مسعود ضاهر
عبر مختلف الحقب التاريخية تبلورت مجموعة من القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية والإنسانية، التي شكلت مَعْلما بارزا في حياة القادة وعامة الناس، وكانت تدعو إلى التسامح والمحبة والعدالة والرحمة والرأفة والإصلاح وإغاثة الملهوف واحترام المسنين وحماية المرأة والعناية بالأولاد، ورفض الظلم والتحذير من مغبته، وتنبيه الحاكم إلى أن السلطة لا تدوم لأحد، على قاعدة "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك". وانتشرت مقولات وحِكَمٌ حول الغاية من دراسة التاريخ بوصفه الحاضن للحضارات الإنسانية التي هي نتاج جميع شعوب العالم.
وتُعدُّ كتابة تاريخ الحضارات مسؤولية علمية وأخلاقية في آن واحد؛ فهي تتجاوز أخبار المعارك العسكرية وسرد أحداث الماضي ومعها دور الشخصيات المميزة، لتبرز القيم الأخلاقية والإنسانية التي كانت سائدة في مختلف حقب التاريخ، ودور القادة الكبار الذين احتضنوا علماء وأدباء وفنانيين، وتركوا شرائع وقوانين ذات أبعاد إنسانية وروائع أدبية وفنية خالدة، فأشاد مؤرخو الحضارات بحكمة العظماء من القادة الذين أنقذوا جماعات كبيرة من الموت، وحفظوا الكثير من المخطوطات العلمية والأدبية، وحافظواعلى المعابد والآثار القديمة بوصفها مِلكاً للإنسانية جمعاء. بالمقابل، ندد المؤرخون بالحكام الظالمين الذين أحرقوا المكتبات، أو دمروا المدن، أو أتلفوا المخطوطات، أو قتلوا العلماء. هكذا بات تاريخ الحضارات سجلا حاضنا للقيم الإنسانية والأخلاقية، التي شكلت جامعا مشتركا بين الشعوب، على اختلاف أعراقهم، وأديانهم،ومعتقداتهم.
يتنقل تاريخ الحضارات من حضارة لأخرى بطريقة تسمح بطرح استفهام حول علاقات الحضارات بالزمان والمكان، فيتناول مؤرخ الحضارات أزمنة ختلفة وأماكن عدة بممارسته الذهاب والإياب بين الحاضر والماضي. وقد وصف الفيلسوف هوبز المؤرخ اليوناني توسيديديس المتوفى قرابة عام 400 قبل الميلاد بأنه " أعظم مؤرخ على مر الزمن". وتحدث توسيديديس بنفسه عن طريقته في كتابة التاريخ بقوله: "لعل كتابي في التاريخ يبدو صعب القراءة، لافتقاره إلى عنصر الرومانسية المشوقة، وحسبي أن يجد في كلماتي فائدة أولئك الذين يسعون إلى استيعاب أحداث الماضي، والتي سوف تتكرر في وقت من الأوقات في المستقبل، ما دامت الطبيعة البشرية على ما هي عليه. إن كتابي هذا ليس بالكتاب الذي يلائم قراء اليوم؛ إذ قصدت به أن يدوم إلى الأبد... لذلك لم يكن التاريخ آسرا في حد ذاته فحسب؛ وإنما لا بد أن يكون ذا فائدة لينتفع به من يرى في التجربة عبرة". علما أنه ركز على الحروب التي دارت رحاها في بلاد اليونان . ومع أنه لم يكن على معرفة بتاريخ الحضاراتفقد شدد على دروس التاريخ بصفتها تقدم عبرا للأجيال المتعاقبة.
نشير هنا إلى الموسوعة التي نشرها وليم ديورانت في أحد عشر مجلدا صدرت تباعا ما بين 1935 و1975 تحت عنوان: "قصة الحضارة"، تناول فيها مختلف العناصر التي شكلت مرتكزات الحضارة في مرحلة ما قبل التاريخ المدون، وميز بين الحضارة والتوحش المدمر لكلما هو حضاري، وتوصل إلى استناج مهم مفاده أن الاستقرار يولد الأرضية الصالحة للإبداع، وأن على القادة العمل من أجل الانسجام الداخلي، والتفاعل الإيجابي مع الشعوب الأخرى عبر المثاقفة الحرة، وتبادل الخبرات الثقافية والإبداعية والعلمية والفنية وغيرها. ورأى أن النضال في سبيل الحرية لدى الأفراد والجماعات هو أرقى درجات الإبداع الثقافي والحضاري. وقدم تعريفا عاما للحضارة بأنها: " نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في الإنتاج الثقافي؛ فالحضارة تتشكل من أربعة عناصر: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. وهي تزدهر حين ينتهي الاضطراب والقلق".
