياً من هذه الناحية أيضاً.
ولا يفوتنا أن نشير إلى أن لابن رشد تأليفًا بعنوان: مقالة في الجمع بين اعتقاد المشائين والمتكلمين من علماء الإسلام(12)، قد نفهم منها أن ابن رشد مر بمرحلة ثالثة، هي مرحلة التوسط بين الفلاسفة والمتكلمين، قبل الخلاص إلى الموقف المعلوم من الأشعرية أو بعده، يمنعنا من اعتقاد ذلك كون النص مفقوداً، مع عدم المعرفة بتاريخ تأليفه. غير أن المؤكد أن المسألة الكلامية كانت شاغلة لأبي الوليد، واستغرقت منه جهداً في التأليف وفي التفكير، وفي مشروعه الفلسفي التوفيقي.
2- ابن رشد بين التبرِّي من الأشعريَّة والدخول في الأمر العزيز:
هل كان ضرورياً بالنسبة لابن رشد أن ينسلخ من أشعريته التي نزعم أنَّه نشأ عليها، لكي يكون فيلسوفاً؟ أو بعبارة أخرى: هل هناك تعارض بين علم الكلام في وجهه الأشعري وبين الخطاب الفلسفي وصلتْ بابن رشد إلى حد التأليف في نقض الكلام الأشعري، والتَّشنيع على الأشاعرة خاصَّة، دون الأصناف الأخرى التي ذكرها في المناهج؟
من حيث المبدأ فإنَّ الخِطاب الكلامي -رغم مُحايَثته للفلسفة من جهة اعتمادِ العقل أساساً للنَّظر، وكذا من حيث الاشتراكُ الموضوعي في جملة من القضايا-أمره يتعلَّق بجنسين من القول يختلفان من حيث المبدأ والغاية. ثم إنَّ المتكلم -مهما كان مذهبه- يسعى جُهده رغم ذلك إلى التميُّز عن الفيلسوف، بالإضافة إلى أنَّ جزءًا من علم الكلام هو في الواقع نقضٌ وردٌّ على الفلاسفة، ودفاعٌ عن جوهر الملَّة وعقيدة الأمَّة.
وحتى لا نذهب بعيداً-في البحث عن أسباب النَّقد الرُّشدي للأشعريَّة- فإنَّ ابن رشد يصرِّح في مناهجه-كما هو معلوم-بعدم جدوى هذا العلم؛ لكونه غير برهاني، وكأنه يضع نفسه موضع المدافع عن العقائد الإيمانية، الحافظ لها من مُغامرة المتكلمين، والرادع لهم عن إقحام العوام في علم الكلام، وهو أمر-مع كونه مُفيداً في تفسير هذا الإعراض الرُّشدي عن عقائد الأشياخ- غير كاف في فهم ذلك الحماس الكبير الذي تجده في المناهج، والتَّشديد على المتكلمين، الذي بلغ درجة التَّخوين، وعلى رأس هؤلاء الغزالي نفسه.
إن السُّؤال الذي نريد أن نستثمره في سبيل تكميل هذا التفسير القاصر، والفهم غير المكتمل لخلفيات هذا العمل الكبير الذي قام به أبو الوليد ضد الأشاعرة هو: هل كان للمناخ السياسي والتغيير الذي طال البناء المعرفي المغربي بسبب ذلك دورٌ في التَّوجه الرُّشدي الجديد، المخالف للمسطَّر في مختصر المستصفى وغيره.
من الناحية التاريخية يبدو أنَّ أمراً ما ليس متوفراً لنفهم الأمور بشكل أدق وأقرب إلى الواقع؛ فابن رشد الذي ألَّف كتاب المناهج في تاريخ محدَّد هو سنة (575هـ)، كان حينها قد دخل في خدمة الموحدين، وبدأ المشروع الفكري القائم أساساً على التعاون والتشارك مع دولة بني عبد المومن التي عُرفت تاريخياً بدولة الأشاعرة، وابن تومرت (ت 524هـ) الذي أسَّس البناء الفكري والمعرفي لهذا الكيان السِّياسي هو نفسه المعروف بدوره في نشر الأشعريَّة، ومؤلَّفه الشهير "المرشدة" التي كان لها من الرواج والتدارس والشروح ما هو معلوم، حتى بعد أفول دولة الموحدين. بعبارة أقرب؛ إنَّ كون ابن تومرت إمام الموحدين أشعرياً منافحاً عن الأشاعرة متولياً أمر نشر مذهبهم في المغرب-بحسب رأي من يرى ذلك- لا يمكن أن يُساير كون ابن رُشد أحد رجالات البلاط الموحدي الذي يأتي بنيان المذهب الأشعري من القواعد.
لسنا نحتاج إلى تأكيد أنَّ موضوع علاقة فكر ابن رشد وفلسفته بالمناخ السياسي المعاصر حينها هو موضوع قديم في الدراسات الرشدية، ولا يمكننا في هذه المناسبة الوقوف عند تحقيق تلك المذاهب وتمحيصها؛ غير أننا يمكن أن نسجل موقفاً نعدُّه جزيئاً ونعترف بكونه غير مُوفٍّ بتأويل هذا الأمر. في سبيل ذلك نتوسل بالوقفات التالية:
الأولى: حول شرح ابن رشد لعقيدة ابن تومرت.
اشتهر ابن تومرتبالمرشدة، وهي المتن الذي وضعه الداعية الموحدي لأتباعه في باب الاعتقاد، و رأى الكثيرون أنه السبب في انتشار الأشعرية في المغرب، وهو أمر لا قيمة له على الاطلاق، لا سيما بعض ظهور الكثير من النصوص التي وضعها أشاعرة ينتمون إلى عصر الطوائف وآخرون إلى العهد الموحدي، وأمور أخرى لا حاجة للتطويل بها هنا. من أجل ذلك يذهب الاعتقاد بأن ابن رشد شرح هذا المتن (المرشدة)لمجرد ما ورد في فهرس الإسكوريال أنه شرح عقيدة المهدي، فهل عقيدة المهدي تعني بالضرورة المرشدة فحسب؟
-ورغم وضوح عبارة ابن عبد الملك بأنَّ ابن رشد له تأليف هو «شرح العقيدة الحمرانية»(13)- في الواقع صار الدارسون لمتن ابن رشد إلى عدم الانشغال بالأمر فيما يشبه التجاهل، وأحياناً إلى استبعاد الأمر أو أنه لا يكاد يعني شيئاً، وقد أسهم في تعقيد الأمر ما أورده صاحب المرقبة العليا، وجاء مصحَّفاً في نشرة بروفنسال(14) ومن جاء بعده من الناشرين؛ حيث ورد لفظ "الحمدانية" بدل "الحمرانية"(15) غير أنَّ اكتشاف الأستاذ محمد بنشريفة-بإشارة من المختار السوسي في خلال جزولة(16)- لما يُفترض أنه نسخة لشرح ابن رُشد على الحمرانية، جعل ما كان مسطوراً من قبلُ ومظنوناً واقعاً ليس بيننا وبينه إلا نشر النسخة الوحيدة الموجودة عند بعض الخاصة. وقد أورد بنشريفة في السيرة التي وضعها لابن رُشد طرفاً من هذه العقيدة، ما لم يبق معه مجال للتأويل، وأن المقصود بعقيدة المهدي التي شرحها ابن رشد هو الحمرانية، والتي سُميت بذلك لاستهلالها بقوله: و"عن حمران"، وهو مولى الخليفة الثالث عثمان بن عفان(17).
إن أهم سؤالٍ يَرِدعلينا هو: إذا كان ابن رشد مهتماً ولا بد بما يكتبه " الإمام المعصوم" فلماذا لم يشرح "أهم ما كتبه في باب الاعتقاد وهو المُرشدة، وعدل عنها إلى جزء صغير منأعز ما يطلبوهو الحمرانية التي هي عبارة عن مجموعة من الآيات والاحاديث؟
يذهب الأستاذ محمد بنشريفة إلى أن هذا المؤلَّف قد يكون أول ما ألفه ابن رشد؛ أي بمجرد التحاقه بخدمة الموحدين، وأنَّ مضمون هذه العقيدة هو تمهيد لما سيجيء به ابن رشد، في الكشف وفصل المقال؛ أي أن تاريخ تأليف الحمرانية قد يرجع إلى حوالي سنة 548هـ(18).
ولا مانع عندنا مما ذهب إليه بنشريفة، غير أنَّه غير مُوفٍّ بما نحن فيه، وهو سبب الحمل على الأشاعرة؛ إذ لم يكن-في جميع الأحوال- مشروعاً مصرَّحاً به عند الإمام. صحيح أن ابن تومرت عند التحقيق ليس أشعرياًمُخلِصاً، غير أنه في جميع الأحوال مُتكلمٌ، لم يجاهر الأشاعرة بالعداوة ولا النقد كما صنع ابن رُشد. كما أن أهم ما يمكن تسجيله في هذه النقظة هو لماذا الحمرانية وليس المرشدة؟ علماً أن الحمرانية ذات اتجاه أثري ظاهري قريب من روح الكشف، والمرشدة ذات اتجاه كلامي أميل ما يكون إلى الأشعرية، وهو بالذات ما كان هدف ابن رشد بالنقد والعتاب.
