رية الخزيرية
في دراسة الدين واقعة اجتماعية، لابد من عدم فصل المعرفة العلمية للظاهرة الدينية وإنتاج التدين عن التغيرات الاجتماعية؛ لأنَّ التفاعل الذي يحدث بين العلوم الاجتماعية مع العلوم الدينية يظهر لنا حقيقة تطور التاريخ الديني. وهذا ما يُؤكده مقال الكاتب حمد الإدريسي والذي نشرته مجلة التفاهم بعنوان "ﺳﻮﺳﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺎ الدﻳﻦ أم ﺳوسيوﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻤﻌﺘﻘدات اﻟدﻳﻨﻴﺔ؟ ﻓﻲ دراﺳﺔ اﻟظﺎﻫﺮة اﻟدﻳﻨﻴﺔ اﻟﻤﻌﺎﺻﺮة".
أوضح الكاتب أن العالم الفرنسي (هنري كوين) أشار إلى أن سيسيولوجيا المعتقدات الدينية حساسة وأكثر عرضة لقراءاتها من التخصصات المختلفة في العلوم الاجتماعية والتي منها علم الأنثروبولوجيا، بينما علوم الاقتصاد والعلوم المعرفية هي الأقل في هذا.
وينطلق الكاتب في دراسة العلاقة بين الدين والتدين من منظور السيسيولوجيا المعاصرة في إطار التخصصات المختلفة (العلوم الاجتماعية-الفلسفة- العلوم النفسية) حيث إن التغيرات الكونية التي تحدث في مجال التدين الإنساني كانت تفرض الوقوف عليها باعتبار أننا جزء لا يتجزأ من هذا (العالم التديني) ومن ثم تطرق الكاتب إلى النماذج العلمية لدراسة المعتقدات الدينية.
يرى الكاتب أن العلوم الاجتماعية نظرت إلى قضية المعتقدات الدينية باعتبارها واقعة اجتماعية؛ حيث إنه عندما نسأل فردا ما دينك؟ فإننا نسأله عن ماهي طريقة حياته وعيشه؟ أي أنه يعبر عن نظرته لذاته وللعالم من خلال معتقده لذلك فالمعتقدات الدينية تعد تحديا أمام السيسيولوجيا.
ويأتي مفهوم الاعتقاد اللغوي وفق ما أوضحه الكاتب أنه لا نعتقد أنّ اثنين في اثنين يساوي أربعة؛ فهذا يأتي بالخبرة وقدر بسيط من المعرفة. وكذلك عندما نقول بأنها ستمطر غدا؛ فهو يخلو من اليقين. وأشار الكاتب إلى أن هناك اختلافا بين كلمة اعتقد واعتقاد فدلالة اعتقاد بأن الله موجود، واعتقد في الله أي معنى أني أثق به.
يظل الدين والمعتقد الديني موضوع تفاعل ونقاش بين العلوم المختلفة، وهنا يناقش الكاتب تساؤلا مهما: هل نحن أمام تخصصات متعددة أم تداخل تخصصات لمناقشة قضية متعددة ومركبة؟ فهناك أنثروبولوجية (فيورباخ) ونفسية (فرويد) وسوسيولوجية (دور كايم) واقتصادية (ماركس) رغم أنَّ العديد من هذه المقاربات خلطت بين الدراسة العقلانية والنقدية لدراسة الظاهرة التدينية. وعلى سبيل المثال فإنَّ الماركسية تنظر إلى الدين كوضعية اجتماعية عرضية وبنية فوقية تزول بمجرد زوال النظام الرأسمالي والعودة إلى النمط الاشتراكي، ويعنى ذلك بأن (المؤسسات الدينية سوف تزول بمجرد تبينها للتفسيرات المادية والتاريخية).
وأوضح الكاتب بأن سيسيولوجيا التدين ردت اعتبارها من خلال دورها في التركيز على دور الدين في فهم التغيرات في المجتمعات المعاصرة وتطورها من خلال الاهتمام بأهمية الدين في تشكيل وبناء الأداء الاجتماعي. ومن الجدير بالذكر، أن التفكير الاجتماعي ساهم في إثراء المعتقدات الدينية وجعلها موضع تفسير وتحليل وفهم علمي وإصدار إنتاجات علمية على أن تكون مرجعية دينية مهمة في هذا العالم المتشابك والمعولم.
ويظل التساؤل المطروح هنا عن المعرفة الدقيقة لما يقوله الفرد بأنه يعتقد في شيء ما أو عندما يصرح بأنه لا يعتقد في أي شيء؟ ويواصل الكاتب طرح مجموعة من التساؤلات منها: كيف نفسر عودة بعض أنواع التدين والمعتقدات الدينية خاصة المجتمعات العربية (السلفي – الفردي)؟ أو معتقدات (التدين المتطرف)؟ وكذلك الحركة الدينية التي تهدف إلى التعايش مع المعتقد الأجنبي؟
وكيف يمكن الحديث عن إمكانية دراسة المعتقدات الدينية مع احترام الخصوصيات الدينية للدين نفسه؟
فمن الناحية السيسيولوجيا هناك مقترح لدراسة الدين من خارج المعتقدات الدينية بل من خارج الدين نفسه؛ فقد اقترح جان بول ويليم تصورا اجتماعيا لتدين باعتباره تواصلا منظما عبر طقوس ومعتقدات مرتبطة بإعادة تأسيس النبوة أو الرسالة التي كانت تمثل التأثير القوي.