نظام القيم في إطار التحدي الحضاري
تأثر تاريخ الحضارات في مرحلة الحداثة الكونية بصورة واضحة وعميقة بالاتجاهات الفلسفية التي انطلقت من أوروبا في عصر الأنوار، وحملت معها مقولات الحرية، والمساواة، والإخاء، والمواطنة، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، والديموقراطية. فتوسعت الفروع المعرفية لتاريخ الحضارات، وتعددت مناهجه واتجاهاته، والرؤى الفلسفية لفهمه وكتابته. وتضمنت النظريات الفلسفية والاجتماعية في فهم التاريخ الحضاري آراء عدد كبير ممن كتبوا في "فلسفة التاريخ". فركزت مقولاتهم النظرية على البعد الحضاري للإنسان كقيمة بذاته، وعلى علوم الإنسان، وحق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة وفي تقرير مصيرها دون تدخل خارجي، ورفض كل أشكال الاستبداد، والظلم، والقمع، والهيمنة، والتسلط.
وأطلق الفيلسوف الألماني هيغل على نظريته في فلسفة التاريخ صفة "النظرية الجريئة"، التي أسهمت في فهم التاريخ الإنساني بصورة أكثر عمقا؛ ففي كتابه "فلسفة الحق" - وبصورة أوسع في محاضراته في "فلسفة التاريخ "- لم يفسر هيغل التاريخ بقوانينه الخاصة؛ بل بمفاهيم فلسفية كالحرية، والمطلق، والروح، والجوهر. وأكد على أن القوة الدافعة لمسيرة التاريخ هي العقل؛ فالتاريخ - في جوهره - هو كفاح الإنسان ليحقق أمنياته البشرية إلى أقصى حد، وحين يطور الإنسان عمله يطور معه المجتمع الإنساني؛ لأن تاريخ الإنسان هو تاريخ الجهود المبدعة التي تغير رغباته ومواقفه. ومن خلال الإنتاج الجماعي يدخل الناس في علاقات بينية لا بد منها، ومستقلة عن الإرادة الفردية. وتتطور العلاقات الإنسانية مع تطور عقل الإنسان ومداركه.
ومع أن "فلسفة التاريخ " تختلف باختلاف منظِّريها، وأن نظرة الفلاسفة إلى التاريخ وطرق كتابته وتحليله تختلف بين حقبة زمنية وأخرى؛ فإنها تشدد على النظم العقلانية، والأخلاقية، والإنسانية. وهي شديدة الصلة بتطور تاريخ الحضارات السائدة، وما رافقها من ثورات علمية وصناعية، ومقولات فكرية وفلسفية متطورة بإستمرار؛ لذا تأثرت كتابة تاريخ الحضارات على الدوام بتطور الفكر العلمي والمفاهيم الفلسفية والأخلاقية والإنسانية، التي أسهمت مجتمعة في تطور تاريخ الحضارات على المستوى العالمي بوصفه الحافظ للقيم الإنسانية عبر العصور.
رأى شبنغلر في كتابه" تدهور الغرب "أن التاريخ لا هدف نهائيا له، وهو يعبرعن عدد من الوحدات الحضارية التي هي "كزهور الحقل تنمو ثم تندثر". وتندرج مقولته في إطار الفلسفة التأملية للتاريخ العالمي، من حيث صعود وانهيار الخلافات، والإمبراطوريات، والدول الكبرى بسبب كثرة النزاعات الداخلية والإقليمية والعالمية. والتحديات الراهنة التي تواجه كتابة تاريخ الحضارات على المستوى العالمي كبيرة ومعقدة، وبات التساؤل المنهجي الأهم - في ظروف احتدام النزاعات السياسية والدينية والعرقية والقبلية في التاريخ المعاصر- يتمحور حول إمكانية كتابة تاريخ الحضارات بصورة علمية دقيقة على قاعدة "التحدي والاستجابة". وأبرز تجلياتها القدرة على رسم صورة دقيقة لدور القيم الإنسانية والأخلاقية في إخراج الشعوب ذات الحضارات الإنسانية العريقة من الأزمات المزمنة التي تعاني منها اليوم إلى المشاركة الفاعلة مجددا في تاريخ الحضارات .
تجلى هذا الهاجس لدى شعوب ذات حضارات عريقة، وتتبنى القيم الأخلاقية الموروثة من تراثها الذهبي، وهذ ما قامت به دول كبرى تعرضت للاحتلال ثم نهضت على قاعدة الرد الإيجابي على التحدي الخارجي. وأبرز تلك الدول: اليابان، والصين، والهند، وألمانيا، وغيرها. ولدى الشعوب العربية نزوع شديد للنهوض مجددا على قاعدة القيم الأخلاقية والإنسانية، وإقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة.
لقد شكلت مقولة أرنولد توينبي:" التحدي والاستجابة"- التي بلورها من خلال مجموعته المهمةعن تاريخ الحضارات - عملا رائدا في فهم تاريخ الحضارات وكتابته على أسس موضوعية. وهي تبرز تاريخ الجماعات من خلال الثقافات التي أنتجتها. وتضمنت أعماله الأساسية صورة بانورامية عن تطور تاريخ الإنسانية من خلال نماذج حضارية بارزة، وتوصل إلى مقولات نظرية تؤكد أن التاريخ الحضاري هو التاريخ الحاضن للحضارات. وبعد أن اعتمد طريقة استقرائية لدراسة مجمل نشاطات الناس تبين له أن الحضارة وِحْدةٌ متكاملة وجديرة بأن تشكل موضوعا متكاملا للدراسات الحضارية. أما عزل الأجزاء المكونة لها بعضها عن بعضها الآخر فيقدم صورة مشوشة عن الحضارة. وعلى عكس حالة المجتمع البدائي، حيث كان يسود الركود والتكرار- تبدو الحالة الحضارية ناشطة وفاعلة وفي حركة دائمة . فمسيرة التاريخ - بحسب نظرية توينبي - تصدر عن التحول الدائم من حالة الركود إلى حالة التقدم الخلاق المولد لنمو الحضارات.
