رية الخزيرية
يشهَد عالمنا انفجارًا تكنولوجيًّا مُسبِّبا الانفتاح الكبير على الثقافات والأعراق والديانات حتى أصبح العالم اليوم قرية صغيرة يسهل التواصل بها كجزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وهذا ما يسمى بظاهرة العولمة؛ والتي حملت معها تغيرًا في الأنظمة الثقافية والمعرفية والفكرية والسياسية والاقتصادية، وكان لهذا العالم المتشابك الأثر في أن تُولِد تحديا في حفاظ الثقافات والديانات على هُويتها.. يرد في هذا المقال أهم ما ذُكِر في مقال الكاتب مايكل بوس، والذي نُشِر بمجلة "التفاهم" تحت عنوان "الهوية الدينية والقيم العالمية الناشئة".
حيث يناقش الكاتب الهُوية الدينية، ويطرح تساؤلا؛ هو: هل هي عامل مُسهم في النزاع، أم في السلام؟ وللإجابة عنه ناقشه الكاتب من خلال ما ورد في إطار المؤلف صامويل هنتنجون الذي أكد -كنتيجة لردة فعل حدوث العولمة- حدوثَ الصراع بين الحضارات، وأبرز من خلالها عبارة لكاتب مشهور؛ هي: لا يُمكن أن نكون أصدقاء حقيقيين دون أن يكون هناك أعداء حقيقيون. وما لم نكره ما نحن لسنا عليه، فلا يمكننا أن نحب بالفعل ما نحن عليه". ويعني ذلك أن الطبيعة الإنسانية تميل إلى العداء، وظهور الأعداء هو الذي يشكل الهويات المختلفة.
ويرى الكاتب أنَّ الدين هو بمثابة أساس متين من الناحية النفسية، وبمثابة الدرع الذي يمكّن الثقافة من أن تدافع عن هويتها، ومن ذلك على وجه الخصوص الإسلام الذي يعاني من صراعات ومشكلات في التعايش السلمي مع الجماعات الأخرى. ويحلل الكاتب ذلك من وجهة نظر هنتيجتون بأنه ليس لديه معرفة عما إذا كانت هناك صراعات بين المسلمين مع حضارات أخرى عبر التاريخ، كما أنَّه يطرح تساؤلا حول أسباب العنف بين الجماعات المسلمة، ومن هنا نستنتج أنه لا يوجد لدى هينتجتون مجالات للتفكير في ثقافة السلام في الإسلام كدين وهوية للمسلمين، ويمكن إرجاع ذلك لسببين؛ هما: لابد من وجود الأعداء لتشكيل الهوية، والمشكلة التاريخية في التعايش السلمي في الإسلام التي لم يتم دراستها بكل دقة وحرص.
ومن هنا، يناقش الكاتب إطارَ هينتجتون في اتخاذ الإسلام كهوية إسلامية باعتباره نموذجا لإسهامات الأديان في صياغة ثقافة السلام. لكن على الرغم من اختلاف العقائد والمعتقدات الدينية؛ فإنَّ هناك اشتراكا في القيم والأخلاقيات وبالتحديد تلك التي تهم التعاملات بين البشر وهي بمثابة قيم عالمية. وليس بالضرورة أن يكون الإنسان متدينا حتى يستطيع أن يدرك أهمية ذلك؛ فقد أصبحت الدول في الوقت الحالي تعتمد على بعضها البعض، ودلل الكاتب بذلك على مؤتمر عقد في اليونسكو من منطلق أن هناك بعض النزاعات والحروب التي يمكن أن تحدث باعتبارها من المكونات الدينية ولتبرير بعض المصالح الاقتصادية. ولكن يمكن لهذا الدين ذاته أن يكون عونا لخلق ثقافة السلام وفك النزاعات، ويتمثل ذلك من خلال بعض القيم التي يحتويها الدين في (الكرامة الإنسانية، والانفتاح على الآخرين).
