زينب الكلبانية
أسهمت الفلسفة في التعقيد النظري للدولة وتأسيسها من خلال البحث عن ماهيتها، وتحديد جوهرها، والأهداف من وراء قيامها ووجودها. وكل مُحاولة للتقعيد تدخل في علاقة جدلية مع الفكر الفلسفي والسياسي، وما دام الجانب النظري منوطاً بالفلسفة؛ فإنها تعمل على النقد والتأسيس بالعودة إلى تاريخ نظرية الدولة من الناحية الفلسفية. وهذا ما ناقشه الباحث محمد بن يونس في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم".
وأضاف في حديثه أنَّ الفلسفة قد انقسمت إلى قسمين، بين فلسفةٍ تبحث عن الأسس الذاتية للدولة من داخلها، وأخرى تعمل على ربطها بما وراءها، وقد ترتب على ذلك حوار بين الأفكار بناءً على التناقض الحاصل بين النظريات في محاولة تحديد الهدف من وجود الدولة؛ فدخلت كل فلسفة في جدال ونقد مع فلسفات أخرى، لا مجال فيها للأمور الشخصية، أو العلاقات الاجتماعية، ولا ينبني فيها النقد على الخوف مما قد يؤول إليه الناقد من نقده.
وقد نتج عن هذه الجدلية بين الأفكار الفلسفية نظرياتٌ سياسية عملت على تجاوز التناقضات، والوصول إلى تركيب قد يحتوي التناقض، ويؤلفه في وحدة تلغي الكثرة وتنطوي عليها، أو تؤسّس نظرية تُحْدث قطيعة مع سابقتها. فما الدولة التي دافع عنها "عبد الله العروي"؟ وما مقوماتها وخصائصها؟ وعلى ماذا يجب أن تتأسس نظرية الدولة لكي تكون فعّالة ولوجودها معنى؟ ولماذا الاختلاف بين النظريات؟ هل مردُّ ذلك لطبيعة الدولة أم للأفق الذي يسعى إليه كل فيلسوف؟
حاول عبد الله العروي أن يُحدد الإطار العام لنظرية الدولة، التي تهتم بتحديد ماهيتها بناءً على الأهداف التي تسعى إليها؛ إذ تقوم بربط ماهيتها بالهدف من وراء وجودها، وهذا الهدف جعل من الدولة "وسيلة في خدمة ما سواها". وبذلك يتم تحديد الإطار العام، الذي يهتم بتحديد ماهيتها بناءً على الأهداف التي تطمح إليها الدولة من داخلها، أما في حالة البحث عن هذه الأهداف فيما وراء الدولة؛ فإنَّ النتيجة هي استحالة "نظرية الدولة – بالمعنى الدقيق للكلمة – في مثل هذا الاتجاه".
لقد انقسم الفلاسفة وأصحاب الفكر بين من جعل الدولة مجرد وسيلة، وبين من جعلها هدفاً؛ فهناك من جعل ماهية الدولة تتحدد خارجها، وما على الدولة إلا أن تسعى إلى تحقيقها، مادام الأمر لا يتوقف عليها وإنما يتحقق من ورائها. كانت النتيجة هي: أنَّ الهدف ليس الدولة؛ وإنما ما وراء الدولة، يقول عبد الله العروي: "نبدأ بعرض مقالتين كان لهما تأثير كبير في مجرى التاريخ البشري، ولم تُعطِ أية واحدة منهما استقلالا كافيا؛ لكي تهيئ تربة فكرية لنشأة نظرية الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة"، ومن ثمَّ "لم تمنع هذه العقبة المنطقية البديهة أغلبية الكُتاب الذين عالجوا الموضوع من وضع هدف الدولة وخارجها؛ فكانت النتيجة أن مسألة الدولة لم تدرس جديًا، إلا مع عدد قليل من المُفكرين.
سوف نبدأ بالمقالة الأولى أو النظرية الأولى، ونسمي الدولة التي تدعو إليها "بالدولة الأخلاقية"، ومبرر ذلك ما يقوله عبد الله العروي من أن "القيمة – كل القيمة – في الأخلاق؛ أي في الوجدان الفردي. الدولة الفاضلة هي التي تربي الفرد على الاستغناء عنها، وتوجهه لخدمة ما هو أسمى منها" تتحدد غاية الدولة الأخلاقية بالحياة الأبدية، ولا ترتبط بالواقع المعيش أو الحياة الدنيا؛ إنها دولة تعمل على خلق الاستعداد لدى الفرد من أجل طلب ما يتجاوزها؛ أي المدينة الفاضلة إلى جانب الحياة الأبدية. يوجد البديل دائماً خارج حدود الإنسان، وما على الفرد إلا ترتيب وجدانه وتهيئة نفسه، والعمل على تطهيرها مما يناصب العداء لها، خصوصًا الجانب الحيواني؛ لأن "نطاق الدولة باستمرار الحياة الحيوانية في الإنسان. إذا رفضت أن تبرحه فهي شريرة".