صدرت مجموعة أرنولد تويني بعنوان:" موسوعة تاريخ الحضارات" في اثني عشر مجلدا في الفترة ما بين 1934 و1961، وتناول فيها صعود وتراجع كل منها، وحلل بعمق الحضارات التي لعبت دورا ملحوظا في التاريخ العالمي، وتعدّ منهجية توينبي في تلك الموسوعة من أكثر المناهج العلمية تأثيرا في مجال تاريخ الحضارات، وكيفية نموها، والتفاعل فيما بينها، والمأزق الذي تمر به الحضارات عند انصراف أتباعها عن الإبداع، أو الجنوح نحو القوة التي تدمر رموزا لحضارات قديمة وموروثة، وتحد من قدرات شعوبها على التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى.
أطلق توينبي مقولته الشهيرة" التحدي والإستجابة"على قاعدة علمية صلبة، ترى أن الحضارة ذات طابع إنساني وشمولي، وهي تتوقف عن النمو والتفاعل الإيجابي مع الحضارات الأخرى عندما يؤول الأمر إلى قادة عسكريين يغلِّبون القوة العسكرية على القوة الحضارية الناعمة؛ فتنقطع صلاتهم بالحضارة الإنسانية، وتنزوي ثقافاتهم في خريف عمرها؛ لأن الحضارة لا يمكن أن تكون عنصرية، أو عرقية، ولا يمكن أن تفرض بالقوة على الشعوب الأخرى، وبخاصة الشعوب ذات الحضارات العريقة.
وَرَسَمَ سيرورة الحضارات الكبرى في مختلف حقب التاريخ مُعْتَمِدًا منهجية التأريخ للجماعات الحضارية الكبيرة. وتندرج منهجيته في كتابة تاريخ الحضارات ضمن محاولات كثيرة صدرت عبر مجموعات عدة بعنوان التاريخ العالمي، أو تاريخ الحضارات، أو تاريخ الأمم. وتذكر دراسته أحيانا نشأة الحضارات وتطورها ثم أفولها، بمنهجية ابن خلدون في رسم أطوار الدولة في زمانه، والتي قامت على العصبية القبلية أو الدينية. وأكد - في نظريته الرائدة عن "التحدي والاستجابة" - أن الحضارات العريقة لا تندثر؛ بل تبقى كامنة إلى أن تجد من يستفيد منها في بناء نهضة جديدة، تقوم على التوازن بين الأصالة أو الموروث الذهبي، والتفاعل مع الحضارات الكونية الجديدة أو المتجددة. فالحضارات في مرحلة ازدهارها تجد صعوبة في الاستمرار لفترة زمنية طويلة قبل أن تتقدمها حضارات أخرى. وشكلت الحضارات القديمة في تعاقبها المستمر ركيزة صلبة لنشأة وتطور الدولة العالمية ذات التأثير الفاعل في تاريخ الشعوب، وهي ترى اليوم أن ثقافتها الكونية بمثابة الوريث الشرعي لجميع القيم الأخلاقية والإنسانية.
وأسهب في تحليل الحضارات الكونية، والأديان الكونية، والتفاعل الكوني بين الحضارات في المكان وفي الزمان، وخصص حيزا واسعا للإجابة على السؤال المنهجي الأساسي: لماذا دراسة تاريخ الحضارات؟ وتوصل إلى استنتاج مهم مفاده: أنه عندما تتعرض الحضارة للتحدي المصيري وتستجيب له استجابة ناجحة، لا تقتصر النتيجة على تجاوز المحنة السابقة، بل تتولد لديها القدرة عل مواجهة تحديات مستقبلية. وبتوالي مواجهة التحديات باستجابات أكبر تنمو الحضارة، وتنمو معها قدرات الناس الداخلية، ويتحول الرد على التحدي الخارجي إلى الرد على التحدي الداخلي؛ للسيطرة على المشكلات المزمنة، وتحفيز الناس على المشاركة الفاعلة في حل مشكلاتهم. هكذا شكلت القيم الأخلاقية والدينية والإنسانية في التاريخ الحضاري نوعا من الإلزام المعنوي، بصفتها ضوابط إنسانية وأخلاقية تساعد على حماية أمن المجتمعات واستقرارها. وأبرز مظاهرها: الأعراف، والتقاليد، والأمثال الشعبية، والحكم، والوصايا الدينية، والأوامر والنواهي الأخلاقية. وأكدت النظم السياسية على أن الإنسان يولد حرا، وأن الشعب مصدر السلطات، وأن القوانين الوضعية يجب أن تحافظ على الحريات العامة والفردية، ونبه كبار القضاة إلى أن الأحكام يجب أن تراعي الضمير الإنساني. وأوصى علماء التربية بضرورة تهذيب السلوك الحضاري للأفراد والجماعات، وتدريس المواطنة، وروح الشرائع، واحترام الرأي الآخر، وكثير غيرها .