الثانية: حول دخول ابن رشد في أمر الموحدين وتأليفه في ذلك: ورد في قائمة مؤلفات ابن رشد عند ابن عبد الملك:مقالة في كيفية دخوله في الأمر العزيز وتعلمه فيه وما فضل من علم المهدي(19)، غير أنه ورد في فهرس الإسكوريال بعنوان مقالة في كيفية دخوله في الأمر العزيز ...من علوم الإمام(20)، بمعنى أنَّ إمامة المهدي جاءت مصرحاً بها. إنَّ هذا كتاب-على أننا لا نعلم عنه شيئاً- ينبئنا عن انخراط ابن رشد في أمر الدعوة الموحدية؛ أي الاعتراف بالسلطة الروحية للرجل الأول فيها والاعتقاد الرسمي بعصمته، وهو أمر مثيرٌ للاستغرب عن رجلٍ لطالما رفض أمثال هذه التوجهات المغرقة في الباطنية، كما صرح به في غير ما موضوع في الكشف وغيره. وكنا نستطيع أن ندفع عن ابن رشد مثل هذا الزعم لولا أنه قد يصرِّح بنفسه بما يُفهم منه أن له ميولات موحدية مهدوية، فلننظر إليه مثلاً حيث يقول – متشكيا أمر شيوع الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفة-
«وقد رفع الله كثيراً من هذه الشرور والجهالات والمسالك والمضلات بهذا الأمر الغالب، وطرق به إلى الكثير من الخيرات، وبخاصة على الصنف الذين سلكواْ مسلك النظر، ورغبواْ في معرفة الحق؛ وذلك أنه دعا الجمهور من معرفة الله سبحانه إلى طريق وسط، ارتفع عن حضيض المقلدين، وانحط عن تشغيب المتكلمين، ونبه الخواص على وجوب النظر التام في أصل الشريعة. والله الموفق والهادي بفضله»(21).
ويحسن بنا أن نضيف أمراً له علاقة بطبية النظام السياسي القائم في عصر ابن رشد، وهو نظام جمع العقيدة إلى السياسة، واستعمل فكراً أقرب ما يكون إلى الإلجاء في التعامل مع النخبة العلمية خاصة، في سبيل إخضاعها، وقد أورد ابن عبد الملك أن: «معتقد آل عبد المومن وطائفتهم قديماً وحديثاً أن كل من خرج عن قبائلهم المُعتقِدة هداية مهديهم وعصمته فَهُم عبيد لهم أرِقَّاء»(22).
ولعل هذا المبدأ السياسي الديني يُفيد في تفسير كثير من الظواهر الفكرية والسياسية على عهد الموحدين، بما فيها فهم بعض آراء ابن رشد ومواقفه الغامضة، بل لعله يفيد في فهم أمر النكبة نفسها؛ إذ هي مصير كل معترض على أمر العصمة وأمر الدولة.
الثالثة: حول اكتشاف نسخة جديدة من كتاب الكشف عن مناهج الأدلة:
يرجع الفضل إلى الباحث الفرنسي مارك جوفغوا في لفت الانتباه لوجود نسخة أو بالأحرى نسختين جديدتين لكتاب الكشف عن مناهج الأدلة موضوع هذه الدراسة، وذلك خلال أبحاث كان بصددها في خزائن إستنبول.
بالنسبة لنا فإن الأمر واضح في فهرس مخطوطات كوبريلي، مجموعة فاضل أحمد باشا، حيث الإشارة إلى النص بعنوان مخالف:
"رسالة في مطابقة ظاهر الشرع مع الحكمة (رسالة في الظاهر من العقائد التي حمل الشارع الجمهور عليها مع تحري مقصد الشارع في ذلك)تأليف أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 595هـ."(23)
ومع العبارة الأخيرة -التي وضعها المفهرس شارحة بين قوسين- لا يبقى لمن يعرف ابن رشد شك أنه كتاب الكشف،ومقارنة بداية النص، التي أوردها المُفهرس ببداية الكشف عن مناهج الأدلة تدل بطريقة بديهية أنه هو؛ ولكن مع ذلك يظهر من صنيع الباحث أنه بذل مجهوداً ليصل إلى أنه كتاب ابن رشد، ولأمر لا نعرفه لم يُشر إلى العبارة الموضوعة بين قوسين، حينما أثار وجود المخطوط في الفهرس الوصفي لمخطوطات فاضل باشا، مع أهمية هذه العبارة في كشف طبيعة الكتاب(24)
لا تتجلى أهمية هذه النسخة الإستنبولية-التي اطلعنا عليها لكتاب الكشف- في أهميتها في إقامة النص فحسبُ وإخراجه في صورة أفضل من الطبعات السابقة، ولا سيما نشرة المرحوم الجابري(25)- والتي وقف الباحث نفسه عند مواضع الاستدراك عليها باعتماد النسخ الجديدة في المقال نفسه المشار إليه- وإنما أيضالكونها النسخة الوحيدة التي يرد فيها اسم "الإمام المهدي" مصرَّحاً به في سياق أشد تعقيداً وأقرب إلى الغموض؛أي سياق نقد الأشعرية التي هي مذهب صاحب أمر الدولة ومُلهمها الروحي، سيما إذا كانت هذه الدولة هي التي احتضنت الفيلسوف ودعته إلى بلاطها ليفك العبارة وينشر الحكمة.
يقول ابن رُشد في سياق الحديث عن الجسمية، وسكوت الشارع عنها- بحسب نشرة الجابري- : «ولما كان الوقوف على هذا المعنى من النفس (= كونها غير جسمية) مما لا يمكن الجمهور، لم يمكن فيهم أن يعقلواْ وجود موجود ليس بجسم، فلمَّا حُجبواْ عن معرفة اليقين علمنا أنهم حُجبواْ عن معرفة هذا المعنى من الباري سبحانه»(26).
ثم مباشرة بعد العبارة نفسها نقرأ في مخطوطة كوبريلي:
«فإن قيل :الإمام المهدي رضي الله عنه قد صرح بنفي الجسمية وكفر المتشبثين بها، فكيف قلتم أنتم:أن... في الشرع ألا يصرح فيها بإثبات ولا نفي قلنا: إنما حكيناه عن الشرع المنقول، فهو موجود فيه أعني أنه لم يصرح بأنه ليس بجسم، لا في الكتاب ولا في السنة، وأما ما حصله الإمام المهدي رضي الله عنه من التصريح بذلك فهو الواجب بحسب زمانه؛ وذلك أن الناس لما اجترأوا على الشرع وسألواْ عما لم تسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم،وهل هو جسم أم ليس بجسم، إذ هذا السؤال موجود في فطر الناس بالطبع، واشتهر هذا السؤال وفشا في الناس، وكان السبب فيه سؤال من دُعي إلى الدخول في الإسلام...»(27).
يحتاج هذا النص إلى دراسة نقدية تاريخية تبرر أمر وجوده في كتاب الكشف عن مناهج الأدلة، سيما إذا علمنا أن هذه النسخة متأخرة جداً، ومكتوبة بخط نسخي، وأن كاتبها ليس عربي اللسان ولا ضابطا لقواعد اللغة، كما أشار إلى ذلك الباحث جوفروا نفسه. ومع ذلك لا يبعد عندنا أن يكون ابن رشد قائل هذا الكلام، فهو موافق لما في شرح الحمرانية المنقول سابقاً، غير أنه عند تأمل حقيقة موقف ابن رشد يتبين أنه لا يعدو أن يكون مجاملة للإمام وأتباعه من طلبة الموحدين، حُرَّاس العقيدة الموحدية، وأركان الدولة المصمودية، ومن ثمة لا نرى لهذا النص أي قيمة حتى في حالة ثبوته عن ابن رشد في المناهج أو شرح الحمرانية أو غيرهما.
وبالجملةمع إقرارنا بحاجة الموضوع إلى بحث أوسع، وبعد استعراضنا لتلك النقاط الثلاث؛ فإنَّ الذي لا شك فيه أن ابن رشد يختلف عن المهدي في مسألة الموقف من الأشاعرة؛ بحيث إنَّ الأول مُتكلم له اتفاق مع الأشاعرة في كثير من الأمور، والآخر فيلسوف لا يرى مكاناً للكلام في المنظومة الفلسفية ولا الدينية، مما يدل-في اعتقادنا- على أن ابن رشد -وهو في خدمة الموحدين- صاحب اجتهاد داخل تلك الدائرة، أو على الأقل كان مجانباً للصدام مع التوجه الفكري العام لدولة "التوحيد"، ومن ثمة وجب أخذ النقد الذي وجهه ابن رشد للأشعرية مأخذ الجد، على ما قد يتخلله من حضور السياسة والأمر الغالب.
هل كانت الأشعرية سبباً في النكبة؟
ترجع مسألة رفض الأشعرية في الغرب الإسلامي والرد على المتكلمين إلى وقت في التاريخ بعيد من زمن ابن رشد، ووصلَنا من بين الأعمال والأخبار في الموضوع ما قام به ابن حزم وصرح به ابن عبد البر، وربما ابن أبي زيد، وتناقلت المصادر أخبارهم. غير أن العصر المرابطي لم ينته إلا وقد حُسم الأمر للاتجاه الأشعري على حساب الاتجاه الأثري وبعض الجيوب الكلامية الاعتزالية والباطنية القديمة، فبقي الاتجاه الأشعري سيد الموقف منذ مطلع العصر الموحدي دون منازَع. ولم نقف على غير ابن رشد إلا ما روي عن ابن خروف (ت 609هـ) النحوي الشهير، المغرم بصناعة الردود والنقض، قال فيه ابن الأبار: «وله رد في العربية على أبي زيد السهيلي وابن ملكون وابن مضاء، وعُني بالرد على أبي المعالي الجويني في كثير من تواليفه، ولم يُصب في ذلك» (28)، وتواليفه المشار إليها مجملة هنا صرَّح بها ابن عبد الملك، الذي وصفه بأنه:«كان كثير الرد على الناس، فرد على إمام الحرمين أبي المعالي النيسابوري في كتابه الإرشادوالبرهان، وعلى أبي الوليد بن رشد،وأبي القاسم السهيلي في مسائل كثيرة»(29).