أما النظرية الثانية فهي "الدولة الطبيعية"، فإذا كانت الدولة الأخلاقية تقوم على رفع التناقض الحاصل بين الجانب الحيواني والجانب الأخلاقي في الإنسان، دولة ينتفي فيها الصراع والتناقض إلى التساكن والاطمئنان؛ فهي الدولة الطبيعية. وكان الهدف من وراء الدولة الطبيعية "المعرفة والرفاهية والسعادة".
تتأسس الدولة الطبيعية على الانسجام لا على التناقض، وتقوم على التعاون بين الأفراد، بالاستناد إلى ما تقدمه الطبيعة من خيرات، ويقتضي تعميم الخيرات تعاون الجميع؛ لأن الدولة الطبيعية تخدم المجتمع بقدر ما يخدم المجتمع الفرد العاقل: تنظم التعاون، وتمهد طرق السعي، وتشجع الكسب وطلب العلم. المطلوب منها بالأساس الحفاظ على الأمن في الداخل والسلم في الخارج؛ أي رد العنف اللامعقول مادام له أثر بين البشر.
يرى عبد الله العروي أنَّ الفساد ليس من الطبيعة أو النظام، وإنما مرده إلى الإنسان؛ فإذا حصل تناقض فلسبب غير طبيعي، ناتج عن خطأ إنساني متعمد، وفي تلك الحال تنشأ الدولة الاستبدادية الظالمة، الدولة إما طبيعية وهي صالحة، وإما فاسدة لأنها غير طبيعية.
تعرضت المقالة الأولى والثانية لمجموعة من الانتقادات، ونصبت أمامهما مجموعة من الاعتراضات، والعديد من التحديات؛ ففي المقالة الأولى والثانية، كانت الدولة مجرد وسيلة لصالح غاية السعادة الفردية، أو لصالح الانسجام والتكامل الاجتماعي، في حين عملت النظرية الجديدة للدولة على تجاوز هذا الادعاء بالخصوص، إلى وضع الدولة موضع الغاية، وكل الأمور الأخرى توصل إليها، أو في مستوى آخر تتوحد في الدولة باقي المجالات.
أصبحت الدولة تُشكل الوحدة التي تشمل التعدد وتحتوي مختلف الاختلافات، ومن ثم لم نعد نتصور إمكانية قيام غاية أخرى مقام الدولة أو تعمل على تعويضها، ولهذا تعمل كل المجالات لصالح الدولة كأفق لتحقيق وتجسيد مختلف النواحي، التي تتضافر مجتمعة، كل واحدة من جهتها لصالح وحدة الدولة بوصفها الغاية لكل غاية. ومن يظن أنَّ حقيقة الدين أو حقيقة الفلسفة تسمو على حقيقة الدولة فهو خاطئ؛ لأنه يرى الأمور بمنظار الإعقال، وهو منظار تجزيئي تسطيحي، ولو كان تعمّق في الأمور ورآها بمنظار العقل الشمولي؛ لأدرك أن مفهوم الدين هو مفهوم الفلسفة مصورا ممثلا، وأن مفهوم الفلسفة هو مضمون الدولة ملخصا مجردا، وأخيرا فإن مضمون التاريخ مجسد في الدولة.
وهكذا نصل في الختام إلى أهمية السياسة على حساب الأخلاق والمجتمع والفرد، أو ما يهم هو التأسيس السياسي للدولة، والتي تم إهمالها لصالح أهداف أخرى. ليس بهذا المعنى أن السياسة سوف تكون هدفا للدولة؛ وإنما هي الوسيلة الأفضل لجعل الدولة هدفا سياسيا، تسعى وتعمل على تحقيقه وتجسيده. وما يلفت النظر في مختلف النظريات التي تم عرضها هو أن الدولة قد تُعد هدفا في بداية تأسيسها؛ إلا أنها تتحول بعد ذلك إلى مجرد وسيلة، ومادامت نظرية الدولة تتسم بالتطور والتقدم؛ فإنَّ جدلية الوسيلة والهدف لم تحسم بعد؛ إذ هي باقية ومستمرة باستمرار تقدم النظريات وتطورها، ومن ثم ما يجب أن يكون هو أن تعمل جميع المجالات فيما بينها داخل الدولة؛ لتطويرها من الداخل؛ أي دولة تستوعب جميع التناقضات داخلها وتوظفها لبقائها وتطورها.