فالفضيلة تكتسب بالتعلم والممارسة، على قاعدة أن الخير الأقصى يكمن في حماية الإنسان بوصفه قيمة بذاته، والعمل على سعادته وتحقيق أمانيه في الحرية، والسكن، والعمل، والعلم. وجميعها فضائل اجتماعية تصنف في خانة حقوق الإنسان الطبيعية، التي يتبناها الحاكم الصالح على قاعدة مقولة كونفوشيوس: "إذا صلح الراعي صلحت الرعية". فالأخلاق نظام قيم يكتسبها الناس من خلال التعليم والممارسة، ويرثها الأفراد جيلا عن جيل، من طريق احترامها والتقيد بها لضمان أمن الأفراد والجماعات. علما أن تلك القيم كانت - عبر العصور - بمثابة سلطة إجتماعية رادعة تطبق بصورة تلقائية؛ فهي تحقق الانسجام، والتناغم، والتفاعل الإيجابي بين الأفراد والجماعات وفق ضوابط صارمة لا يمكن الخروج عليها. كما أن تجاهلها يعرض الفرد لعقاب صارم على غرار مخالفة التقاليد القبلية التي كانت تضبط شؤون القبائل والعشائر، ومنها تقاليد لا تزال مستمرة دون تغيير جذري منذ مئات السنين.
تُعدّ حماية المجتمع الإنساني إذن الهدف الأسمى للقادة الكبار، الذين طبقوا القيم الأخلاقية والإنسانية لضمانسلامة المجتمع، وحث أفراده على احترام التقاليد والعادات الإيجابية المتوارثة. والغاية من التطبيق الصارم لنظام القيم هو ضمان سلطة قادة المجتمع على الأفراد من جهة، وإعلاء شأن القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية الجامعة؛ لمنع الفرد من التحكم بالجماعة من جهة أخرى. كما أن نظام القيم الأخلاقية يمنع الجماعة من الاعتداء على جماعات أخرى، والدخول معها في حروب إبادة، أو ممارسة التسلط والهيمنة على مناطق جغرافية متقاربة أو متداخلة . لذا وضع المصلحون التنويريون قوانين صارمة تضبط أعمال الأفراد والجماعات، وتبقى سارية المفعول من جيل إلى جيل، ولا تتغير بتغير القيادات السياسية. وهي تبرز مدى تطور الذهنيات التقليدية في تحولها إلى سلوك اجتماعي، في إطار دولة عادلة يقودها حاكم سياسي متنور، يسعى إلى الارتقاء بمجتمعه التقليدي، ونقل الجماعات القبلية أو الطائفية أو العرقية إلى رحاب الدولة العادلة، التي تعتمد القوانين العصرية، وتقيم العدالة الاجتماعية على قاعدة المواطنة التامة، والمساوة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات . ولا تستقيم أمور الأفراد والجماعات في الأنظمة العصرية إلا إذا اعتمدت نظام القيم الأخلاقية والإنسانية الشمولية، التي تربي المواطن على الأخلاق والفضائل المكتسبة، وتؤمِّن للفرد حياة أفضل، وللجماعات السكانية الأمن والاستقرار والتفاعل الإيجابي مع الثقافات الكونية. وعبر الزمن التاريخي الطويل أو الممتد تظهر الشعوب الحية قدرتها على الممانعة، والصمود، ومواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها. فالحضارات الحية تشكل التاريخ الحافز والرافض للتبعية أولا، والقادر على التفاعل الحر مع الحضارات والثقافات الكونية من موقع الندية. أما الشعوب العاجزة عن الحوار المتكافئ فتفقد قدرتها على حماية حضاراتها أو التفاعل الإيجابي معها. فتسارع شعوب أخرى إلى استيعاب منجزات تلك الحضارة؛ لتدخلها في نسيج ثقافي إنساني شمولي؛ لتبدع من خلاله رافدا جديدا من روافد الحضارة الكونية . هكذا تبقى منجزات الحضارات الانسانية حية وعصية على الزوال أو الذوبان، ومستمرة في بناء التاريخ الكوني على أساس التفاعل الإيجابي بين جميع الشعوب، على اختلاف ثقافاتهم، وأنظمتهم السياسية .