فالرد على أبي المعالي في الإرشاد هو رد على الأشاعرة، وضرب في صُلب المذهب؛ فقد كانت الأشعرية في ذلك الوقت بالذات جوينية بالأساس، وأساسها كتاب الإرشاد. غير أنه يبدو أن ابن خروف يغلب عليه الحماس والاستعتراض العلمي وإظهار القدرة على النقد؛ ولذلك لا نستطيع أن نتنبأ برده على ابن رشد ما هو، سيما وأنه احد تلاميذه ويتفق معه في موضوع نقد الأشعرية الجوينية كما يمثلها كتابا الإرشاد والبرهان.
وإنما قدمنا بما سبق استعراضاً؛ لكون ابن رشد كان بدعاً في عصر الموحدين في التصدي للاتجاه الأشعري، الساكن في أساسيات المعرفة الدينية للمرحلة، وأنَّه إذ يقوم بذلك فإنه يأتي بكبير، وسيكون له ما بعده من تداعيات على المستوى الشخصي والمعرفي في سيرة أبي الوليد.
ورغم تعدد الرويات حول سبب نكبة ابن رشد، ورغم عدم قدرتنا على إثبات رأي من بين الآراء التي فُسِّرت بها، ما بين طاعن في دين ابن رشد، وبين منتصر له لا يرى في غير المنافسة وصراع الأقران خلفية لهذه المحنة، فإننا نجزم أن الدين قد تم استعماله، كما في غير هذه الحالة من حالات المحن التي عرضت لبعض المثقفين قديماً، ومن ثمة فإن أمر الدين أساسي في أمر النكبة الرشدية على كل حال.
نقرأ في التكملة:
«عبد الرحمن بن زكرياء بن محمد الرجراجي يكنى أبا زيد، دخل الأندلس وسكن قرطبة وولي قضاء استجة من كورها، وكان شيخا صالحا متحققا بعلم الكلام، متعسفا شديدا في أحكامه ونوظر عليه بقرطبة،وجرى بينه وبين القاضي أبي الوليد بن رشد ما جر نكبته المشهورة ونكبة أصحابه، وتوفي سنة 605»(30).
فهذا النص يحدثنا عن هذا الرجل ذي الأصل المغربي، من قبيلة "ركراكة"، على أنه السبب في محنة ابن رشد، غير أن الأكثر أهمية هو كونه أحد كبار المتكلمين، فهو أشعري ولابد.
إنَّ أهمية هذا النص تتجلى في كون النقد الرشدي للأشعرية لم يكن برداً وسلاماً على صاحب المناهج، وأن المواجهة مع أبي الوليد بسبب الطعن في المناهج الكلامية كان له ثمن غالٍ هو حرية الرجل وترفه المادي والفكري، وأن الأمر قد يكون وصل إلى أن استخفاف ابن الرشد بعلم الكلام ورموزه أورثه أن نُكب النَّكبة الشنعاء.
وعلى أهمية هذا الرجل في واقعة المحنة المشار إليها في النص؛ فإننا لا نجد لهذا الاسم ظهوراً في رواية الأحداث المتعلقة بها في الذيل والتكملة، الذي يرجع أصلاً إلى أسباب المنافسة والمحاسدة، نقرأ في هذا المصدر:
«وأما أبو الوليد بن رشد فكان قد نشأ بينه وبين أهل قرطبة قديما وحشة جرَّتها أسباب المحاسدة، ومنافسة طول المجاورة، فانتدب الطالبون لنعي أشياء عليه في مصنفاته، تأولوا الخروج فيها عن سنن الشريعة، وإيثاره لحكم الطبيعة، وحشروا منها ألفاظا عديدة، وفصولا ربما كانت غير سديدة، وجمعت في أوراق، وقيل: إن بعضها ألفي بخطه، ومشى رافعوها إلى حضرة مراكش سنة تسعين»(31).
فالوارد هنا-على تجاهله اسم الرجراجي- ينطلق من أمر المنافسة مع الأقران في تفسير أمر التُّهم العقدية الموجهة إلى فيلسوف قرطبة وقاضيها، فبعد ثبوت العداوة تَم اللجوء إلى انتقاء بعض السياقات الموهِمة لما يريدون تقويلَه، وتغريمه بسبب ذلك وإبعاده. هذا ما يذهب إليه-على الأقل- صاحب هذه الرواية، وليس معنى ذلك أن الأشاعرة اكتفواْ بأمر الكيد والتربص بأبي والوليد، وهو أمر لا مانع منه لكونه بديهي؛ وإنما تجند هؤلاء للدفاع عن مذاهبهم الكلامية بالمناظرة والتأليف. وهو ما نحاول التمثيل له من خلال أمثلة من سياقات معرفية وتاريخية مختلفة، يجمعها جميعاً الإطار الأشعري الرافض للتجاسر الفلسفي على العقائد، ممثلاً في أبي الوليد وعمله تحديداً، على أن الأمر يحتاج إلى رصدٍ للتراث الكبير الذي راكمه هؤلاء المتكلمون المغاربة في نقد الفلسفة، وتحصين العقيدة بالقول الكلامي المقارن للفلسفة والمبارز لها، ونسعى لإطلاق مشروع جاد في الموضوع، وأن عسى أن يكون ذلك العمل قريباً.
أبو عامر الأشعري أول المعتنين بالانتصاف من ابن رشد ونقض كتاب المناهج:
الفَقِيه أبو عَامر يحيى بن عبد الرَّحمن بن ربيع (ت 640هـ)، الأَشعريّمذهباً ونسباً،كما يَصفه غير واحد، وَكان أبو عامر هذا صدر عُلماء زَمَانه بالأندلس، أَخذ عَن أبي بكر بن الجد، وابن زُرقون، وكلاهما من المالكية المنحازين إلى المذهب، الممتحَنين بسبب ذلك، في زمن المحنة المعلومة على عهد بني عبد المومن، كما أخذ الراويةعن ابن بشكوال، وغيره وَله تآليف فِي علم الكلام وُصفت بأنها جليلة ونبيلة. وقد صرَّح ابن الأبار بمواد الدرس الكلامي لدى أبي عامر، التي هي في مجملها جوينية، و أنه نوظر عليه في كتابي أبي المعالي الشامل والإرشاد(32).
وقد أطبقت كُتب التراجم على إسباغ صفات العالمِية والنبوغ وإحكام المعارف المختلفة على شخص أبي عامر، مع الالتزام بأخلاق الحوار والمناظرة، يقول عنه في الإحاطة: «واحد عصره، وفريد دهره، كان -رحمه الله- علما من أعلام الأندلس، ناصراًلأهل السنة، رادعا لأهل الأهواء، متكلّما دقيق النظر، سديد البحث، سهل المناظرة، شديد التّواضع، كثير الإنصاف، مع هيبة ووقار وسكينة»(33).
في حياته وقبل الممات-وإذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة- فزع الأشاعرة -الذين يشكلون النُّخبة العالِمة من فقهاء العصر- إلى الانتصاف من جناية الفيلسوف على المذهب، الذي صار رسمياً في القطر المغربي.
يتعلَّق الأمر بأوَّل أشعري وصلنا اسمُه انتبه لخطورة ما يقوم به الفيلسوف، الذي أعمل مِعوَل الهَدْم في كيان البنية الأشعريَّة، وأنَّالأمر لا يَتعلَّقبمجرد نظرٍ لمفكر حُر يسعى للتعبير عن رأيه، بل رجل كان لا يرى في الأشعرية الطريقة الأفضل للدفاع عن الملَّة، كما يراها الملتفُّون حول الإرشاد، الذي يُعَد صاحبُه الإمام(34) بِلُغة المرحلة، بل كان يرى (ابن رشد)-وهو الرجل الذي لا يمكن لأي أحدٍ كان أن يُصادر على حق انتمائه للديانة التي يدينون بها- أنَّ الأشعريَّة خطر على الدين نفسه، بحسب ما شرح أبو الوليد في المناهج؛ فلم يَسُغ لرجل مثل أبي عامر نشأ وتعلم من أول ما تعلَّم -عن المشايخ الفضلاء- أنَّ أَّول واجب هو النظر الكلامي الأشعري: أن ينظر بعين الرضى لما يقوم به ابن رشد، سيما وأنَّه تقرر أيضاً أن على علم أصول الدين تقوم العلوم الأخرى جملةً؛ فالمتكلم هو المسؤول بالطريقة المعلومة عن إثبات أصول الديانة نظرياً، حتى يسوغ النظر التفصيلي لباقي المشتغلين بعلوم الشرع عملياً.
هذا الاستفزاز الذي قد يكون الرِّسالة التي تلقاها الأشاعرة المتحمسون للمذهب، الذي كان في أوجه حينها، جعل مثل هذا المتكلم المتضلِّع بصناعة النظر يُظهر الغضب من صنيع بلديِّه الفيلسوف الفقيه، ولم تكن مثل هذه الخطوة لتُستحسن عند أيٍّ كان، عندما نعرف مكانة ابن رشد في أسرته ودماثة أخلاقه. لذلك -وبِغضِّ النظر عن القرار الرسمي الصَّادر في حق ابن رشد- فإننا لا نعلم مِمَّن جعل ابنَ رشد بين عينيه غير أبا عامر هذا؛ يقول صاحب المرقبه العليا، والأصل عند غيره:
«أخذ النَّاس عنه واعتمدوه، إلى أن شاع عنه ما كان الغالب عليه في علومه من اختيار العلوم القديمة والركون إليها، فترك الناس الأخذ عنه وتكلمواْ، وممن جاهره بالمنافرة والمجاهرةالقاضي أبو عامر يحيى بن أبي الحسن بن ربيع، وبَنُوه،وامتُحن بسبب ذلك، ومن الناس من تعامى عن حاله وتأول مرتكبه في انتحاله»(35)
مسألة أساسية لابد من استحضارها في نقد أبي عامر لابن رشد، تتعلَّق بالخلفيَّة المعرفيَّةلهذا الفقيه الأشعري، الذي وُصف بأنَّه: « كان إماماً في علم الكلام، وأصول الفقه،ماهراً في المعقولات»(36).وعن هذه الأخيرة نُدندن، وعليها نعوِّل في أهمية نقد أبي عامر لابن رشد، فإنَّ عطف المعقولات على الكلام وأصول الفقه يعني أن الأمر يتعلق بمعرفة ثالثة، فهل يعني هذا أنَّ أبا عامر كان ممن عَرف الفلسفة، ومَهر فيها؟ أو على الأقل بعض أجزاء الفلسفة كالمنطق أو التعاليم؟
ونقف عند هذه النقطة وقفات:
الوقفة الأولى: من أجل إثبات مشروعية السؤال أعلاه وإقامته، نزعم فيما ليس هذا محل إثباته أنَّه حتى عند افتراض أنَّ المقصود بالمعقولات أصول الفقه والكلام؛ فإنَّ هذين العِلمين بالذات إنما عُرف بانتحالهما في الغالب من قِبل منتحلي العلوم النظرية من منطق وفلسفة، وأما في الغرب الإسلامي تحديداً فالأمر عندنا على إطلاقه، وتعداد الأمثلة عليه لا يكاد ينتهي.