ومن ناحية أخرى، فإنَّ العولمة اليوم هي في غالبها العولمة الاقتصادية التي تحتل موقعا مهيمنا قسمت العالم إلى منتجين ومستهلكين، جاعلة الربح المادي والنمو المالي نصب عينها في حين أنها تفتقر للروحانية والقيم الأخلاقية. لذلك؛ كان من الضروري أن يكون لهذا المجتمع الاقتصادي إطار يحتوي على القيم والأخلاقيات المشتركة التي توجه التفاعل الإنساني والمعاملات بين البشر.
القيم العالمية الناشئة
هُناك توجُّه عالمي إلى توضيح القيم المشتركة على أن تكون وثيقة توفر إطارا أخلاقيا للتعامل البشري؛ باعتبارها حاجة عالمية توجه العلاقات مع بعضها البعض. وعلى الرغم من كونها منبثقة من أسس دينية، فإنها تتناسب مع الثقافات الدينية الأخرى ويمكن للأشخاص غير المتدينين اعتناقها؛ وهي كالتالي: كل إنسان يجب أن يعامل بإنسانية، وما لا ترغب أن يعاملك به الناس لا تعامل به الآخرين، وهذان المبدآن يقودان لعدة موجهات نظرية أخلاقية:
1- التزام بثقافة اللاعنف واحترام الحياة.
2- التزام بثقافة التضامن والتكافل والنظام الاقتصادي العادل.
وتعدُّ هذه الموجهات الأخلاقية ضرورية في عصر العولمة؛ كون العالم أصبح الآن يعتمد على بعضه البعض، ويتداخل في الأديان؛ لذلك كان من الواجب أن يستمد عقائده الدينية من مجتمعه الديني ليصبح ذا هوية دينية بيئة حتى لا يحدث تصادم ونزاع مع الأديان الأخرى وعقائدها.
استدامة الهوية الدينية
ويرى الكاتب أنَّ هناك انتقادا وُجِّه إلى الإسلام بأنه غير قائم على الاقتناع بالتعددية الدينية، إلا من خلال ما أبرزه بعض التقدميين الذين خرجوا عن الإطار الضيق والمحدود في الفكر التقليدي للإسلام، غير أن التاريخ الإسلامي قائم على قبول المشاركة الإيجابية والتعددية الدينية.
ويُمكن تفسير قدرة الهوية الدينية باستدامتها في ظل عالم متغير من خلال مبدأين:
- مبدأ الحركية: ويُقصد به ما يسمح لدين ما لأن يتفاعل مع الآخرين، وأن يضم إليه مفاهيم جديدة مع تقبله للنواحي الإيجابية لتحديات العصر الحديث، ومن الشاهد أن الإمبراطورية الإسلامية تطبق هذا المبدأ من خلال تفاعلها مع ثقافات وديانات أخرى وسماحها للديانات الأخرى بأن تعيش على أراضيها مع وضعها لبعض قوانين التعايش.
- مبدأ الاستمراية: ويقصد به أنَّ الهُوية الدينية للفرد متجذرة في نصوصه المقدسة وتقاليده الدينية ولها تبعات تأثير في نظرة الفرد للعالم وقضاياه تستمد من القيم المعتنقة والعقائد السائدة؛ لذلك فإنَّ أي هُوية دينية جديدة لابد أنْ تكون متماشية ومنسجمة مع فهم الفرد للدين الذي ينتمي إليه، وهذا يعدُّ مبدأ جوهريًّا وأساسيًّا في العقدية الإسلامية.
مداخل إلى التعددية الدينية
وتعدُّ التعددية الدينية من المجالات ذات الدراسات الواسعة في المسيحية لمعرفة موقع الأديان الأخرى في العالم؛ وبالتالي فمن المهم مقاربة الدراسات التي أجريت في المسيحية وفي الإسلام؛ حيث إن الأبحاث اللاهوتية تركز على بناء علاقات ثقة وتعاون بين مجموعة متنوعة من المعتقدات. لذلك، نجد المسيحية تحاول إيجاد صيغة تعاون إيجابي مع أفراد خارج مؤسسة الكنيسة، في حين أن الإسلام تناول قضية الأديان الأخرى وعزز إمكانية تكوين علاقات مع غير المسلمين؛ لأن القيم العالمية تمثل رغبة متنامية للاستفادة من القواسم المشتركة والعامة التي تربطنا جميعا ضمن إطار التعددية.