أحدثت موسوعة تاريخ الحضارات نقلة نوعية في نشر مفاهيم جديدة؛ كالعقلانية، والمواطنة، والتعددية، والتنوع، والتراث الحضاري، والقيم الأخلاقية، والتسامح، والانسجام، والتصالح، والتعاون، والتكامل، والتفاعل، والمثاقفة وغيرها. وارتبطت بها مقولات نظرية إضافية كالمجتمع المدني، والديموقراطية، وحقوق الإنسان. وقدمت مادة غنية للدراسات العلمية الرصينة، والندوات والمؤتمرات المحلية والدولية، وأسهمت المفاهيم العلمية الجديدة في تطوير المقولات النظرية التي باتت محورية في الرد الحضاري على تحديات العولمة لفرض ثقافتها الكونية على الشعوب الأخرى. ورغم الإيجابيات الكثيرة التي رافقت النضالات التحررية، وما أنتجته من تبدلات ثقافية باتجاه الحداثة السليمة؛ تبدو الثقافة الوطنية مهددة اليوم في ركائزها البنيوية تحت وطأة ثقافة "القرية الكونية"التي تجتاح الثقافات الوطنية في الدول النامية.
وتنشر ثقافة العولمة مقولات إيديولوجية خاطئة واستفزازية حول صراع الحضارات، ونهاية التاريخ، والفوضى الخلاقة، وتسعى إلى إخضاع الثقافات العريقة قسريا، وإدخالها في سوقها الاستهلاكية. وهناك توجه سليم للاستفادة القصوى من ثمرات التقدم التكنولوجي العالمي، مع التنبه الشديد للجوانب السلبية التي ترافق عملية التغريب الثقافي التي تزيد من تخلف الدول النامية. وذلك يتطلب الانفتاح على الثقافات الإنسانية، والتطلع إلى المستقبل بنظرة تفاؤلية، وحماية كل ما هو إيجابي في تراث الشعوب، وإقامة مجتمع المعرفة وفق مقولات عقلانية تسهم في بناء حداثة سليمة على قاعدة العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة . ولا تزال مقولات الحرية والإبداع والقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية تلعب دورا بارزا على المستوى الكوني في توليد حضارة عالمية جديدة، تتفاعل بقوة في مختلف المجالات الثقافية، ولديها دور أساسي في توليد تاريخ إنساني يعيد ربط حاضر الشعوب بماضيها، ومشاركتها بفاعلية في الحضارة الكونية. فالحضارة الإنسانية هي حضارة كونية شمولية تساعد في الحفاظ على التراث الوطني، وبناء ثقافة كونية عقلانية جديدة، وعولمة أكثر إنسانية. كما أن سؤال التقدم هو نفسه سؤال الحفاظ على الإبداع الثقافي والحضاري في المستقبل،على قاعدة الإنجازات العلمية وحماية القيم الأخلاقية والدينية والإنسانية.
نظام القيم في إطار القوة العسكرية والقوة الناعمة
تأثرت منهجية تاريخ الحضارات كثيرا بالمدارس الاسشتراقية الغربية؛ فتجاهلت حضارات الدول النامية، التي لا تزال شعوبها أسيرة القيم الدينية والأخلاقية التي تنادي بالعدالة،والمساواة، وإنصاف المظلومين،ومساعدة الفقراء والأيتام والأرامل والمسنين.علما أن مفهوم الحضارة يتضمن أفضل ما أنتجته الشعوب،وما حققته الإنسانية في مجال المعرفة،والعقل،والإبداع.
وأثبت البحث العلمي أن حركة التاريخ الحضاري سيرورة مستمرة، تفسر صمود حضارات معينة في بعض الحقب التاريخية وانهيارها في مراحل أخرى، ويقدم صعود وانهيار النازية، والفاشية،ومختلف الديكتاتوريات العسكرية،والأنظمة التوتاليتارية خير برهان على غياب القيم الأخلاقية والإنسانية في الدول التي احتضنتها.كما أن اعتماد الثأر أو الانتقام من الهزيمة السابقة الذي تبنته ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى قاد إلى صعودها خلال سنوات قليلة، ثم أصيبت بهزيمة ثانية أكثر تدميرا من الأولى، ما دفع قادة ألمانيا وقادة اليابان بعد هزيمة الدولتين في الحرب العالمية الثانية إلى اعتماد القيم الإنسانية والأخلاقية وليس الانتقام العسكري، فبنت كل منهما قوة ناعمة مهدت الطريق لكي تلعب دورا بارزا في التاريخ العالمي. وما ينطبق على ألمانيا واليابان ينطبق أيضا على تاريخ الأمم ذات الحضارات الانسانية العريقة؛كالحضارة العربية في تحولاتها المستمرة .
وقد سلط المؤرخ العربي قسطنطين زريق الضوء على "معركة الحضارة وبناء المستقبل"، وأكد أن الفكر العربي المعاصر بحاجة ماسة إلى النقد العلمي الذي يبنى على الركائز التالية: العقلانية، والموضوعية، والنقد الحضاري، والعزم . ودعا إلى تحويل الخيار العقلاني والأخلاقي إلىقلق عربي شامل بالمعنى الإيجابي؛ فهناك شعور بالخوف والإحباط من عدم قدرة العرب على المشاركة النشطة في التاريخ الكوني،لا من موقع الخوف على ماضي الأمة العربية فقط؛ بل أيضا على حاضرها ومستقبلها كأمة عريقة، كان لها دور مميز في الحضارة الإنسانية.ومن واجب أبنائها استعادة ذلك الدور بفاعلية في المرحلة الراهنة. وأطلق رؤية مستقبلية تبرز دور القيم الأخلاقية والإنسانية في بناء المجتمع الفاضل والإنسان المتحرر:"ليكن لنا مستقبل،وليكن مستقبلا أفضل".