الوقفة الثانية: أمر في غاية الأهمية، وله ارتباط بالذي قبله: أنَّمعرفة هذه المرحلة مطبوعة بطابع جويني/غزالي مكشوف، مبني على دراسة واختصار وتداول الإرشاد والمستصفى معاً. وقد ورد اسم الإرشادصريحاً في ترجمة أبي عامر الأشعري، واسم المستصفى مضمراً، في عِداد المصرَّح به، فهو المقصود عند الإشارة إلى التبريز في أصول الفقه عند أغلب من انتحل هذا العلم في عصر الموحدين، بل منذ نهاية المرابطين على ما اثبتناه في غير هذا الموضع.
وحتى لا نبتعد عن القصد الأول، الذي هو تحديد طبيعة المعرفة العقلية الموصوفة لأبي عامر؛ فإننا نزعم أنها من صميم المعرفة التي تشبَّع بها ابن رشد نفسه، ولعبت دوراً في تشكُّل المناخ الفكري لمغرب القرن السادس، وهي المعرفة الغزالية، من حيث هي فلسفة وأُصول وتصوُّف. والأخص من ذلك أن نقول: إنَّ معرفة أبي عامر الجيدة-أو حتى غير الجيدة- بكل منالمقاصد والتهافتفضلاً عن المحك والمعيار واردة عند صاحبنا المتكلم الفقيه النَّظار.
ومن ثَمَّةفالنتيجة التي نخرج بها هنا في غاية الأهمية؛ وهي الانتباه إلىالحصار الذي مارسته الأشعرية -في تعاضد مع الغزالية-على فلسفة ابن رشد، ودفاع الأشاعرة والغزاليين -إنْفرادى أو مجتمعين- عن نسقهم الذي صار أو يصير نحو الهيمنة على المعرفة المغربية.
وحتى نطَّلع أكثر على ما يُمكن أن يكون لنا عوناً على استجلاء الصُّورة؛ نقف عند المؤلفات التي أنشأها خصم ابن رشد في تصديه له، وتحطيم الأطر النظرية لكلام ابن رشد، وتهافت القول الفلسفي لديه بشكل عام(37):
- تحقيق الأدلة في قواعد الملة ودفع الشُّبه المُضلَّة والأقوال المضمحلَّة: ليس يخفى على قارئ هذا العنوان أنَّه مُشاكل للكلمات نفسها المستعملة في عنوان كتاب الكشف عنمناهج الأدلة، وأنَّه كان يقصد بهذا التأليف مضاهاة كتاب ابن رشد ومعارضته.
في الواقعإنَّ كُلَّ جملة في عنوان أبي عامر تُحيل على أختها عند أبي الوليد؛ فابن رُشد كتبَ يُريد الكشف عن مناهج الأدلة عن عقائد الملة؛ أي يريد الكشف عن تهافتها-بحسب ما فهمنا-فتصدَّى له أبو عامر يروم تحقيق هذه الأدلة، ودفع الشُبه المُضلة، وأنَّ ما كتبه ابن رُشد في نقض النسق الأشعري لا يعدو أن يكون أقولاً مضمحلة.
إن هذا الكتاب لو وُجد هو الذي سيبين حجم القوة النظرية لعلم الكلام الأشعري المغربي في نهاية القرن السادس وبداية السابع؛ أي قبل دخوله المرحلة المتأخرة، بحسب تصنيف ابن خلدون، تلك المرحلة ابتدأت في المشرق بفخر الدين الرازي (ت 606هـ)، الذي أدخل المباحث الفلسفية جنباً إلى جنب مع المباحث الكلامية.
- رسالةالاستيفاء لرسالة الإيماء في مسألة الاستواء: مع الأسف الشديد فإن هذا الكتاب -كغيره من كُتب أبي عامر- لا نكاد نصل إليها اليوم، ولذلك لا نستطيع أن نقول شيئاً دقيقاً عن مضمون هذا الكتاب.في المقابلعلمنا أنَّ أبا عبد الله محمد بن خلف الألبيري (ت 537هـ) -أحد أشهر المتصدِّين للاتجاه الغزالي على عهد المرابطين- ألف كتاباً في الرد على ابن رُشد الجد، يحمل عنوان الإيماء في مسألة الاستواء، كذا وردت في البرنامجمضمَّنة في رد أبي عامر. وعند ابن عبد الملك: الرد على أبي الوليد ابن رشد في مسألة الاستواء الواقعة له في الجزء الأول من مقدماته(38)
والمسألة المشار إليها بالرد هي قول أبي الوليد الجد، كما نقرؤها في المقدمات:
«واختلفوا فيما وصف به نفسه من الاستواء على العرش، فمنهم من قال: إنها صفة فعل، بمعنى أنه فعل في العرش فعلا سمى به نفسه مستويا على العرش. ومنهم من قال: إنها صفة ذات من العلو، وإن قوله:(استوى) بمعنى علا، كما يقال استوى على الفرس بمعنى علا عليه. وأما من قال: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد أخطأ؛ لأن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة والمقاهرة، والله يتعالى عن أن يغالبه أحد. وحمل الاستواء على العلو والارتفاع أولى ما قيل، كما يقال استوت الشمس في كبد السماء أي علت، ولا يمتنع أن يكون صفة ذات وإن لم يصح وصفه تعالى بها إلا بعد وجود العرش كما لا يوصف بأنه غير لما غايره إلا بعد وجود سواه»(39)
كما هو واضح من النص، ومع أن ابن رشد الجد أشعري بالجملة، فعدم رضى هؤلاء الأشاعرة المُصمِّمين على أشعريتهم، هو بسبب فتحه لباب الاختلاف في المسألة ووضعه للنقاش، ثم ترجيحه وجنوحه لإثبات العلو، وهو مؤول عند الأشاعرة، وهذا الرد على ابن رشد وإفراد ذلك بكتاب مستقل من قِبل أبي عبد الله الألبيري مبالغة لا ريب فيها، وهي مبنية على نزاع بين الرجلين حول الغزالية، سببها انتصار الألبيري لشيخه أبي عبد الله بن حمدين (ت 508هـ) متولي كِبرَ إحراق الإحياء.
ولعل أبا عامر قد وجد مبتغاه في هذه الهفوة لابن رشد الجد؛ لمواصلة التشنيع على الأسرة الرشدية ومحاصرتها، لا سيما وقد اتسع الخرق الآن على الراقع، بانتحال هؤلاء الرُّشديين الفلسفة وعلوم الأوائل على يد أبي الوليد الحفيد، فتكون بذلك الطريق الأقرب لإسقاط أمجاد الأسرة الرشدية، التي ثبت من حيث الواقع التاريخي أنها في منافسة دائمة مع بني ربيع الأشعريين(40)
- كتاب الوحدانية: يرى الأستاذابن شريفة أنه قد يكون رداً على كتاب شرح الحمرانيةلابن رشد، ولم يأت بدليل على ذلك، ولعله راعى في ذلك مناسبة اللفظ للفظ، وقاس على الكتاب الأول الذي هو تحقيق الأدلة في مناسبة كتاب مناهج الأدلة. نحن نرى أنه أقرب أن يكون رداً على ابن رشد في الفصل الذي يبتدئ بقولهفي الكشف: «فإن قيل: فإن كانت هذه هي الطريقة الشرعية في معرفة وجود الخالق سبحانه، فما طريق وحدانيته الشرعية؟»(41)
فقد أتى ابن رشد في هذا الفصل بما هو مخالف للمسطور عند الأشاعرة، بل بما هو مهاجمٌ لهم، مما استدعى رد أبي عامر.
- الرد على من زعم أنَّ العالم لا يقال فيه لا قديم ولا مُحدث: هذه المسألة رد مباشر على ابن رشد، ورددها مراراً، كما أن ابن رشد رافضٌ للتصريح بالنفي أو الإثبات لكثير من الأمور التي لم يأت بها ظاهر الشرع،وأما هذا الأمر تحديداً فقد ورد في الكشففي الفصل الذي وضع له الجابري عنوان: [استعمال لفظ الحدوث والقدم بدعة](42)
- الرد على كتاب البرهان القديم: قد علمنا أن عدة مؤلفات لابن رشد تحمل في عنوانها لفظ البرهان فقد يكون رداً على أحدها.
- تحرير البرهان الجلي في إبطال الفعل الطبيعي: وقد ناقش ابن رشد هذه المسألة في الكشف(43)
- الحكمة البالغة والحجة الدَّامغة في الاعتقاد: لعله كتاب في الاعتقاد وضعه المؤلف على أساس بناء الأدلة فيه بالشكل الذي يستطيع معه تجنب الانتقادات الرشدية على الأشعرية، ولذلك فمراعاة المخالف حاضرة في هذا الكتاب حتى وهو عمل إنشائي.