فمن الآثار الاجتماعية التي تظهر بتأثير الدين هو ما يتعلق بما ينزله الوحي من إشارات ورموز منبثقة من الكتاب المقدس والذي تتولد الثقافة منه وتستند عليه، وبهذا تصبح المعتقدات الدينية نشاطا تقليديا رمزيا، حيث يصبح الدين مقترنا بكل ما يخبرنا به النبي بما يوجد في الكتاب المقدس. من ناحية أخرى تتسم العوالم الدينية بما يسمى بالتركيب والانفلات، وذلك يعني أن المعتقدات الدينية لا ترجع بالضرورة إلى قناعات أو رؤى اجتماعية أو أفراد معينين يدافعون عنها بل تعد إرثا ثقافيا وحضاريا ورهانات سياسية واقتصادية حيث إنَّ النبوة هي التي تصنع الحضارة الإنسانية.
إن سيسيولوجيا المعتقدات الدينية مقترنة بالروابط الاجتماعية والتي كان امتدادها من الدين بما فيها التضامنات والانتماءات، وهذا في حد ذاته (عقيدة) حيث إن أشكالها التدينية لا تأتي بنمط الاعتقاد الرسمي؛ أي أنه غير مؤسسي بل هو مجتمعي، وبلغة ماكس فيبر يصبح المعتقد هو (طريقة التصرف داخل المجتمع)، بل إن هناك معتقدات دينية مختلفة داخل المجتمع الواحد وتفضل بعض المعتقدات عن الأخرى.
ويطرح الكاتب هنا تساؤلا " كيف تساهم سيسيولوجيا المعتقدات الدينية في فهم ورصد التنوع والاختلاف المعتقدي داخل نفس العوالم الدينية وبين بعضها البعض؟
ويمكن تفسيرها من خلال ثلاثة مستويات وهي: الفاعلون، والتنظيمات، والآيدولوجيات. من حيث الفاعلين، فهي تركز على النشاط الديني كنشاط اجتماعي، يربط بين الأفراد وعلاقاتهم، أما على المستوى التنظيمي فهي تنظر للدين كجهاز مستمر وصالح بكل زمان ومكان، في حين إنَّ المستوى الأيديولوجي يرى أن الدين مجموعة من الممارسات والتمثيلات المعروفة والتي ترجع لنص محدد.
السيسيولوجيا يجب عليها أن تقارب بين المعتقدات الدينية من خلال الاهتمام بالفاعلين الأساسين في نشر وبث المعتقدات الدينية، وطبيعية العلاقات والتفاعلات التي تنشأ بينهم من خلال التدين الرسمي أو غير الرسمي.
من ناحية أخرى يرى الكاتب بأن المعتقدات الدينية في العلوم الاجتماعية تتداخل بها الفرضيات والأطروحات والتي تنصب في ضرورة تجديد الحوار المتداخل بين تخصصات العلوم الاجتماعية في دراسة الظاهرة الدينية المعاصرة والمتعلقة بدراسة تطور الظاهرة الدينية واشتباكها في عالم اليوم.
ويظهر التاريخ مجموعة من الأسباب الكامنة وراء استمرار قوة الاعتقاد والتي قد تكون فقدت قيمتها أمام التطور الفكري والتقني حيث إن هناك حقيقة يقينية وقطعية تكتسب قيمتها من خلال السياقات؛ فنجد أن هناك مجموعة من الأشخاص يعتبرون أشياء متناقضة على أنها حقيقة ويكون لنفس هؤلاء الأشخاص تمسك بمعتقد معين في موضع ورفضه في موضع آخر، أي أنهم يتكيفون ويكيفون أنفسهم حسب الظروف.
ويرى نيتشه بأن الحقيقة كقيم ليست مرتبطة بالعقلانية العلمية أو التجربة بل مثلما يجدها دور كايم تعتمد على الوعي المجتمعي أي ما يتفق عليه الأفراد بكونه صائبا وحقيقيا، وبالتالي نجد أن مجموعة من الأفراد لا يشعرون بالراحة والاطمئنان في معرفة الحقيقة إلا بالمنطق والعقل والتجربة لكنهم في مقابل ذلك يجدون الراحة والاطمئنان، ويكونون راضين بالأساطير والنصوص المقدسة وأقوال السلف.
من هنا نجد بأن الأنثروبولوجيا تساعد على معرفة كيف يمكن أن تتعايش الحقائق الدينية مع الحقائق والوقائع العلمية؟ ويطرح الكاتب هنا مثالا على ذلك: يمكن أن يعتقد الأنثروبولوجي بأن عيسى لم يصلب وأنه ليس ابن الله ويمكن أن يقرأ القرآن ويعتقد بأن التوراة والانجيل كتب محرفة، أو يمكن أن يحضر قداس الأحد ويشرب النبيذ الأحمر معتقدا أنه لحم ودم المسيح.
وبالنهاية فإن المعتقدات الدينية وكيف يمكن دراستها سيسيولوجيا بالاتفاق بأنها متعددة ومتعارضة ومتداخلة وإن دراستها تحتاج إلى تجديد الحوار بين تخصصات العلوم الاجتماعية ومختلف العلوم الإنسانية.