ليس من شك في أن تجاهل القيم الأخلاقية والإنسانية في زمن الإمبريالية وما أعقبها من رأسمالية متوحشة قاد إلى إفقار ملايين الناس في القارات الخمس. وقد انتشرت مقولات كثيرة تتجاهل القيم الأخلاقية والإنسانية، وأبرزها: نهاية التاريخ بانتصارالرأسمالية العالمية، وصدام الحضارات الذي يدمر جميع القيم الإنسانية، والفوضى الخلاقة التي تحرم الدول النامية من الأمن والاستقرار. ورغم الرد النظري الذي أثبت عدم علمية تلك المقولات، وأن التاريخ لن ينتهي، وأن الحضارات تتفاعل ولا تتصادم، وأن الفوضى لن تكون خلاقة ولن تسود العالم؛ فإن المسار الانحداري الراهن يشير إلى توقع المزيد من الحروب المحلية والإقليمية، التي تبرزحدة الصراع بين الدول الكبرى على النفوذ والهيمنة والاستغلال. وغالبا ما تتخذ الشعوب موقفا صلبا في الدفاع عن حضارتها، من خلال التمسك بتاريخهم الحضاري الذي يعدونه مصدرا من مصادر هويتهم. وهم يرفضون الانتقاص منه، أو الاعتداء عليه، أو تشويه معالمه. وهو موقف حضاري بامتياز إلا أنه يتخذ أحيانا طابعا صداميا في الدفاع عن الثقافة المحلية أو الحضارة الموروثة. لذلك انتشرت على نطاق واسع شعارات العودة إلى تراث الماضي في عصره الذهبي، وتولدت معها أنواع شتى من الإيديولوجيات العنصرية، وذلك يتطلب تعرية النزعة العسكرية التوسعية. ويدور اليوم حوار ساخن حول دور الشعبوية في تشجيع تلك النزعة، التي تعطي الشرعية للدول الكبرى في تجاوز مبادىء الأمم المتحدة والقوانين الدولية، وتتعارض مع جميع القيم الدينية، والأخلاقية، والإنسانية التي نادى بها مثقفو عصر التنوير في أوروبا. وهي لم تعجز فقط في ردع الدول الإمبريالية الأوروبية، - وبخاصة بريطانيا وفرنسا - عن استعمار مساحات كبيرة من العالم في القرن التاسع عشر؛ بل عجزت أيضا في ردع الدول الأوروبية عن خوض حربين عالميتين بقيادة فاشية ونازية وعنصرية متحللة من جميع القيم الأخلاقية والإنسانية.
ملاحظات ختامية
من نافل القول أن رؤية مؤرخي الحضارات للحروب المحلية والعالمية بصورة مقطوعة عن جذورها التاريخية، أوبتجاهل النتائج السلبية المدمرة لتلك الحروب على القوة الناعمة، التي تشكل التراث الإنساني الأصيل لدى جميع الشعوب: تعدُّ رؤية تعسفية. فلا يجوز عدّ الحروب المدمرة عملا عظيما، أو تاريخا إنسانيا يمكن الاعتزاز به. فلا بد من التنبيه إلى آثارها السلبية في العلاقة بين الشعوب. وليس من الحكمة تبجيل الإنتصار العسكري، أو الاعتداد بالقوة العسكرية في حال تم توظيفها لصالح نزعة توسعية استعمارية تترك آثارا سلبية للغاية على القوى التي استخدمتها. يكفي التذكير بالآثار السلبية لحروب نابوليون الأوروبية على فرنسا أولا، وحروب هتلر على ألمانيا، وأثر احتلال اليابان لدول الجوار الآسيوية على الشعب الياباني، والنتائج الكارثية - البشرية منها والمادية - للحربين العالميتين على الشعوب الأوروبية.
على جانب آخر، تقدم دراسة التاريخ العالمي في مرحلة الاستقلال السياسي نموذجا ساطعا على دور المقولات الحضارية في بلورةالأسئلة الكبرى لبناء التاريخ الإنساني. فقد ركزتعلى الجوانب الثقافية والمعرفيةوالتحررية والأخلاقية والإنسانية لفهم التاريخ الحضاري بعيدا عن مقولات الغرب الاستشراقية، وشدد مؤرخو الحضارات على ضرورة تعزيز الانتماء الإنساني في دولة عادلة، تسعى للحفاظ على الهوية الوطنية كشرط أساسي للحفاظ على التعددية والتنوع بين المكونات السكانية داخل الدولة العصرية.فأسهمت مقولات التاريخ الحضاري في حماية العيش المشترك،وتعزيز التفاعل الإيجابي بين جماعات سكانية متباعدةفي الأصول،والأديان،والأعراق.وتشكل الوحدة الوطنية الضامن الأساسي للتعددية السكانية والتنوع الديني والثقافي،بوصفه الركيزة الصلبة لبناء تاريخ حضاري بأبعاد إنسانية شمولية،وبناء نظام عالمي جديد على أسس أكثر إنسانية.فنجحت الدول التي أنجزت وحدتها الوطنية على أسس سليمة في الانخراط السلس في النظام العالمي الجديد من موقع المشاركة في تحديد معالمه الأساسية، كما فعلت الدول الكبرىذات الحضارات العريقة كالصين والهند.