- النجم الثاقب في استحالة تغيُّر الواجب:وهي مسألة من صميم ترا الصفات بالذات، وهي من المسائل التي كان لابن رشد فيها رأي مخالف للأشاعرة.
فهذا جُهد كبير صرفه هذا المتكلم-الذي علمنا أن له صلةً بالتصوف أيضاً- في معاندة ابن رشد ورصد مؤلفاته وآرائه الفلسفية بالنقض والتبخيس، وتلاه في ذلك آخرون من الأسرةنفسها، منهم ابنه عبد الله بن أبي عامر، الذي كان يدرس المستصفى، وأخذه الناس عنه، وقد أشرنا إلى كون كُتب الغزالي علامة على إحكام منتحلها العلوم النظرية والميل للاتجاه العقلي، وعن ابن أبي عامر هذا يقول صاحب صلة الصلة، وهو أحد تلاميذه:
«كان مشاركاً في علوم، محباً في القراءة، وطيئاً عند المناظرة، متناصفاً سنياً، أشعري النسب والمذهب، مصمِّماً على طريق الأشعري، ملتزماً للمذهب المالكي، من بقايا الناس وجِلَّتهم(44)، ومن آخر طلبة الأندلس المشاركين الجِلة، المصممين على مذاهب أهل السُّنة، المنافرين لمذاهب الفلاسفة المبتدعة وأهل الزيغ»(45)
فأسرة ابن ربيع استمرت في مواجهة الفلسفة، بحكم تسلُّحها بالعلوم النظرية من كلام وأصول ومعارف نظرية أساسها مؤلفات الغزالي، ولا نستطيع أن نتعرَّف على الفلاسفة الذين يُشار إليهم في زمن عبد الله بن أبي عامر الذي عاش إلى سنة 666هـ، غير أنه يبدو أن تأثير ابن رشد لا زال موجوداً، ولا مانع أن يكون الفلاسفة المشار إليهم هم غير ابن رشد، سواء كانواْ من تلاميذه أو من أقرانه أو غيرهم.
المكلاتي (ت 626هـ) والنقد المبطَّن لابن رشد: المدرسة الغزالية المغربية في مواجهة ابن رشد:
إنَّ أشهر فيلسوف عرفه القرن السادس الهجري هو ابن رشد، ولذلك ينصرف بالنسبة إلينا كل رد على الفلاسفة لهذا العصر مباشرة إليه بالدرجة الأولى، لاسيما إذا كان صاحبه يقصد بذلك "الرد على المشَّائين" ولم يلتفت إلى غيرهم من "الرِّواقيين". وهذا بالفعل ما ينطبق على المكلاتي (ت 626هـ) وكتابه لباب العقول، كتاب في الرد على الفلاسفة يتعالى فيه صاحبه أو يتهرب من ذكر عميدهم ، ونقصد أبا الوليد ابن رشد.
في الواقع لم يكن أبو الحجاج مؤلف اللباب بِدعاً في أمر تجاهُلِ اسم ابن رشد فيما كَتب، فقد عزَّ على الباحث -كما هو معلوم- أن يجد اسم ابن رشد حتى عند الرد عليه. حتى إننا نستطيع القول: إن الإصرار على تجاهل اسمه وإخفائه كان تحامُلاً على الرجل أو دفاعاً عنه. وإذا كان أمر التحامل وجيهاً وبديهياً لبادئ الرأي، نظراً لكون الخصم ساعيا دائماً إلى طمس مكارم الغريم ومآثره، فقد نزعم أنَّ مع ابن رشد خاصة قد يكون تجاهل الاسم لأسباب هي في الواقع دفاع عنه وعن مجده التليد، وإن شئت عن مجد الأسرة الرشدية أجمع؛ فقد يكون الاحترام الذي نله ابن رشد بكونهالفقيه القاضي–وكذاك أبوه وجدُّه- جعل الكثيرين يسعون إلى التغطية عن نكبته بما كان سببا فيها وهو الفلسفة، فلا يُذكر إلا فقيهاً-وهو في الفقه مذكور- في كل مقام.
غياب ابن رشد لا أثر له إذن في كونه أول المعنيين في الرد على الفلاسفة الذين كان إمامهم، وإن كنا لا ندري في أي الصنفين يمكن أن نضع المكلاتي عندما أعرض عن ذكر ابن رشد بالاسم. غير أن الذي لا شك فيه أن أبا الوليد أول خصوم المكلاتي المعنيين بالنقد في اللباب، ولابد من الإشارة إلى أنَّ هذه الخصومة لا تعني بتاتاً انعدام الثقة والاحترام اللازمين، بين الرجلين، دل على ذلك نقل المكلاتي من كتب ابن رشد نفسه.
مع كل الاجتهادات والانفتاح على الفلسفة نفسها، لا يشك الناظر في كتاب اللبابأنه أمام كتاب أشعري ومؤلِّف أشعري، مهما كانت اجتهادات صاحبه الكلامية ومناوراته الفلسفية،ومن ثمَّة لا جرم في اعتبار اللباب رداً أشعريا على الفلاسفة المشَّائيين كما وُصف في المتن. ونسطيع أن نقول-فيما يخص واقع الغرب الإسلامي-:لماذا لا يكون بشكل أخص رداً على الرُّشديين؟ وهو أنسب لأننا نعلم أن في هذا التاريخ المعاصر لابن رشد كان أصحابه وغيرهم، ثم كان تلاميذه وعلى رأسهم ابن طملوس(ت 620هـ).
في ديباجة اللباب نقرأ:
«أما بعد فإنَّك ذكرت لي أيها الحَبر الأوحد أن المذاهب الفلسفية في قطركم مفرطة الشياع، وهي مشهورة البيع والابتياع، والاجتماع على التذاكر فيها والتعظيم لمنتحلها منكشف القناع، وسألتني أن أضع كتاباً في الرد على الفلاسفة...وقصدنا به الرد على أرسطاطاليس ومن تبعه من فلاسفة المشَّائين»(46)
لسنا نريد المبالغة فنقول: إنَّ المقصود بمن تبعه من فلاسفة المشَّائين هو ابن رشد، ولكن نذهب مُطمئنِّين إلى أنَّ ابن رشد داخلٌ ولا بد في عموم المشَّائين، ممن تبعواْ أرسطو.
وإذ نستحضر الُّلباب بما هو رد أشعري، لا ننسى أن صاحب الكتاب ذو صناعة فلسفية، استعملها في مناقضاته للفلسفة، مما يُحيل إلى النَّموذج الغزالي في تهافت الفلاسفة، وهو أمر واقع من خلال النزعة الغزالية عند المكلاتي، ومن خلال النُّقول الغزيرة من كتاب أبي حامد(47)، وكأنه استعاد الكَرَّة لهذا الأخير الغائب حينها، والاقتصاص له من تهافت التهافت. كِلا الاستعمالَين للتَّهافُتين وغيرهما من كُتب ابن رشد والغزالي، تصدَّى لتحليل صنيع المكلاتي فيهما الأستاذ أحمد العلمي حمدان في أبحاثه المنشورة وغير المنشورة(48).
غير أننا نؤكد أن استرجاع المكلاتي للحظة الغزالية ليس انصرافاً عن الكلام إلى الفلسفة، بقدر ما هو مجاراة متكلمٍ للفلاسفة وتكليمهم بمقتضى اصطلاحهم، تماماً كما فعل أبو حامد. إنَّ المكلاتي من هذه الزاوية أشعري بالقَدْر الذي يمكن به عدّ الغزالي أشعرياًكذلك، فهو النُّموذج المغربي من الغزالي المتكلم الأشعري المتجاسر على الفلسفة، والتجاسر هنا ليس غضاً لا من أبي حامد ولا من المكلاتي، ولكنه إشارة منا إلى ما نفهمه من كون كل من الغزالي و المكلاتي كان انشغالهم بالفلسفة بالعرض لا بالذات. ولا نبعُد إذا رأينا الغزالي نفسه رأى يوماً الاشتغال بالفلسفة من باب الخوض فيما لا يعنيه.
وأياً كان الأمر فإنما القصد ترجيح كون المكلاتي أشعرياً من حيث المبدأ، ومن حيث السياق، وبنية الكتاب العامة. أمَّا من الناحية التاريخية وما يقتضيه التلقي عن الأشياخ فإنَّ المكلاتي ينتمي قطعاً إلى مدرسة أشعرية معروفة المعالم والأعلام، ديدنها الإرشاد لأبي المعالي درساً وتدريساً، ثم كتاب البرهانية التي تُعد النسخة المغربية من الإرشاد، التي صار صاحبها أبو عمرو السلالجي شيخ مدرسة فاسية يُعد المكلاتي أحد خرِّيجيها الأبرزين، يتصل سنده الكلامي بالسلالجي عن طريق أبي عبد الله الكتاني الفندلاوي (ت 595هـ)، وأبي الحجاج ابن نموي (ت 614هـ)(49).
ابن بزيزة و"ابن رشد المتأخر": المدرسة الأشعرية الرازية المغربية في مواجهة الفلسفة:
رغم قلة الكتابات عن ابن رشد، والرُّدود الواضحة على فلسفته وكتابه الأكثر فضولاً في الفضاء المغربي "الكشف"؛ فإنَّ الأمر لا يدل على جهل الأجيال المتلاحقة بابن رشد وفلسفته ونقده للأشعرية ذلك النقد المدوِّي؛ لأننا نعلم يقيناً أن اسم ابن رشد وصفاتهوأعماله، كل ذلك كان معلوماً عند كل من اشتغل بالعلم، فلابد أن يعرف أحوال وأعمال الفقيه القاضي ابن رشد الحفيد. ولا نستطيع الآن الجزم بأسباب إعراضهم عن الرد على ابن رشد بالشكل الذي يكون كافيا.