تقدم موسوعات تاريخ الحضارات الكونية إشكاليات مهمةتدور حولالموضوعات التالية:
أولا :إشكالية دور القيم الأخلاقية في بناء السلوك الحضاريفالأخلاق هي العنصر الأبرز والأهم في مكونات الحضارة الإنسانية المستمرة منذ أقدم العصور، وتشكل العلوم،والفنون،والتقاليد الإيجابية،والنظم السياسية العادلة،وتكافؤ الفرص،والتوزيع العادل للموارد الاقتصادية،وحماية البيئة،والاعتراف بالآخر روافد للحضارة الإنسانية، التي هي أحوج ما تكون إلى عامل الأخلاق؛ لكي يدير حركتها،ويحافظ على انسجامها وتناغمها وتفاعلها.كما أن بناء الحضارة بحاجة إلى مناخ من الاستقراروالطمأنينة اللذين يسهمان في تحفيز العقل على الخلق والإبداع.
ثانيا:إشكالية الحفاظ على نظام القيم في حال التمايز بين الحضارة والثقافة
نبه بعض المتنورين إلى أن الحضارة والثقافة مفهومان مختلفان لكنهما متداخلان؛ فكلحضارة ترتكز إلى بنى ثقافية ايجابية، بالمقابلتعجز الثقافة المنغلقة على ذاتها عن التفاعل مع الحضارات الأخرى بوصفها إنسانية وشمولية.والحضارة سيرورة مستمرة تساعد المجتمع على الارتقاء نحو الأعلى .لذا يتعارض مفهوم الحضارة مع ثقافة المجتمع المتمسك فقط بعاداته وتقاليده الموروثة؛ الإيجابية منها والسلبية، ونظرًا لأنالنمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة سمتان أساسيتان من سمات المجتمع المعاصر،تشكل العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة،وثورات الإعلام والإعلان والتواصل،عاملا أساسيا في تطور المجتمع على مختلف الصعد التقنية منها،والذهنية،والسياسية،والأخلاقية.وهي ركائز مهمةللمعارف والسلوكيات التي تميز الأفراد والمجتمعات العصرية.وفي حال إنغلاق المجتمع على ثقافته الموروثة تحت ستار الحفاظ على الأصالة والتراث الذهبي،ورفض الإعتراف بثقافة الآخر وعدم احترام الرأي المختلف،تنحرف الثقافة عن أهدافها النبيلة،وفي طليعتها التفاعل الإيجابي مع الثقافات الأخرى. وهذا النوع من الثقافات المنغلقة على ذاتها يقود إلى تمايز واضح بين الحضارة والثقافة،كما يتجلى اليوم في عصر العولمة التي تشجع الثقافة الاستهلاكية الكونية،في الوقت الذي تدمر فيه ركائز الحضارات الإنسانية القديمة وقيمها الأخلاقية.
ثالثا:إشكالية تغييب نظام القيم في حال دمج الحضارة بثقافة سياسية منحرفة
برزت في التاريخ الحديث والمعاصرنخب ثقافية ترى أن الحضارة مفهوم إنساني شامل، يتفاعل مع الثقافات والذهنيات الأخرى؛ليرتقيبها إلى مستوى نظام اجتماعي إنساني متكامل. وتمتلك الحضارة الإنسانية ديناميكية متطورة باستمرار دون أن تنكفئ على ذاتها؛ نظرا للتأثير الدائم والمتبادل بين الحضارات والثقافاتفي القرية الكونية . ورفض المثقفون المتنورون من ذوي الاتجاهات الفكرية العقلانية والليبرالية والديموقراطية مقولة صموئيل هانتنغتون عن صراع الحضارات؛ لأنه اختزل الحضارة بأحد أبعادها؛ أي الدين، وعدّه جوهرا خالصا؛ لكي يبرر دعوته السياسية إلى صدام الحضارات بوصفه صراعاً بين الأديان.فدمج بشكل تعسفي الدين بالسياسة والسلوكيات الفردية والجماعية وفق مقولة خاطئة بالكامل؛ فالأديان تبشر بالقيم الإنسانية والأخلاقية،وترفض الثقافة المتحللة من القيم.وليست الأصولياتالدينية والقومية والعنصرية ظاهرة حضارية؛ بل ظاهرة تاريخية وسياسية عرفتهاشعوب كثيرة،وتركت آثارا سلبية على الشعوب والدول التي تبنتها. وتدعو العنصرية إلى ممارسات سياسية لا تمت إلى أي دين بصلة،ولا علاقة لها بالحضارة الإنسانية؛بل هي نقيض لكل ما هو إنساني وحضاري. وهي تمتهن كرامة الإنسانالآخر عبر ممارسات همجبة تهدر دمه،وتستبيح أرضه،وتدمر تراثه،وتهجرملايين الناس من مختلف الأديان والقوميات والمناطق.
رابعا: إشكالية ترسيخ القيم الحضارية في زمن الإيديولوجيا السياسية المعاصرة
تأسست السياسات الثقافية المتحللةمن جميع القيم الدينيةوالأخلاقية والإنسانية على إيديولوجيات عنصرية،تدمج بشكل تعسفي بين الحضارة والإيديولوجيا العنصرية.واستخدمت مقولات التمييز العنصريلتبرير هيمنة الثقافة المركزية الغربية؛ لفرض الاستغلال الخارجي البشع والمستمر على الموارد الطبيعية لدى الدول الفقيرة والنامية،والتحكم بمصير شعوبها في ظل عولمة همجية تتحكم بمسار التاريخ العالمي.
أخيرا،بعد جولة ثقافية ممتعة في تاريخ الشعوب ذات الحضارات العريقة يمكن التأكيد على أن البشرية تسمو بسمو حضاراتها. وغالبا ما تتراجع عدوانية الشعوب المنتجة للحضارة من خلال تمسكها بالقيم الأخلاقية.أما العدوان والتوحش -بالمفهوم الخلدوني- فلا ينبثقان من الحضارات الإنسانية الواثقة من قدرتها على الاستمرارية؛ بل من ممارسات عنصرية تتمسك بذهنيات موروثة أو"هويات قاتلة" وفق توصيف الكاتب أمين معلوف.وهي عصبيات متوحشة لم تبلغ درجة التحضر بالمفهوم الخلدوني،ولم تمارس الحضارة وفق خصائصهاالإنسانية .
وقد ردد مؤرخو الحضارات مرارا أن " شمس العرب سطعت على الغرب"، فأنتج حضارة عظيمة وثورات علمية وتكنولوجية وفلسفية، جعلت حضارة الغرب نموذجا وحيدا لتصنيف ثقافات عصر العولمة وحضاراتها.وعند قياس حضارة الشعوب على مقياس عصر العولمة نرى اليوم بوضوح تام أن شمس الغرب الأوروبي أفلت،وباتت أوروبا تلقب بالقارة العجوز، بعد أن فشلت في الحفاظ على قيمها الإنسانية والأخلاقية التي أطلقتها ثورات التحرر الكبرىفي أوروبا. في الوقت عينه تبدو حركية التطور التاريخي للمجتمعات النامية -في انتقالها من التبعية إلى الاستقلال،والسيادة الوطنية،وبناء مجتمع المعرفة بوصفه الرد الحضاري على تحديات العولمة- ضبابية إلى أبعد الحدود.
ختاما:أعطت مقولات توينبي في دراسة تاريخ الحضارات نموذجا متقدما عن تطور الحضارات، وما يرتبط بها من قيم أخلاقية وإنسانية في إطار الزمن التاريخي الطويل، الذي تتكامل فيه الحضارات الإنسانية بكامل أبعادها.وانطلاقا من التحليل العقلاني لدور القيم الأخلاقية والإنسانية في فهم تاريخ الحضارات،بات واضحا أن التفاعل بين الحضارات يلعب الدور الأساسي في الحفاظ على نظام القيم، الذي شكَّل رافعة قوية لنهضة الشعوب التي تعثرت في مسيرتها التاريخية.وبعد سلسلة طويلة من الحروب المحلية والإقليمية فقدت شعوب الدول المتطورة والنامية الكثير من قيمها الأخلاقيةوالتحررية. كما أن دولا شاركت في حروب الهيمنة والانتقام خضعت بدورها للاحتلال الخارجي كاليابانوألمانيا الغربية؛ لكن شعوبها حافظت على كثير من قيمها الإيجابية. فرفضت الدولتان العودة إلى مقولات العزلة،والتعصب العرقي،وبث روح الانتقام من الهزائم العسكرية التي لحقت بها، وتبنت مقولات عقلانية جديدة تدعو لنبذ العنف، واستخدمت القوة الناعمة للحفاظ على مصالحها،وتعزيز التسامح والإنسجام مع شعوب العالم،وبناء مجتمع المعرفة على المستوى الكونيبصفته الركيزة المستقبلية الصلبة للتاريخ الإنساني.وتحتل مقولات التضامن الإنساني، والوحدةالوطنية،والقوة الناعمة،والتعاون،والتكامل،وحماية المصالح المشتركة،والاعترف بالتعددية السكانية والتنوع الديني والثقافي واللغوي،المرتبة الأولى في سلم نظام القيم الإنسانية والأخلاقية الذي تتبناه دول كبرى كالصين والهند.وهي تساعد –مجتمِعَةً-على بناء تاريخ حضاري إنساني معولم يشكل ضابطا أخلاقيا وإنسانيا لمنع التكتلات الجغراسية، والشركات الاحتكارية الكبرى المتصارعة على النفوذ والهيمنة من جر العالم إلى حرب عالمية ثالثة تدمر العالم ومعه تراث الشعوب الحضاري الإنساني والأخلاقي بأكمله.