بالنسبة لموضوع الرُّشدية وحضورها وغيابها ونقدها فيما بعد ابن رُشد، كلُّ شيء ينبغي التماسه في القرن السابع بالأساس قبل أي عصر آخر، بوصفه تاريخياً الزمن المناسب لوجود زُمرة من تلاميذ ابن رشد، الذي توفي في نهاية القرن السادس. فالبحث ههنا هو الذي يمكن أن يؤكد مدى حِفاظ تلاميذ ابن رُشد على تراث أُستاذهم بالدرس والتأليف والشرح؛ لكننا لا زلنا ننتظر أكثر من الذي يظهر بين الفينة والأخرى من الشذرات والإشارات؛ لتجلية الصورة، وتفسير الوضع بما يكفي.
وأياً كان الأمر فإن أحد أعلام الأشاعرة للقرن الموالي لابن رشد-ابن بزيزة التونسي- انصرف لمجابهة الفلاسفة بعد المكلاتي، وتوجه بنقد مسمَّى لابن رشد الذي الذي سماه المتأخر، وذكر أيضاً مناهجه.
يُعد ابن بزيزة أحد أعلام الأشعريَّة الكبار الذين كان لهم الباع الطولى في العقليات والاطلاع الفلسفي، وذلك بفضل التأثير الذي مارسه فخر الدين الرازي على المغرب، ووصول كُتبه إلى الغرب الإسلامي آنذاك. علمنا ذلك يقينا من خلال النصوص الرازية التي ظهرت في كتاب الإسعاد، الذي يرجع تاريخ تأليفه إلى سنة 644 هـ.
يقول ابن بزيزة في معرض حديثه عن التحيُّز والجسمية والجهة:
«ثم يجب بعد ذلك التنبيه على مغلَّطة: ذهب القلانيسي من مشايخ الأشعرية إلى إطلاق القول بأن الله تعالى في مكان دون مكان، وأنَّه في السماء، تمسُّكاً بظاهر ما ورد في الشرع، ومذهب المحدِّثين؛ أنَّه في كل مكان، ذهب إليه البخاري وغيره من المتقدمين والمتأخرين، ومنع الأشعري من هذا الإطلاق. والحق أنَّه إن أُريد به النسبة العلمية فإطلاقه واجب، وإن أُريد به غير ذلك من لوازم الأجسام فهو مستحيل. وقد وهم في هذه المسألة ابن رشد المتأخر، وزعم أنَّ الواجب ألا يصرَّح فيها بنفي ولا إثبات. وهذا الذي الذي قاله خطأ؛لأنَّ الشك في العقائد كُفر محض، والدلائل القطعية قاطعة، والظواهر الشرعيَّة مُتأوَّلة. وله في كتابه الصغير الذي سمَّاهمناهج الأدلة مواضع نبَّهنا عليها، وفيها غلط فاحش»(50)
النص الذي يشير إليه هو الوارد عند ابن رشد في قوله: فإنه قيل: فما تقول في الجسمية؟ هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق سبحانه أم هي من المسكوت عنها؟... والواجب عندي في هذه الصفة أن يُجرى فيها على منهاج الشرع، فلا يُصرَّح فيها بنفي ولا إثبات»(51)
ههنا مسألة ينبغي التنبيه إليها، وهي أن بعض الباحثين وقف على هذه العبارة عند ابن بزيزة-في نصها أو بالواسطة- ففهم أنَّ الإشارة من ابن بزيزة إلى كتاب يرُد به على ابن رشد؛ فتبعه على ذلك آخرون، حتى شاع الاعتقاد أنَّ لابن بزيزة كتاباً في الرد على ابن رُشد(52). غير أننا لم نفهم ذلك من هذا الذي نقرؤه عند صاحب الإسعاد؛ فهو يُشير إلى أنّ ابن رُشد له مواضع غير مرضية في مناهجه، نبَّه عليها؛ أي بشكل متفرِّق في الإسعاد أو في الإسعاد وغيره، والإشارة في كلامه إلى كتاب بعينه في الرد على ابن رشدبعيدة في اعتقادنا، وتبقى المواضع التي أشار إليها ابن بزيزةغير معروفة حتى الآن تحديداً، سنتتبعها في دراسة خاصة؛ فإنَّ كتاب الإسعاد وحده سِفْر ضخم.
ابن خليل السَّكوني وفساد كلام ابن رشد في الاعتقاد:
يُعد محمد بن خليل السكوني (ت 717هـ) أحد أهم أعلام الأشاعرة المُتأخرين، الذين جمعواْ بين التعصب للمذهب والتضلع بمبائه، مع قوة العارضة ورسوخ الملكة في العقليات؛ حتى تجرَّأ على انتقاد طائفة من الذين صار لهم حضور قوي ومشروع في الغرب الإسلامي؛ كالغزالي والرازي، وغيرهما.
ليس في ذلك ما يدعو للبحث والنظر في حيثيات الرُّسوخ والانحياز الشَّديد للمذهب الأشعري، إذا علمنا أنَّ بيت ابن خليل قديم من حيث تلادة الانتساب العلمي والدنيوي في إشبيلية، فقد اشتهر أبناء هذا البيت في بالتبريز في علم الكلام خاصة .
فأما ابن خليل السكوني هذا -موضوع البحث- فهو صاحب مؤلفات دالة على تميزه، منها كتاب التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في كتابه العزيز، وهو كتاب كبير الحجم كبير الفائدة. قبل الشروع في التمييز وضع السكوني مقدمة في أصول الدين، وبيان فساد أصول المذهب الاعتزالي في الاعتقاد، وهو الكتاب المسمى" مختصر في أصول الدين مجموعٌ من قطعيات كلام المتقدمين من أهل الحق والمتأخرين" (53) ولعل عنايته بالتدريس دفعته لتأليف كتاب عيون المناظرات(54)؛ لتدريب الطلبة على أصول النظر والحجاج عن العقائد، كما دفعه الخوف على عقائد العوام إلى وضع كتابلحن العوام فيما يتعلق بعلم الكلام(55)ولعل من المفيد أن نشير هنا إلى أنَّ الزمان كان زمان فتن واضطراب، خاصة في جزيرة الأندلس التي كانت تعيش آخر أيامها في ظل عقيدة التوحيد، وكان الزمان عصر الهجرة عن الضفة الأخرى من المتوسط، كما هو شأن أُسرة السَّكوني نفسه التي نزلت تونس قادمة من إشبيلية.
كتاب لحن العوام المذكور أخيراً هو متن النص الذي انتقد فيه السكوني فيلسوف الغرب الإسلامي الأول، وحط من قدره، على الأقل في باب الاعتقاد. ويا ويل من انتقده السكوني في هذا الكتاب؛ فهو -بحسب عنوانه- ردُّ أو بالأحرى تنبيه على اللحن في أمور الكلام الواردة على ألسنة العوام؛ فحَشَر مع العوام-في آخر الكتاب- أسماء كبيرة منها الغزالي وابن رشد.
يقول السكوني:
»وليُحترَز أيضاً من كلام ابن رشد الحفيد؛ لأنَّ كلامه في المعتقد فاسد، وجدُّه من علماء أهل السُّنة، وهو صاحب البيان والتحصيل والمقدِّمات، تكلم في صدر المقدِّمات كلاماً حسناً دل على إمامته وفضله»(56)
أوَّل ما يُشير إليه هذا الحطُّ الواضح من ابن رشد في باب الاعتقاد-والتَّشديد في ذلك- هو التدليل على استمرار الخطر الرشدي على المشروع الأشعري، رغم انتشارية هذا الأخير الكبيرة؛ بل وترسيمه التام لا زال قائماً؛ فإنَّ تأكيد صاحب اللحن على فساد كلام ابن رشد في المعتقد يدل–أولاً-على المعرفة بما كتبه أبو الوليد في الموضوع، كما المخاطب الذي يبدو أنَّ السكوني كان منشغلاً بنُصحه وتحذريه. ثانياً: في الواقع لا نحتاج في كل مرة إلى التدليل على أنَّ المناهج كان معروفاً مطلوباً متداولاً في عصور لاحقة لوفاة ابن رشد، غير أنَّ هذه العبارة الواردة عند السكوني هي أحد هذه الأدلة.
لقد حرص السَّكوني على توجيه النقد إلى ابن رشد في موضع محدَّد، هو باب الاعتقاد، مع الإشارة إلى أنَّ الجد من أهل السنة، ودلل على ذلك بما سطَّره في صدر المقدمات، مما يعني أنَّ الرجل كان رصَّاداً للمواضع والأشخاص والنقاط التي تُشوِّش على نخوة المذهب الأشعري في القطر الغربي، غير معني بغير ذلك، على الأقل في لحن العوام.
ننوه أيضاً إلى أننا لم تَسْتقصِ مؤلفات السكوني الكلامية؛لنعلم إن كانت مَظِنَّة لوجود نصوص أخرى لنقد ابن رشد؛ لأنه كان رجل تحدٍّ في وجه خصوم المذهب الأشعري، كما هو واضح في وجه المعتزلة في التمييز، وإنما لم يسعه المقام في لحن العوام لتفصيل رده -على ابن رشد وغيره- بقدر ما كان مهتماً بالتحذير والتنبيه.
ابن خلصون والانتصار لابن رشد ولو بعد حين: حول إشارة لكتاب المناهج في سياق صوفي:
ومما يدل على هذا الحضور لكتاب المناهج –خاصة في هذا التاريخ المشار إليه آنفاً، وهو نهاية القرن السابع وبداية الثامن، زمن ابن بزيزة والسكوني، ولكن ليس على سبيل النقد-ما ورد في رسالة محمد بن يوسف بن خلصون )كان حياً سنة 701هـ(، الذي -إلى جانب كونه من أهل التصوف- وألف في الطب، يبدو أنه كان منشغلاً بالفلسفة، ومما يثير الاستغرب أنَّه -مع إغراقه في طريق القوم- بدا معجباً بطريقة ابن رشد على حساب الغزالي خاصة، يقول- بعد أن أشبع مؤلفات الغزالي نقداً-:
»...وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد-رحمه الله- فإنّه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلّة المتكلّمين؛ فإنه لما تكلّم على طرق الأشعريّة والمعتزلة والفلاسفة والصّوفية والحشويّة، وما أحدثه المتكلّمون من الضّرر في الشّريعة بتواليفهم، انعطف فقال: وأما أبو حامد فإنه طمّ الوادي على القرى، ولم يلتزم طريقة في كتبه، فنراه مع الأشعرية أشعريّا، ومع المعتزلة معتزليّا، ومع الفلاسفة فيلسوفا، ومع الصّوفية صوفيّا»(57).
لن نتسرع إلى الخلوص إلى أن ابن خلصون ليس أشعرياً، ولا أنه كان يرى رأي ابن رشد نفسه، ولكن الأكيد أنه كان مُعجباً بالفيلسوف على حساب المتكلم الصوفي أبي حامد، وأنه مُعتمد في المؤاخذات التي سردها عن أبي حامد كما تجده هناك في الرسالة الطويلة التي نقل بعضها ابن الخطيب في إحاطته. غير أنه مع ذلك كان منتحلاً لعلوم الفلسفة، ما يجعله يلتقي بابن رشد في مؤلفاته، ، يقول عنه ابن الخطيب:»كان من جِلَّة المشيخة و أعلام الحكمة، فاضلاً منقطع القرين في المعرفة بالعلوم العقلية، متبحراً في الإلهيات ، إماماً في طريقة الصُّوفية»(58)
كما أن لدراسته الطب واحترافه إياه دوراً في اطلاعه على مؤلفات ابن رشد الطبية، ولابن خلصون في الطب تآليف منها:كتاب تدبير الصحة والأغذية(59)، ولم يذكره له صاحب الإحاطة لكن توجد منه نسختان خطيتان في الخزانة الملكية بالرباط، الأولى برقم (12250ز) و الثانية برقم (734) ، وكلتاهما ضمن مجموع.
وبالفعل أفاد ابن خلصون من أبي الوليد في مؤلفاته الطبية، كما نقرؤه عند المرحوم محمد مفتاح(60).
وأياً كان الأمر فليس من الطبيعي أن يختفي مجهود ابن رشد الفلسفي وغير الفلسفي لمجرد أنه واجه معارضة أحياناً من رجال السياسة وأحياناً أخرى من رجال المعرفة المنافسين له، وإنما كانت الساحة مفتوحة للجميع، والفكر يواجه الفكر، مع ملاحظة أن الفكر السائد حينها كان يجري بما لا يشتهي ابن رشد أحياناً، وهو الذي دعانا إلى الحديث عن أفول الرشدية، بسبب الفكر المنافس، وهو أفول في معنى التحول والانسياب، والتشغيل وإعادة التشكل، فها هو ذا كتاب المناهج لا زال يُذكر، وإن كان السياق ليس السياق نفسه، والاستعمال ليس الاستعمالنفسه، فقد احتاج أبو القاسم ابن خلصون-وهو من كبار الصوفية على عهد الدولة النصرية- أعمال ابن رُشد في تقييم التصوف، وما يُدرينا أن لو اطلعنا على ما كتبه ابن خلصون كاملاً لتبين استعمال الفكر الرشدي في نقد الأشعرية أيضاً، ويظهر من كتابه وصف السلوك إلى ملك الملوك-الذي عارض به معراجابن عربي (ت 638هـ)- أنه قد يكون فعل ذلك لا سيما أن ابن عربي نفسه ممن انتقد الأشاعرة، ورفض التمذهب بمذهبهم، وهي نقطة تجمعه بابن رشد، إن لم نقل: إن ابن خلصون أيضاً يدور في الفلكنفسه.
خلاصة:
وبعدُ، فإن ما أوردناه من نصوص وإشارات لا تعدو أن تكون غيضاً من فيض، في بحر التراث الكلامي في الرد على الفلاسفة المشائين وزعيمهم ابن رشد الحفيد، وإلا فإننا نزعم أنَّ الأمر يتعلق بباب من البحث بكر، يبغي الرصد والقصد والتتبع؛ فالنصوص الكلامية المغربية لا زال جُلها دفيناً، ينتظر من ينشره، حيث لا زال الباحث اليوم في التراث المخطوط عاجزاً عن قراءة النصوص في أصولها، سيما إذا كانت بعض تلك النصوص تُعد في الكتاب الواحد بمئات الورقات، أو يُحال بينه وبينها بصعوبة الولوج إليها، أو لكونها في خزائن بعيدة، شرقية أو غربية.
من جهة أُخرى-وكما أشرنا إلى ذلك في البداية- فإن غاية هذا البحث أن نُثبت على جهة التمثيل أن هناك أسباباً أضعفت الفلسفة الرشدية، والمشروع الفكري الرشدي برمته، ليست السياسة وحدها كفيلة في تفسيرها، ومن بين هذه الأسباب المقارعة الفكرية لأرباب الأشعريةأسياد الأرض المغربية، في وجه الفلسفة عموماً وفلسفة ابن رشد خصوصاً.
ودعنا نستعجل ما نستعد لإثباته في أبحاثٍ قادمة؛ فإلى جانب قيام أشاعرة عصر ابن رشد بنقدٍ وحصارٍ واضحين له ولفكره، فإن تتمة الحديث كانت بعد أن استقوى الكلام المغربي بما استقوى به نظيره المشرقي، وهو الفلسفة السينوية، وذلك حينما دخلت المدرسة المغربية مرحلتها الرازية.
لقد ضُرب ابن رشد باليد ذاتها التي كان يحذر؛ ضُرب بيد ابن سينا (ت 427هـ) والغزالي والأشاعرة. وكم هي شديدة تلك اليد، التي ضربت ضربتها بيد واحدة، وما أشدها حين تعاضدت ونسيت خلافاتها في زمن صار فيه الفكر المغربي بعد ابن رشد هو عين هذه الأضرب من الفكر. ولعل الزمن رجع يُخاطب ابن رشد ويقول: كما تدين تُدان. غير أننا مع ذلك نرى أن لابن رُشد وفكره وأنصاره حظوة وحضوراً بين ثنايا الأفكار المغربية الفقهية والكلامية والصوفية والفلسفية أيضاً، وهي دالة على أنَّ للرجل -بدليل صمود تلك الأفكار- من الحسنات-لدى هؤلاء- ما يُذكر على كثرة خصوم ابن رشد.
------------------------------------------------------------------------------
المراجع والمصادر:
(1)ابن رشد، الضروري في أصول الفقه، تقديم وتحقيق جمال الدين العلوي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 1994، ص 34.
(2)نفسه ص 42.
(3)انظر: ص 45.
(4)انظر: ص 45.
(5)يُنظر: العلوي جمال الدين، المتن الرشدي، ص 66-67.
(6)ابن رشد، محمد بن أحمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تنقيح وتصحيح خالد العطار، إشراف مكتب البحوث والدراسات دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1415 هـ - 1995 م، ج 1، ص 140.
(7)القاضي عياض، الغُنية: فهرست شيوخ القاضي عياض، تحقيق ماهر زهير جرار، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 1402-1982، ص 226-227.
(8)القاضي عياض، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - المغرب، الطبعة الثانية، الرباط 1983- 1403،ج 5، ص 24 – 30.
(9)يقول السبكي: «وكان مصمما على مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، جليلها وحقيرها، كبيرها وصغيرها، لا يتعداها، ويبدّع من خالفه، ولو في النزر اليسير، والشيء الحقير. ثم هو مع ذلك مالكي المذهب، شديد الميل إلى مذهبه، كثير المناضلة عنه، وهذان الإمامان-أعني إمام الحرمين وتلميذه الغزالي- وصلا -من التحقيق وسعة الدائرة في العلم- إلى المبلغ الذي يعرف كل منصف بأنه ما انتهى إليه أحدٌ بعدهما، وربما خالفا أبا الحسن في مسائل من علم الكلام، والقوم أعني الأشاعرة، لاسيما المغاربة منهم يستصعبون هذا الصنع، ولا يرون مخالفة أبي الحسن في نقير ولا قطمير. السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق د. محمود محمد الطناحي د. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1413هـ، ج6، ص244. ونقرأ– أيضاً- في فيصل التفرقة، ما يدل على موقف الغزالي المؤكد على عدم التزام المذهب الأشعري، والرد على الذين يمنعون من الخروج على بعض جزئياته، فيما يشير إلى الرد على أمثال المازري: إني رأيتك أيه الأخ المشفق والصديق المتعصب موغر الصدر منقسم الفكر، لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين والمشايخ المتكلمين، وأن العدول عن مذهب الأشعري ولو في قيد شبر كفر ومباينته ولو في نزر ضلالٌ وخُسر. يُنظر ذلك في: الغزالي، محمد بن محمد، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، تحقيق ودراسة سيميائية حكة مصطفى، ترجمة الدراسة السيميائية إدريس الناقوري، دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1983، ص. 1.
-
نقصد بذلك فتوى ابن رشد الجد في موضوع التحذير من إقحام العوام في علم الكلام، المتضمَّنة في فتاويه، والتي استخدمها الأستاذ الجابري في التدليل على أن موقف ابن رشد الحفيد من علم الكلام قد يكون تأثراً بموقف الجد. يُنظر ابن رشد الجد، محمد بن أحمد، فتاوي ابن رشد، تحقيق المختار التليلي، دار الغرب الإسلامي، ج 2، ص. 966-972. وينظر أيضاً: ابن رشد محمد بن أحمد، الكشف عن مناهج الأدلة من عقائد الملة، مع مدخل ومقدمة تحليلية وشروح للمشرف على المشروع الدكتور محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت 2007، ص 45.
-
ابن رشد، الضروري في أصول الفقه، ص 42.
-
انظر: ابن عبد الملك المراكشي، محمد بن محمد، الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة، تحقيق بشار عواد، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، تونس 2012، ج 4، ص 23 يُنظر استشكال العلوي لهذا الأمر في: العلوي جمال الدين، المتن الرشدي، ص 37.
-
انظر: ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، تحقيق بشار عواد، ج 4، ص 23. وقد وقع أمر غريب عند الأستاذ بنشريفة، وهو سهو منه ولاشك وسبق قلم لا غير، حيث عدّ أن الموجود في الذيل والتكملة: هو شرح العقيدة الحمدانية، هكذا محرفاً، بينما الموجود بالراء، والمحرَّف هو الوقع في المرقبة، ثم ذهب إلى أن الموجود في المرقبة العليا شرح عقيدة المهدي، بينما توجد هذه الأخيرة في فهرس الإسكوريال، لا في المرقية. يُنظر: ابنشريفة محمد، ظهور تأليفين لابن رشد الحفيد، الأكاديمية، مجلة أكاديمية المملكة، عدد 19، سنة 2002، ص 206.
-
البناهي، علي بن عبد الله،المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، دار الآفاق الجديدة، الطبعة الخامسة، بيروت 1403-1983، ص 111.
-
ينظر استغراب المرحوم جمال الدين العلوي مما ورد في الذيل والتكملة والمرقبة العليا في: العلوي جمال الدين، المتن الرشدي، مدخل لقراءة جديدة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، الدار البيضاء 1986، ص 30.
-
السوسي المختار، خلال جزولة، (دون تاريخ)، ص 114- 116.
-
يُنظر: بن شريفة محمد، ابن رشد الحفيد سيرة وثائقية، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، الدار البيضاء 1419-1999، ص. ص. 47- 48. وأيضاً: بن شريفة محمد، ظهور تأليفين لابن رشد الحفيد، الأكاديمية، مجلة أكاديمية المملكة، عدد 19، سنة 2002، ص 206. غير أنَّنا نعود فنقول إنَّنا لا نستطيع الجزم بوجود فعلي مادي لشرح الحمرانية، في الوقت الحالي، مادام الأستاذ بن شريفة إنما أورد نصاً هو عينه الذي أورده قبله المختار السوسي، من بدايته إلى نهايته، ولا زيادة ولا نقل من موضع آخر، وأن الأستاذ بنشريفة تارة يحيل نفس النص (المستشهد به) على مخطوط خاص وتارة على خلال جزولة. ولعل أموراً معينة حالت دون إطلاق يده على المخطوط واستعماله علمياً.
-
يُنظر: بنشريفة محمد، ظهور تأليفين لابن رشد الحفيد، الأكاديمية، مجلة أكاديمية المملكة، عدد 19، سنة 2002، ص 210.
-
يُنظر: ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، دار الغرب، ج 4، ص 24.
-
برنامج أبي الوليد بن رشد، مخطوط الإسكوريال رقم 884، ورقة 83 و.
-
ابن رشد، محمد بن أحمد، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، قدم له وعلق عليه ألبير نصري نادر، دار المشرق، الطبعة الثامنة، بيروت 2000، ص. 58.
-
ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، ج 4، ص 744.
-
جواد إيزكي، وجميل آفيكار، فهرسة مخطوطات كوبريلي، منظمة المؤتمر الإسلامي – مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستنبول، الجزء الثاني، (فاضل أحمد باشا)، ص 311.
-
يُنظر ذلك في: [Geofroye Marc, Ibn Rušd et la théologie almohadiste. Une version inconnue du Kitāb al-Kašf 'an manāhiğ al-'adilla dans deux manuscrits d'Istanbul, Medioevo 26 (2001). p. 328-329.]
-
يُنظر ذلك أيضاًفي: [Geofroye Marc, Ibn Rušd et la théologie almohadiste. p. 327.]
-
ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، ص 145
-
ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، مخطوط كوبريلي، مجموعة أحمد فاضل باشا،إستنبول، (ضمن مجموع)، ص 147-149.
-
ابن الأبار، محمد بن عبد الله،التكملة لكتاب الصلة، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، تونس2011، ج 3، ص 384.
-
ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، ج 3، ص 170.
-
ابن الأبار، محمد بن عبد الله،التكملة لكتاب الصلة، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، تونس2011، ج 3، ص 188.
-
ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، ج 4، ص 26.
-
راجع ترجمته في: ابن الأبار،التكملة لكتاب الصلة،ج 4، ص 169-170.
-
ابن الخطيب، محمد بن عبد الله،الإحاطة في أخبار غرناطة، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، بيروت1424 هـ،ج 4، ص 320.
-
استأثر إمام الحرمين بهذا اللقب، منذ ظهور مؤلفاته وبروزه في المذهب الأشعري، حتى انتزعها منه-فيما بعد- فخر الدين الرازي الذي شاع له هذا الاسم إلى الزمن المتأخر.
-
ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، ج. 4، ص 30-31، النباهي، المرقبة العليا، ص 111.
-
راجع ترجمته في: ابن الأبار،التكملة لكتاب الصلة،ج 4، ص 169.
-
راجع سرد تلك المؤلفات كاملة في، الرعيني، علي بن محمد، برنامج شيوخ الرعيني، حقَّقه إبراهيم شبوح، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مطبوعات إحياء التراث القديم، دمشق 1381- 1962، ص 73.
-
ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، ج 4، ص 211.
-
ابن رشد، محمد بن أحمد (الجد)، المقدمات الممهدات، تحقيق الدكتور محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت 1408 -1988، ج 1، ص 21.
-
راجع مزيداً في الموضوع في: بن شريفة، ابن رشد الحفيد سيرة وثائقية، ص 179-183.
-
ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة،ص 123- 124.
-
ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، ص 171-173.
-
يُنظر: ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، ص 166-171.
-
يقصد أعاليها.
-
ابن الزبير، صلة الصلة، ضمن، كتاب الصلة لابن بشكوال ومعه كتاب صلة الصلة، تحقيق شريف أبو العلا العدوي، مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الأولى، القاهرة 1429- 2008، المجلد الثالث، ص 107.
-
المكلاتي، يوسف بن محمد،لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، تقديم وتحقيق وتعليق أحمد علمي حمدان، جامعة سيدي محمد بن عبد الله – مطبعة أنفو برانت ، فاس 2012، ص 71.
-
راجع: المكلاتي، يوسف بن محمد، لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، تقديم وتحقيق وتعليق د. أحمد العلمي حمدان، القسم الثاني، الفهارس التحليلية، وضعها بإشراف المحقق ومشاركته: محمد مساعد، محمد لشقر، حاتم أمزيل، مطبعة سيباما، ص 211-236.
-
يُنظر فضلاً عن المصادر أعلاه: العلمي حمدان أحمد، استئناف وتجاوز النقد المشرقي للفلسفة: الكتاب الأول: مقدمات مواضع ونماذج، خاصة الجزء الثاني. (أطروحة مرقونة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز – فاس، إشراف محمد ألوزاد 2001-2002).
-
انظر: العلمي حمدان أحمد، دور فاس في التنظير لعقيدة المغاربة، المدرسة الفاسية في الكلام، ضمن: فاس في تاريخ المغرب، القسم الأول، ندوة لجنة التراث والقيم الروحية والفكرية التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، "سلسة ندوات"، فاس 18-20 ديسمبر 2008، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 2009، ص 167-168.
-
ابن بزيزة عبد العزيز، الإسعاد بشرح الإرشاد، مخطوط خزانة القرويينن، ص 136، س 7-11.
-
ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، ص 138-139.
-
راجع: محفوظ محمد،معجم المؤلفين التونسيين، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، بيروت 1984، ص 96.
-
يوجد مخطوطاً في الخزانة الملكية بالرباط رقم 8780.وأيضا 2595 ضمن مجموع. أنظر: خالد زهري، وعبد المجيد بوكاري، مراجعة وتقديم أحمد شوقي بنبين، فهرس الكتب المخطوطة في العقيدة الأشعرية، منشورات الخزانة الحسنية بالرباط، دار أبي رقارق للطباعة والنشر، الرباط 2011- 1432، ج2، ص 885- 887.
-
انظر: السَّكوني عمر بن محمد، عيون المناظرات، تحقيق سعد غراب، مع مقدمة وفهارس، منشورات الجامعة التونسية، تونس 1976.
-
أول من اعتنى بالكتاب سعد غراب، في رسالته لنيل الدبلوم بباريس، ثم ظهرت نشرات أخرى. انظر: السكوني عمر بن محمد، لحن العوام فيما يتعلق بعلم الكلام، تحقيق وتقديم سعد غراب، إشراف روجي أرنالديز(Roger Arnaldez)، (دبلوم الدراسات العليا، ليون 1966). ثم نُشر بتونس: يراجع، السكوني عمر بن محمد، لحن العوام فيما يتعلق بعلم الكلام، تحقيق وتقديم سعد غراب، حوليات الجامعة التونسية، العدد 12، سنة 1975 ص 110-255.
-
السكوني عمر بن محمد، لحن العوام فيما يتعلق بعلم الكلام، تحقيق وتقديم سعد غراب، حوليات الجامعة التونسية، العدد 12، سنة 1975ص 212-213.
-
ابن الخطيب، محمد بن عبد الله، الإحاطة في أخبار غرناطة، ،ج3، ص 201.
-
نفسه، ص 194.
-
طُبع كتاب الأغذية سنة 1996، بدمشق، ضمن منشورات المعهد الفرنسي للدراسات العربية، بتحقيق وترجمة سوزان جيغاندي.
-
راجع: مفتاح محمد، "ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي، ما تبقى من ابن رشد والرشدية في القرن الثامن"، ضمن: ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي، تقديم محمد المصباحي، سلسلة ندوات، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، الطبعة الثانية، الرباط 2013،ص 97-98.
